لا ينفك قادة المشهد في ليبيا عن تسييس أي قضية وطنية تطفو على السطح، في إطار صراعاتهم على السلطة، وآخرها قضية أبوعجيلة المريمي (المتهم أميركياً بتورطه بقضية لوكربي)، والذي تشترك غالبية الليبيين في رفض تسليمه إلى دولة أجنبية وضرورة تمتعه بحقوقه القانونية في التقاضي على أرض بلده، استناداً للتشريعات النافذة في البلاد، بغض النظر عن تورطه في أي قضية أو جرم.
وإن كانت حكومة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس أكثر الجهات التي يمكن توجيه التهمة إليها بتورطها في تسليم مواطن ليبي، استناداً إلى مواقفها وتصريحات سابقة لمسؤوليها، خصوصاً وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش التي أكدت استعداد حكومتها للتعاون في هذه القضية، واستناداً إلى سعي الدبيبة لحشد المواقف الدولية لصالح بقائه في منصبه، إلا أن مواقف الأطراف الليبية الأخرى ليست بريئة. ولا يبدو أن قضية حصانة مواطنة أي ليبي تهمها، بقدر ما هي معنية باستغلال قضية المريمي لصالح تمتين موقفها المعارض من وجود الدبيبة في السلطة.
وهنا يبرز سؤالان هامان قد يكون لهما دور في استجلاء منطلقات مواقف خصوم الدبيبة، وأولهما يتعلق بموقف مجلس النواب من اعتقال السلطات الأميركية مواطنين ليبيين على خلفية اتهامهما بالتورط في الهجوم على مقر القنصلية الأميركية في بنغازي (سبتمبر/ أيلول 2012): الأول أحمد أبوختالة الذي اعتقل وسط بنغازي في يونيو/ حزيران 2014، والثاني مصطفى الإمام الذي اعتقل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
وبغض النظر عن صحة تورط أبوختالة والإمام في الاعتداء على مقر دبلوماسي، أفليس كان من المفترض أن يعلن مجلس النواب في حينها، عن موقف واضح من عملية اعتقال تنتهك بشكل صريح السيادة الليبية؟ وخصوصاً أن السلطات الأميركية أعلنت بشكل رسمي، وعلى مستوى رفيع جداً، عن اعتقال المواطنين الليبيين داخل ليبيا، ومن دون الكشف عن طريقة اعتقالهما ووفق أيّ إطار قانوني، في وضع يشبه إلى حد كبير عملية اعتقال المريمي التي ضجّ بسببها النواب ومجلسهم.
أما السؤال الثاني، فيتعلق بالبيانات والمواقف الأخيرة الصادرة عن مجلسي النواب والأعلى للدولة وغيرهما بشأن المريمي، وتوجههما إلى النائب العام الليبي الصديق الصور بضرورة الكشف عن الجهة التي سلّمته إلى السلطات الأميركية. والمفترض أن يتوجه جزء كبير من مواقفهم إلى الجانب الأميركي، والسؤال عن الطريقة التي اعتقل بها الأميركيون المريمي.
أفليس من الأحرى بالمجلسين أن يتوجها بالاحتجاج إلى الجهة التي أعلنت جهاراً نهاراً أن المريمي في قبضتها وبدأت في محاكمته؟ فالسيادة الليبية وتعزيزها أهم بكثير من حشد المواقف للتضييق على الدبيبة، ومحاولة إثبات ما لا يحتاج إثباتاً.
ليس صمت الدبيبة هو الذي ثبّت تورطه في عملية تسليم المريمي، فهناك الكثير من المؤشرات، منها تصريح لافت للسفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند لمجلة "جون أفريك"، الإثنين الماضي، عبّر فيه عن موقف أميركي جديد ومختلف تماماً عن الموقف المحايد السابق من الأزمة الحكومية في ليبيا. فهو يظهر تأييداً واضحاً لحكومة الدبيبة، إذ اعتبر نورلاند أن ليبيا لا تحتاج إلى تشكيل حكومة انتقالية جديدة قبل إجراء الانتخابات، وأن حكومة طرابلس هي آخر الحكومات الانتقالية، وخصوصاً أن الدبيبة المحاصر بمواقف خصومه، سيبحث عن أي حبل ينجيه من الغرق.
لكن القضية أخطر من تسليم المريمي، بل تتعلق بمواقف الأطراف الليبيين الذين استسهلوا تفريغ قيم المواطنة والسيادة من معانيها لصالح مصالحهم الضيقة الآنية.