أربعة وسبعون عاماً على نكبة فلسطين وغالبية اللاجئين الفلسطينيين في الداخل وخارج فلسطين معرضون لسياسات عنصرية يومية. ففي الخارج هم معرضون للتهجير، فيما بقيتهم يواجهون قسوة في النجاة من ظروف معيشية وسياسية تلقي عليهم يومياً بتهديدات مميتة، فيعيش أكثر من 90 % من اللاجئين الفلسطينيين المتبقين داخل سورية فقراً مدقعاً، بموازاة 80% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وينهار قطاع الخدمات الصحية والخدمات العامة.
وفي داخل فلسطين المحتلة يعاني اللاجئون وعموم الفلسطينيين من سياسات الأبارتهايد والقتل اليومي المنظم إلى جانب المعاناة المعيشية المتزايدة، إذ قام كيان الاحتلال الصهيوني منذ نشأته عام 1948 على فلسفةٍ أساسيّة، فلسفة التهجير والإقصاء والإحلال، وتتواصل منذ عام النكبة إلى يومنا هذا محاولات تهجير الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، واستكمالاً لمشروع التهجير المستمر منذ عام النكبة، يواصل الاحتلال محاولات اقتلاع الفلسطينيين من النقب، والأغوار، والداخل المُحتل عام 48، وبقية مناطق الضفة بشتّى الوسائل والطرق.
رغم تراجع "الخطة الأميركية للسلام/ صفقة القرن بعد سقوط الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب عراب تلك الخطة، ظل ملف اللاجئين الفلسطينيين الأكثر استهدافاً في مسار تصفية القضية الفلسطينية، ولا تزال الإدارة الأميركية تعمل على ذلك من خلال جملة إجراءات لنزع الشرعية دولياً عن وضع اللاجئين الفلسطينيين ومكانتهم المعترف بها أممياً، وعملت على تصفية "الأونروا" كمؤسسة دولية معنية بشأن اللاجئين الفلسطينيين فقط دون غيرهم وتقويض دورها ووظيفتها، بجانب استهداف الفلسطينيين عموماً ودفاعهم عن قضيتهم في دول الطوق وفي العالم. بتشكيل تحالف إقليمي بين كيان الاحتلال ودول التطبيع العربي يحظى بدعم أميركي من خلال دعم مشاريع اقتصادية وسياسية وأمنية بين الدول العربية ودولة الاحتلال. بما يمنح الكيان الإسرائيلي مكانة المهيمن على القطاعات الحيوية في عديد من دول المنطقة، بما في ذلك دول مضيفة للاجئين الفلسطينيين، مثل الأردن وسورية ولبنان، كمشاريع خطوط وصل الطاقة والغاز ونقل المياه التي تتورط فيها هذه الدول تدريجياً، كما تلعب مصر والأردن أدواراً ضاغطة لإلزام الفلسطينيين بشروط التعايش مع الوضع العربي الجديد، والذي يكرس وضعهم وقضاياهم كهامش بجانب جعل التعاون بين المحتل أمراً مركزياً وأولوية للتحالفات.
هناك ثلاثة عوامل رئيسة تجعل من مسلسل إنهاء الوجود الفلسطيني عبر تصفية قضية اللاجئين وارداً، يمكن إجمالها في إنهاء وكالة أونروا ودورها، والتطبيع العربي الصهيوني وأثره على اللاجئين الفلسطينيين، ودور السلطة الفلسطينية الوظيفي الأمني في السيطرة على مجتمعات اللاجئين في الداخل المحتل.
التصفية التدريجية: تقويض مجتمعات اللاجئين
تعتبر تلك السياسات التي تقوم بها دول المنطقة والكيان الصهيوني برعاية أميركية تهديداً واضحاً نحو تقويض بقاء مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة وسلب ممكنات عيشهم التي كانت سبباً لصمودهم خلال المراحل الماضية رغم ضعفها، فهناك تغيير ملموس في سياسات الأونروا وتحويلها إلى منظومة لتطويع الفلسطينيين وابتزازهم لإخضاعهم لضوابط تتكفل بتقويض مواقفهم الوطنية وقدرتهم على الدفاع عن حقوقهم، فوضعت الأونروا جملة من المعايير والسياسات على موظفيها وعلى اللاجئين تحظر عليهم التعبير عن هويتهم السياسية والوطنية، وتمنع أي شكل من أشكال الاستفادة من خدمات الأونروا عن الشرائح الأكثر عرضة لجرائم الاحتلال من الأسرى والشهداء والمناضلين الفلسطينيين وذويهم، كما جاء في نص البرتوكول الموقع من قبل الوكالة مع الإدارة الأميركية في عام 2021.
