النظام الإقليمي بعد حرب غزّة: عودة قضية فلسطين

27 أكتوبر 2024
من التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في الأردن (ليث الجنيدي/الأناضول)
+ الخط -

على الرغم من فداحة الخسائر في أرواح المدنيين الفلسطينيين، والدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزّة وبنيته التحتية، نتيجة استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية، أسفرت الحرب عن نتيجتين استراتيجيين؛ إحداهما هي عودة قضية فلسطين، ولا سيّما مسألة الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية"، إلى الأجندتيْن الدولية والإقليمية. والأخرى العجز الأميركي- الإسرائيلي، بعد عام من الحرب، عن حسم الصراع ضدّ الشعب الفلسطيني، وفصائل المقاومة في قطاع غزّة والضفّة الغربية، وكذا مع أطراف المحور الإيراني.

لكن لن تكتمل المحصلة النهائية لتداعيات ارتقاء العامل الذاتي التحرري الفلسطيني، وصمود المقاومة والمجتمع الفلسطينييْن، في المعادلات الإقليمية والدولية قبل اتضاح مآلات خمس قضايا متداخلة، سوف تشكّل، ملامح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بعد الحرب، وموقع القضية الفلسطينية منه؛ أولاها الأفق النهائي لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإمكانية العودة إلى إدارته أو تهدئته (ضمن ما يسمّى ترتيبات اليوم التالي للحرب، بما يتناسب مع المصالح الأميركية- الإسرائيلية، والاستمرار في تجاهل الحقوق الفلسطينية، وتغييب أسس "الحل العادل" للصراع، ولا سيّما مسألة وجود دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وعاصمتها القدس).

ثانيها انعكاسات التوجّهات المستقبلية للمجتمع الإسرائيلي، ولا سيما انزياحه نحو أقصى اليمين الديني المتطرف، على السياسات الإسرائيلية تجاه قضية فلسطين، وإقليم الشرق الأوسط عموماً، نحو مساريْن؛ أحدهما التصعيد (وهو السيناريو المرجّح، في المدى المنظور)، عبر تكثيف استخدام أدوات الإكراه (كقتال الجيش الإسرائيلي بأساليب العصابات، وارتكاب المجازر، والتهجير، واستخدام الغذاء والدواء سلاحاً ضدّ المدنيين، والاغتيالات السياسية.. إلخ)، بالتوازي مع أساليب "القوّة الناعمة" (التقنية، والذكاء الاصطناعي، والدعاية السوداء، والحروب النفسية.. إلخ)، بغية إضعاف الخصوم، عبر إذكاء انقساماتهم، خصوصاً الطائفية/ المذهبية. المسار الآخر الذهاب نحو "تهدئات تكتيكية مؤقتة"، لتوفير ظروف أفضل تسمح بـ"حسم الصراع"، في المديين المتوسط والبعيد، (بأدوات التجارة والتطبيع وتعزيز دمج إسرائيل إقليمياً، على نحو يشبه أفكار الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، عن "الشرق الأوسط الجديد").

قد يسفر نجاح قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، في المحصلة الأخيرة، عن استعادة حالة من "الوحدة الوطنية"، و"التماسك الداخلي"، مروراً باحتمال تطوير المواجهات الراهنة

تتعلق القضية الثالثة بمدى قدرة إيران والفصائل المتحالفة معها في الإقليم، خصوصاً حزب الله اللبناني، على إجهاض مجمل الترتيبات الأميركية، في المنطقة، وعلى رأسها عرقلة عملية التطبيع العربي والإقليمي مع إسرائيل، التي تزيد وزنها الإقليمي، وتمنحها درجةً من "الشرعية الإقليمية"، على حساب قضية فلسطين وحقوق شعبها خصوصاً، والشعوب العربية عموماً، ما يعني أن استمرار التطبيع ينطوي بالضرورة على تهميش/ عزل الفاعلين من الحركات الاجتماعية، السياسية الشعبية، التي تتبنّى أجندات وطنية/ عربية (أي تتضمن عناصر "التغيير"، أو "الاستقلال الوطني"، أو "التحول الديمقراطي"، أو "التنمية الاقتصادية".. إلخ)، في مواجهة سياسات/أدوات الهيمنة الأميركية- الإسرائيلية على إقليم الشرق الأوسط.

رابعها استمرار الاستقطاب/ الانقسام الإقليمي بين سياسات المشروع الأميركي- الإسرائيلي- السنّي العربي، وبين سياسات إيران ومحورها الإقليمي المساند، على ضوء تداعيات حربيْ غزّة ولبنان (2023-2024)، علماً بأن اغتيال إسرائيل لرئيس حركة حماس،  إسماعيل هنية، في طهران (31 /7 /2024)، ثم اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله (27 /9 /2024)، أدّيا إلى تأجيج الانقسام السنّي الشيعي، وحرف البوصلة عن السياسات الإسرائيلية، وتوجيهها نحو محور إيران وسياساتها الطائفية في تفكيك المجتمعات العربية السنّية وإضعافها.

