النيجر تتجه لمرحلة انتقالية بتوجيه أميركي

29 سبتمبر 2023
عسكريون نيجريون في نيامي، 27 أغسطس الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

يشكل الموقف الأميركي حيال الوضع في النيجر فصل المقال، وحتى حينه لم تتجاوز الأطراف الأخرى السقف الذي وضعته واشنطن، لجهة إيجاد مخرج من حال الاستعصاء الراهن، الذي تأرجح بين التهديدات بالتدخل العسكري، والبحث عن حل دبلوماسي يتم داخل البيت النيجري بين الأطراف المتنازعة، بتزكية من الاتحاد الأفريقي وبرعاية دولية.

وجاء قرار باريس سحب سفيرها سيلفان إيتي، أول من أمس الأربعاء، من العاصمة النيجرية نيامي، ليؤكد أن الفرصة باتت معدومة للرجوع عن الانقلاب العسكري، ما يعني انقشاع غيوم التوتر الشديد، بما يسمح بتقدم خيار التهدئة، وبداية نهاية مرحلة الشد والجذب، وطي صفحة خيار التدخل العسكري، الذي فقد زخمه والمبرر من ورائه، وازداد صعوبة من الناحية الفنية مع تقدم الوقت.

ويكمن السبب الرئيسي في تجميد الوضع عند هذا المستوى إلى موقف واشنطن، الذي لم يدعم الانقلاب العسكري صراحة، لكنه لم يؤيد الخيار العسكري، لإعادة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى السلطة.

وبدت واشنطن غير متحمسة للفكرة، بسبب حساسية الموقف من جهة، ومن جهة ثانية الكلفة التي تترتب عليه، في وقت تشكل فيه أوكرانيا الأولوية، ولذلك فضلت أن تنأى بنفسها عن هذا الخيار، ولم تشجع أحداً من حلفائها الأفارقة المقربين على العمل من أجله، بل ساندت مساعي المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، على استكشاف "جميع الخيارات من أجل حلّ سلمي للأزمة".

أميركا والمرحلة الانتقالية

وتروج معلومات في الأسبوعين الأخيرين عن مساع أميركية من أجل التوصل إلى تسوية سياسية وفق صيغة المرحلة الانتقالية، التي تحدث عنها رئيس المجلس العسكري الجنرال عبد الرحمن تشياني قبل حوالي شهر، ولكن تحديد الشروط سيتم من خلال الحوار بين الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية والعسكرية الرئيسية.

وهو ما تعده واشنطن خياراً واقعياً وحيداً، وأفضل فرصة للحل. وربما تساهم الدبلوماسية الأميركية في دور على هذا الأساس، ومن خلال دعم مبادرات دول المنطقة، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي.


واشنطن لم تصل إلى حد وصف الوضع بالنيجر بأنه "انقلاب"

أبدت الولايات المتحدة عدم رضى عن الانقلاب لحظة وقوعه، لكنها دعمت موقف فرنسا، الذي يشهد تراجعاً في عموم منطقة الساحل، غير أن واشنطن لم تصل إلى حد وصف الوضع بأنه "انقلاب"، الأمر الذي يتطلب منها، بموجب القانون الأميركي، قطع المساعدات العسكرية للنيجر، والاكتفاء بتعليق بعض برامج المساعدات، من دون إنهاء جميع المساعدات الأمنية الأميركية، وتؤدي إلى تعليق امتيازات البلاد للصادرات المعفاة من الرسوم الجمركية إلى السوق الأميركية، من خلال برنامج النمو والفرص في أفريقيا.

وكان أول رد فعل لواشنطن أنها أوفدت في بداية الأزمة مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند، رغم أن المجلس العسكري لم ينفتح على زيارة المسؤولة الأميركية في حينه، لكنها التقت مع الجنرال موسى سلاو برمو، رئيس أركان القوات المسلحة المعين حديثاً، الذي كان حتى حينه يقود القوات الخاصة للجيش، التي استفادت بشكل خاص من برامج التدريب الأميركية.