باتت غالبية اللاجئين الفلسطينيين في دول الطوق وقطاع غزة فعلياً تحت خط الفقر (حوالي 80 بالمائة منهم) وتحت طائلة الجوع، والحال ليس أفضل بالنسبة للاجئين في دول الطوق، هذا إلى جانب سياسات التقليصية المستمرة في الأونروا وفشلها الواضح في توفير الحد الأدنى من احتياجات اللاجئين في دول الطوق، إلى جانب أن الانهيار الاقتصادي في دول مثل لبنان وسورية يشكل مخاطر كبيرة على مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، وينذر بتفاقم الأوضاع المعيشية بفعل الانهيار المتسارع في القطاعات الخدمية الرئيسية، إذ إن الوصول إلى المياه أو الكهرباء يزداد صعوبة لمعظم اللاجئين الفلسطينيين، والقطاع الطبي عاجز عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الاعتيادية، فضلاً عن التعامل مع الصعوبات المتزايدة في ظل تفشي الوباء المستمر لعامه الثالث، مما يؤدي إلى موجات من التهجير القسري المنظم بفعل الحرب إلى الخارج أو بسبب الانهيار الاقتصادي، وبالتالي إنهاء الوجود الفلسطيني كما حدث في مخيمات سورية في السنوات العشر الماضية، ولا يزال التهديد العسكري من خلال القتل المباشر والعمليات العسكرية صفة ملازمة لوضع اللاجئين الفلسطينيين في سورية. كما أن الوضع في المخيمات الفلسطينية في لبنان، بسبب فقدان الحد الأدنى من معايير الأمن الشخصي وفي ظل المخاطر الاقتصادية المتزايدة، مرشح للاشتباك الفلسطيني - الفلسطيني جزئياً والاشتباك اللبناني الفلسطيني. وباتت تدفقات اللاجئين للهجرة من مخيمات غزة ولبنان في منحى مستمر في التصاعد، فيما تكفلت عملية التهجير القسري الهائلة بإفراغ مخيمات سورية من معظم لاجئيها، وما زالت التهديدات المحيطة أمنياً واقتصادياً بمخيمات لبنان توشك على صناعة موجة هجرة غير مسبوقة في المدى القصير.
عجزت الفصائل والمعارضة عن تقديم مشروع بديل للسلطة الفلسطينية وعن إنتاج أدوات لإعادة إحياء المشاركة الجماهيرية في العمل السياسي والنضالي أو طرح أجندة بديلة للفعل الوطني
لا يزال أكثر من 90 % من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة لم تنتف عنهم صفة اللاجئين ولم ينته وضع المخيمات رغم وجود السلطة الفلسطينية في الأرض المحتلة، ولكن تلك الإشكالية ضمن الحجج التي استخدمت من قبل الأونروا لإعادة تعريف صفة اللاجئ لديها واستحقاقه خدماتها، أي ضمن المعايير الجديدة التي تعتمدها الوكالة بعد توقيعها البرتوكول مع الإدارة الأميركية. وفي ضوء استمرار الهجمات العسكرية الاحتلالية والتي تطاول قطاع غزة ومخيماته، وتصاعد سياسات القتل الممنهج في الضفة المحتلة، ذلك إلى جانب ما يضيفه القمع الأمني الموجه ضد المخيمات، وفي بقية مساحة الانتشار الفلسطيني يتواصل تعرض الفلسطينيين لمخاطر القمع الأمني وسياسات التضييق عبر أدوات وذرائع أمنية.
التطبيع العربي وتفكيك مجتمعات اللجوء
منذ فشل الثورات العربية في المنطقة بدأ تأسيس بيئة معادية للفلسطينيين وحقوقهم لدى دول المنطقة كنوع عقابي من جهة لمشاركتهم ودعمهم أو مساندتهم الثورات، وباعتبارهم بؤرة تثويرية تشكل خطورة على الأنظمة الجديدة، وتصاعدت مؤشرات العداء مع تنامي المسار التحالفي بين دول التطبيع العربي وكيان الاحتلال، وتفاقمت الأوضاع والسياسات العدائية بعد أحداث الشيخ جراح ومعركة القدس في الداخل الفلسطيني في مايو/ أيار الماضي، مما جعل كثيراً من اللاجئين عرضة لمزيد من سياسات التضييق في الدول العربية إلى جانب تعريضهم لمخاطر الأعمال العدائية من قبل المجتمعات المضيفة الخاضعة لدعايات الأنظمة العربية، كما في حالة مصر ودول الخليج.
عملت تلك الأنظمة العربية المتحالفة مع الكيان الصهيوني بدعم علني لنزع الاعتراف الدولي بحقوق اللاجئين الفلسطينيين من خلال موقفها المؤيد والداعم لخطة السلام/ صفقة القرن من خلال المشروعات الاقتصادية، ومشاركتها الدعاية مع كيان الاحتلال عبر أدواتها الإعلامية لدعم الروايات والسرديات الصهيونية في مواجهة الرواية الفلسطينية عن النكبة واللجوء واللاجئين، إلى جانب الدعاية التحريضية ضد الفلسطينيين وفعلهم النضالي وهويتهم.