خامسها احتمال تغيّر سياسات القوى الدولية والإقليمية الأخرى (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وإسبانيا.. إلخ)، تجاه قضية فلسطين وإقليم الشرق الأوسط، ودرجة ابتعادها عن الاستراتيجية الأميركية، ومدى استعدادها لتحدي النفوذ الأميركي، خصوصاً مع استمرار واشنطن في دعم حروب إسرائيل العدوانية، وتعزيز سياسة إعادة رسم الخرائط الإقليمية، وتصميم الحلول والمبادرات على "قياس إسرائيل"، على نحو قد يهدّد مصالح القوى غير الغربية في المنطقة.

في هذا السياق، ثمة ثلاثة عوامل إضافية تتحكّم في درجة الاستمرارية أو التغيّر في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، بعد حربيْ غزّة ولبنان؛ أولها مستوى نجاح قوى المقاومة في تعميق الخلافات الأميركية الإسرائيلية، حول سيناريوهات اليوم التالي للحربيْن. وعلى الرغم من أن حماس وحزب الله، يخوضان، "حرب وجودهما"، ويواجهان تحديات هائلة، لكن يصعب الجزم بامتلاك إسرائيل القدرة على حسم الصراع، من دون إغفال النجاح الإسرائيلي "الآني" في اغتيال قيادات المقاومة، وآخرها إعلان نتنياهو اغتيال رئيس حركة حماس، يحيى السنوار (17 /10 /2024).

استطراداً، قد يسفر نجاح قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، في المحصلة الأخيرة، عن استعادة حالة من "الوحدة الوطنية"، و"التماسك الداخلي"، مروراً باحتمال تطوير المواجهات الراهنة إلى "حرب استنزاف إقليمية طويلة الأمد" ضدّ إسرائيل، ولا سيّما في حال النجاح في تحييد مواطن القوة الإسرائيلية، وتحصين مجتمعات المقاومة (عبر تجنيب المدنيين دفع كلفة الصراع)، وصولاً في النهاية إلى هزيمة الاحتلال بـ"مجموع النقاط المتراكمة"؛ إذ يتعذّر حسم الصراع معه بـ"ضربة واحدة قاضية".

ثانيها نجاح واشنطن في ضبط مستوى الصراع الإسرائيلي مع إيران؛ أي منع انتقاله من مساحات "حروب الظل"، و"الحروب السيبرانية"، و"الحروب بالوكالة"، إلى مرحلة صدامٍ مباشر بين الطرفين، على نحو يأخذ الإقليم بأسره، إلى حلقات من التصعيد والفوضى والأزمات الاستراتيجية، ما قد يؤدي في المحصلة إلى "إفلات" الإقليم برمته من الهيمنة الأميركية.

تتعلق القضية الثالثة بمدى قدرة إيران والفصائل المتحالفة معها في الإقليم، خصوصاً حزب الله اللبناني، على إجهاض مجمل الترتيبات الأميركية

ثالثها نجاح تركيا وإيران والسعودية ومصر، في وقف عملية تآكل/ تراجع أدوارها في إقليم الشرق الأوسط، لمصلحة تعزيز الدور الوظيفي لإسرائيل، وتجديد الهيمنة الأميركية، علماً بأن انفلات هذا الدور من الضوابط الأميركية- الغربية، بالتوازي مع استمرار إحجام القوى الدولية الأخرى، خصوصاً الصين وروسيا والهند، عن توظيف الفراغ الناجم عن تآكل سيطرة واشنطن على الإقليم، قد يفسح المجال لانتشار مستويات من "الفوضى الإقليمية"، التي قد تخرج عن أطر التحكم الصارم، ما قد يفتح الباب أمام احتمال عودة الحركات والتنظيمات الراديكالية العنيفة والمتطرفة، واستئناف صراعها القديم- الجديد مع أجهزة الدول الوطنية، علماً بأن السيناريو الأفضل في هذا الصدد يتمثّل في عودة حراك الشارع العربي، وتطور قدراته في الحشد والتنظيم وتجاوز الانقسامات المجتمعية، إلى مستوى حراك جماهيري يحظى بالكتلة الحرجة اللازمة لاندلاع موجة أخرى من الثورات الشعبية الوطنية، على نحو يسمح باستعادة وزن البعد الشعبي/ الجماهيري بعد تهميشه لأكثر من عقد كامل، بمعنى استعادة روح موجتَي الثورات العربية في عامي 2011 و2019.

يبقى القول إنّ عودة قضية فلسطين إلى التأثير في سياسات النظام الإقليمي الشرق أوسطي، قد تؤدي إلى تنويع/ توسيع علاقاته الدولية، وابتعاده تدريجياً عن هيمنة الفاعل الأميركي- الإسرائيلي. وعلى الرغم من قدرته على تسجيل "انتصارات تكتيكية"، لكنه عاجز عن الحسم ضدّ قوى المقاومة وإيران، ما يؤكّد طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، بوصفه "صراعاً سياسياً، اجتماعياً، ممتداً، متشعّباً في جوانبه"، ولا يخضع بالضرورة لأحكام ميزان القوى، قدر خضوعه لأحكام التاريخ في تجارب التحرر الوطني، في مواجهة القوى الاستعمارية الغازية.

المساهمون