وهذا ما يفسر موافقة مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين كاثلين فيتزغيبون في منصب السفير، وهو ما أكّد الحرص على الحفاظ على خطوط التواصل في حين كان الانقلاب في أيامه الأولى، في 26 يوليو/ تموز الماضي.

وتعد النيجر شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، والدليل على ذلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى هذا البلد في مارس/ آذار الماضي، وهي الأولى لأكبر مسؤول أميركي في تاريخ النيجر، وهذا يؤكد أهميتها، ويفسر خلفية أنها أكبر متلق للمساعدات العسكرية لوزارة الخارجية في غرب أفريقيا، وثاني أكبر دولة في أفريقيا، جنوبي الصحراء الكبرى.

وقدمت واشنطن التدريب والمعدات للقوات العسكرية والأمنية في نيامي لمساعدتها على مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، تعد الولايات المتحدة أيضاً الشريك الرئيسي للمساعدات التنموية الثنائية للنيجر.

تزايدت الأهمية الجيوسياسية للنيجر، بالنسبة للولايات المتحدة، على مدى العقد الماضي، في سياق القتال ضد الجماعات الجهادية المسلحة في المنطقة، وانهيار الدولة في ليبيا، والهجرة غير النظامية إلى أوروبا. وما يهم الولايات المتحدة في النيجر هو عدة مسائل. الأولى هي استمرار التعاون في الحرب على الإرهاب في أفريقيا.

وتحتفظ الولايات المتحدة بأكثر من 1100 جندي، جرى نشرهم في قاعدة "أغاديس" في النيجر، لإجراء عمليات استخباراتية ومراقبة واستطلاع وجمع المعلومات، ودعم الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وتوجيه ضربات مباشرة ضد أهداف في ليبيا ومنطقة الساحل.

ومن أجل ذلك تود واشنطن الاحتفاظ بقواعدها العسكرية في هذا البلد، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الحفاظ على علاقات دبلوماسية وعسكرية مميزة مع السلطات السياسية في النيجر.


القوات الخاصة النيجرية استفادت بشكل خاص من برامج التدريب الأميركية

والمسألة الثانية هي مواجهة التمدد الصيني الزاحف بقوة في أفريقيا. وتعمل الصين من خلال عدة قنوات أمنية واقتصادية، وباتت تحقق تقدماً مهماً بفضل العلاقات المتينة مع بعض دول القارة، وتزايدت أهمية النيجر بالنسبة للصين منذ اكتشاف احتياطيات نفطية ضخمة، وبدأ الإنتاج في عام 2011 بإنتاج يومي قدره 20 ألف برميل.

ويتم استخراج النفط من قبل شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC)، ويتم نقله عبر الأنابيب إلى مدينة زيندر الواقعة في الجزء الجنوبي الأوسط من النيجر، حيث يتم تكريره. واشترطت النيجر حقوق الحفر ببناء مصفاة، ما جعل الصين الشريك الاستراتيجي لحكومة النيجر في تنمية مواردها النفطية.

المؤشرات توحي بأن العلاقة بين الصين والمجموعة العسكرية لا تسير على نحو جيد، حيث قررت الشركة الصينية التي تقوم ببناء سد ضخم على نهر النيجر، بوقف أعمالها بعدما قطعت الأعمال شوطاً كبيراً، وكان مقرراً انتهاء الأعمال عام 2025، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى وقف مشاريع الصين النفطية، وهذه إحدى النقاط الخلافية بين الانقلابيين والرئيس المخلوع.

والمسألة الثالثة هي الوصول إلى الثروات التي يزخر بها هذا البلد، وأهمها اليورانيوم، الذي تعد النيجر سابع منتج عالمي له، وهي توفر 5 في المائة من الإنتاج العالمي، ولكن فرنسا تحوز على النسبة الأساسية منه، كون الصناعة النووية المدنية في فرنسا تشكل حجر الزاوية في استقلالها في مجال الطاقة، ولذلك تشكل إمدادات اليورانيوم هدفاً ضرورياً واستراتيجياً لباريس. وكانت النيجر الدولة الرئيسية فيها.