السلطة الفلسطينية: تقليص وجود اللاجئين
يربط الاحتلال الإسرائيلي الأجهزة المختلفة للسلطة الفلسطينية به عبر تحويلها إلى كيان أمني يقوم بخدمة الكيان المحتل وتقليص الدور السياسي الحقيقي الذي يجب أن تقوم به السلطة الفلسطينية تجاه الداخل الفلسطيني، ويوجه سياساته العدوانية مباشرة تجاه الجمهور الفلسطيني حيث تعمل تلك السلطة على تعطيل كتلة هائلة من الفلسطينيين (الموظفين والفصائل) المرتبطين بمشروع السلطة، من انخراط أو دعم أو مساندة لصمود الشعب الفلسطيني، مما يمثل إشكالية تؤثر على شبكة المناصرين للقضية الفلسطينية ويؤثر على المواقف الداعمة من الأطراف الدولية والإقليمية للقضية الفلسطينية.
هذا إلى جانب الدور الوظيفي الأمني التي تقوم به السلطة الفلسطينية كالتدخلات الأمنية والقمعية في بيئة المخيمات داخل فلسطين المحتلة، بالإضافة إلى تخلي السلطة الفلسطينية و م. ت. ف عن نفوذهما وهيمنتهما على المخيمات الفلسطينية في دول الطوق لصالح الأنظمة في الدول العربية.
تشارك الفصائل الفلسطينية المنضوية والمعارضة للسلطة في تقويض مسألة حقوق اللاجئين الفلسطينيين بارتهانها وارتباطها العضوي بالسلطة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية في دول الطوق وبعض دول الخليج كجهات ممولة ومانحة، خاصة في سلوكها وترددها تجاه سلوك السلطة الفلسطينية وطرحها لقضايا قديمة بالية كملف المصالحة، وإعادة توحيد بنية السلطة، والانتخابات، وهي قضايا يتجاوزها الاحتلال في سياساته على الأرض.
هذا إلى جانب تحويل المخيمات الفلسطينية في دول الطوق وفي الأرض المحتلة إلى ساحات تنافسية فيما بينهم للهيمنة والتمثيل السياسي لها في م. ت. ف. للحصول على مخصصات مالية أكثر من الجسم الرسمي الفلسطيني، أو لمكاسب اقتصادية وخدمات لوجستية متعددة من دون الأخذ في الاعتبار مدى المخاطر التي تعصف بمجتمعات اللجوء بسبب التجاذبات السياسية ومن دون السماح للفلسطينيين في صناعة قرارتهم وتشكيل أدواتهم الخاصة بصمودهم في تلك المرحلة.
هذا إلى جانب عجز تلك الفصائل والمعارضة عن تقديم مشروع بديل للسلطة الفلسطينية، وعجزها عن إنتاج أدوات لإعادة إحياء المشاركة الجماهيرية في العمل السياسي والنضالي، أو طرح أجندة بديلة للفعل الوطني، خاصة في ملف اللاجئين والتطبيع والأسرى والحصار والقبضة الأمنية ضد العمل الوطني في الضفة الغربية والوجود الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948.
ورغم نجاح الأجنحة العسكرية لبعض الفصائل الفلسطينية في تكوين وتثبيت بنية عسكرية تقاتل ضد الاحتلال في غزة لا يمكن أن تكون كافية وحدها لمقاومة الاحتلال الصهيوني في باقي الجهات والمناطق الفلسطينية.
بعد مرور أكثر من سبعة عقود على مقاومة الاحتلال الصهيوني وكل محاولات الدولية لإنهاء ملف الصراع في فلسطين ولدى مجتمعات اللجوء الفلسطيني، فما أبرزته هبة أيار التي انطلقت ضد محاولات تهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح، وجمعت الفلسطينيين تحت هذا العنوان، وأنتجت في مواجهتها الاحتلال عناوين عدة تتعلق بجرائم الاحتلال في كل موضع للوجود الفلسطيني.
لا يحتاج الفلسطينيون ومجتمع اللاجئين والمعنيون بحقوقه إلى إعادة اكتشاف أدوات الفعل والتأثير، فهناك من التجارب النضالية الجماعية التي يختبرها وينتجها يومياً لمناهضة سياسات الأبارتهايد والفصل العنصري والقتل والتدمير والتهجير، ما يسعفه ويجعله يستعيد حضوره للمواجهة ضد آخر استعمار كولونيالي إحلالي متبقٍّ في العالم الحديث.