ثمة حوادث لافتة للنظر، تحدث تزامناً مع المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة التي انطلقت في فيينا في الثاني من الشهر الجاري، وهي مستمرّة. فالثلاثاء الماضي، تعرّضت سفينة "إيران سافير" إلى هجوم في البحر الأحمر، والأحد، تزامناً مع وصول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى إسرائيل، تعرضت منشأة "نطنز" النووية الإيرانية، وهي أهم منشأة لتخصيب اليورانيوم في البلاد، لهجوم.
حتى الآن، ليست واضحة طبيعة العمل "التخريبي" الجديد في "نطنز"، فإيران تتحدث عن خلل بشبكة الكهرباء بالمنشأة، مما تسبب بقطعها عن جزء منها، مؤكدة أن الخسائر ليست كبيرة وأنها ستتداركها سريعاً وتستبدل أجهزة الطرد المركزي المتضررة بأخرى هي الأكثر تطوراً، مع الحديث عن أن عملية تخصيب اليورانيوم بالمنشأة "لم تتأثر ومستمرّة". لكن وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية تقدّم رواية أخرى عن الحادث، فزعمت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية نقلاً عن مصادر استخباراتية، وقوع انفجار قوي أدى إلى تدمير نظام الطاقة الداخلي، مشيرة إلى أن استئناف إنتاج اليورانيوم في "نطنز" قد يستغرق تسعة أشهر.
علماً أن الهجوم، أياً كان شكله، هو الثالث من نوعه الذي تتعرض له "نطنز"، فالهجوم الأول كان عبر إرسال فيروس "ستاكس نت" إلى أجهزتها عام 2010، الذي صُنّف على أنه أخطر فيروس عسكري، والهجوم الثاني تم خلال يوليو/تموز الماضي، حيث دمّر انفجار صالة لتجميع وإنتاج أجهزة الطرد المركزي المتطور، قبل أن تعلن إيران السبت الماضي إعادة بنائها، قبل يوم من الهجوم الثالث.
من الواضح أن الاستهداف الأخير لم يكن بسيطاً، وهو جاء في توقيت حسّاس وسياقات متعددة ومتداخلة، والأهداف تتعدى إحداث مجرد عطل في منشأة "نطنز". فلجهة التوقيت، وقع الحادث بعد يوم من قيام إيران بالكشف عن "133 إنجازاً نووياً"، في اليوم الوطني للتقنية النووية، وإعادة بناء ما تدمّر في الهجوم ما قبل الأخير، كما أن الاستهداف جاء أيضاً في خضم المباحثات النووية المستمرة في فيينا، بغية إيجاد حلول لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
من المستبعد إلى حدّ كبير أن تكون الولايات المتحدة غير مطلعة على الهجومين على السفينة الإيرانية و"نطنز" قبل وقوعهما، في حال كانت إسرائيل وحدها من خطّط لهما ونفّذهما
بمعزل عن هذه المباحثات، فالعملية التخريبية تحمل عدة رسائل، لعلّ أولها، أن الجهة أو الجهات المخططة لها، أرادت التأكيد أنها تتابع عن كثب أمنياً واستخباراتياً البرنامج النووي الإيراني، وأنها في وقت تراه مناسباً، يمكنها تنفيذ مثل هذه العمليات، بغية تعطيل هذا البرنامج أو إحداث خللٍ جادٍ فيه. ويؤشر إلى ذلك، اختيار هذا التوقيت لاستهداف المنشأة من جديد، إذ لا يبدو أن العملية حدثت صدفة بعد يوم من كشف إيران عن إنجازاتها النووية الجديدة، وإعادة بناء ما تدمر سابقا في "نطنز"، بل كان مخططاً لها بعناية، وكان التنفيذ في هذا التوقيت محسوبا ومقصودا.
والرسالة الثانية هي التأكيد أن هناك "خطوطاً حمراء" في البرنامج النووي الإيراني، وضعها الطرف أو الأطراف المنفذة لهذه الهجمات، وهي عدم تخطيه مستوى محدّداً من القدرات، لاسيما في مجال تخصيب اليورانيوم. وعليه، قد جاء بالأساس الاتفاق النووي عام 2015، بعدما تجاوزت طهران هذه الخطوط الحمراء الإسرائيلية والغربية، عبر إنتاج اليورانيوم بدرجة نقاء 20 في المائة لأول مرة، فشعر الغرب بخطورة الوضع واقتراب البرنامج النووي الإيراني من عتبة "الاختراق النووي"، واختارت الولايات المتحدة وأوروبا الدبلوماسية والاتفاق النووي لإبقاء هذا البرنامج تحت مستوى هذه الخطوط.