وفي عام 2022، شكلت النيجر ثاني أكبر مورد للاتحاد الأوروبي لليورانيوم الطبيعي، وهو ما يمثل حوالي ربع إمدادات الاتحاد الأوروبي، وفقاً للوكالة الأوروبية للطاقة الذرية (يوراتوم)، غير أن مناجم كازاخستان ساعدت في تقليل الاعتماد على النيجر بصورة كبيرة.

علاقة أميركية بالنيجر

وتبدو واشنطن على قدر كبير من الدراية بما تفكر به، وترغب به، ذلك أنها على صلة بالمجلس العسكري ومعرفة ببعض أعضائه، الذين يواصلون التعاون مع القوات الأميركية في الحرب على الإرهاب. وما يميز الجيش النيجري في هذا الميدان هو أنه يخوض المواجهة مع الجماعات الإرهابية منفرداً، مستعيناً بالدعم اللوجستي الغربي، على خلاف الجيش المالي الذي شاركته القوات الفرنسية الحرب في الميدان.


النيجر لم تنج من هجمات الجماعات الجهادية المسلحة لكنها صمدت

صحيح أن النيجر لم تنج من هجمات الجماعات الجهادية المسلحة على جارتيها مالي وبوركينا فاسو، لكنها صمدت بشكل أفضل بكثير منهما. ومع أنها تكبدت خسائر كبيرة في الهجمات على المعسكرات العسكرية في عامي 2020 و2021، فإنها استطاعت أن تمنع وقوع هجمات ذات حجم كبير منذ عام 2022.

ورغم انعدام الأمن في المنطقة الحدودية مع مالي، حيث تسيطر الجماعات الجهادية المسلحة نسبياً، فإنها على النقيض من جيرانها، تظل حكومة النيجر حاضرة في جزء كبير من أراضيها. والفضل في ذلك لقادة الانقلاب، المسؤولين عن جودة الاستجابة للوضع الأمني، وللمساعدات اللوجستية الفرنسية والأميركية.

وترى واشنطن أن التعاون بين الجيشين الأميركي والنيجري من خلال "القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا" (أفريكوم) يمكن أن يشكل ضمانة لاستمرار التعاون وعدم السير في طريق كل من مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، التي استبدلت النفوذ الفرنسي بالاعتماد على قوات "فاغنر".

تسعى الولايات المتحدة للوصول إلى حل وسط لا يغضب فرنسا، ويرضي أفريقيا. ولخصت الطريق إلى ذلك في البيانات والتصريحات الرسمية في نقطتين.

انتظام النظام الديمقراطي في النيجر، والإفراج عن الرئيس المحتجز محمد بازوم. وترجمة ذلك دفن التلويح بالقوة، وعدم اشتراط عودة الرئيس المخلوع إلى السلطة. وهذا أمر لا يلقى معارضة من المجلس العسكري، الذي سبق له أن حدد معالم المرحلة الانتقالية في الخطاب الذي ألقاه رئيسه الجنرال تشياني، بأنها "لن تتجاوز ثلاث" سنوات.

وهناك رأي عام أفريقي بدأ يتشكل يرى أن الحل السياسي هو الأرجح. وهذا يتماشى مع مواقف الدول الإقليمية الكبرى، باستثناء أقلية تتحرك من أجل مجاملة فرنسا، التي تعد الخاسر الأكبر حتى الآن.

وتجد الولايات المتحدة مصلحتها في هذه المرحلة، في عدم إشعال نزاع يتقاتل فيه الأفارقة، وهو ما يخلق حالة من الفوضى تستفيد منها الأطراف الدولية الساعية للتمدد في القارة، على نحو خاص روسيا والصين، وكذلك الجماعات الإرهابية.

ومن خلال تهدئة الموقف تمسك واشنطن بالوضع، ويصبح موقعها أقوى، خصوصاً أن المجلس العسكري لم يصدر أي موقف يبدي فيه ميولاً تجاه الصين أو روسيا، وهو ما يميز مسار الانقلاب في النيجر عن بقية انقلابات أفريقيا في الأعوام الأخيرة. وقد صار هذا الموقف مؤكداً بعد مرور أكثر من شهرين على الانقلاب.