لكن الخيار الدبلوماسي فقد مفعوله للإبقاء على هذا الوضع، بعد حالة شبه انهيار طاولت الاتفاق النووي والخطوات النووية التي اتخذتها طهران خلال السنوات الأخيرة، رداً على تداعيات الانسحاب الأميركي منه، وبالذات على صعيد تخصيب اليورانيوم ورفعه إلى 20 في المائة خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتهديد بتجاوز النسبة إلى 60 في المائة، وكذلك على ضوء تراجع الآمال بالدبلوماسية لإحياء الاتفاق، على الرغم من استئناف المباحثات لصعوبة التوفيق بين الموقفين الأميركي والإيراني المتباعدين للوصول إلى حلول وسط، وذلك بعد الإصرار الإيراني على إلغاء جميع العقوبات مرة واحدة، وبشكل كامل، قبل العودة عن الخطوات النووية والرفض الأميركي لهذا المطلب، والتوجه لتحصيل تنازلات نووية كبيرة من إيران، مثل وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة مقابل رفع جزئي للعقوبات.
بالتالي، في ظل الصعوبات آنفة الذكر، يبدو أن الطرف الآخر بات يتجه لاستخدام الأساليب الصلبة بدلاً من الناعمة، في مواجهة تطوير البرنامج النووي الإيراني ومنعه من تجاوز عتبة "الاختراق النووي"، وهنا ليس شرطاً أن يكون هذا الطرف هو إسرائيل فقط، فالمخاوف لديها هي المخاوف نفسها لدى الجانبين الأميركي والأوروبي أيضاً.
أما عن علاقة الاستهداف الجديد لنطنز بمفاوضات فيينا، فالقراءة الرئيسية لدى وسائل الإعلام والمراقبين، أن العملية التخريبية تهدف بالأساس إلى إفشال المسار الدبلوماسي الذي أطلقته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع إيران لمعالجة الأزمة، والمباحثات في فيينا، وهنا يوجه أصحاب هذه القراءة أصابع الاتهام لإسرائيل، باعتبارها الجهة الأكثر معاداة لهذه المباحثات والاتفاق النووي. وهذه القراءة أيضاً، هي التي تتبناها الحكومة الإيرانية، فتصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف ورئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي خلال اليومين الأخيرين تؤكد وجود هذه المقاربة.
أما بغض النظر عن مدى وجاهة هذا الرأي، فإذا سلّمنا بأن إسرائيل هي الجهة الوحيدة التي خططت ونفذت الهجوم على سفينة "إيران سافيز" الثلاثاء الماضي، وكذلك العملية في "نطنز"، فمن المستبعد إلى حدّ كبير أن تكون الولايات المتحدة غير مطلعة على هذه الهجمات قبل وقوعها. ففيما يتعلق بموضوع السفينة، أوردت وسائل إعلام أميركية أن الحكومة الإسرائيلية أعلمت الإدارة الأميركية بالهجوم قبل تنفيذه. وعليه، على الرغم من خلافات بين واشنطن وتل أبيب على طريقة مواجهة إيران، يُستبعد قيام إسرائيل بهذه الخطوة لأجل إحراج الإدارة الأميركية وإفشال مباحثاتها مع طهران، فالمتابعون للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، يعرفون جيداً أنه في القضايا الأمنية الكبرى، وخصوصاً في الشأن الإيراني، هناك تنسيق كامل بين الطرفين، ولا يتصرف طرف بمعزل عن الآخر، ومن دون التنسيق معه. كما أنه مهما بلغت الخلافات الأميركية الإسرائيلية، فليس وارداً أن يقوم الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة الفجة، بمعاقبة الولايات المتحدة، وهي أكبر دولة داعمة له في العالم، على تبنيها الخيار الدبلوماسي مع طهران، بينما هو يستضيف وزير دفاعها.
وبناءً على ما سبق، فالاحتمال الجاد الآخر هو أن الولايات المتحدة، من خلال منح الضوء الأخضر للجانب الإسرائيلي أو الموافقة على تصرفه هذا أو المشاركة فيه، أرادت أولاً نزع أهم أداة ضغط للجانب الإيراني في المباحثات الدائرة معه في موضوع تخصيب اليورانيوم، وثانياً إيصال رسالة لطهران مفادها أنه إذا لم تتجاوب مع الحلول الدبلوماسية التي تريدها واشنطن، فالخيار البديل هو استخدام هذه الأساليب الصلبة في المواجهة.
وأخيراً، على ضوء تباعد مواقف جميع الأطراف، ليس وارداً انفراج كبير في المسار الدبلوماسي غير المباشر والوصول لحلول دبلوماسية مرضية، فالظروف تتجه نحو تأزيم أكثر للوضع القائم، وتصعيد أكثر خطورة، إذ إن إيران أكدت أن أحد أهم خياراتها في الردّ على العملية التخريبية، هو توسيع قدراتها النووية واستخدام أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً من تلك التي تضررت في الحادث، و"تصعيد كبير" لخطواتها النووية. والتجربة تقول إن هذه الهجمات خلال أكثر من عقد مضى، لم توقف البرنامج النووي الإيراني الذي تجاوزها ليقترب إلى نقطة تعتبرها الأوساط الاستخباراتية الغربية "اللاعودة". لذلك، معركة الشد والجذب بين هذه الأطراف مع إيران تكون قد دخلت مرحلة خطيرة قد لا تتوقف عن هذا الحدّ.