يطرح مصطلح "الوحدة الوطنية" على الساحة الفلسطينية بصيغة شعاراتية تأخذه بعيداً عما يفترض أن يعبر عنه، فهو مفهوم سياسي - اجتماعي يستوجب، قبل أي شيء آخر، تحقيق حالة من الالتفاف الشعبي الواسع حول قيادة سياسية تعبر عن إرادة الناس، وفقاً لشروط العقد الاجتماعي، الذي هو المبرر الوحيد لوجود هذه القيادة أصلاً. أي لا يعني تحقيق الوحدة الوطنية بالضرورة توافق بعض أطراف القيادة، أو حتى كلها، لا سيما في حال تغييب العامل الحاسم، المتمثل بالإرادة الشعبية.
في الحالة الفلسطينية يتلخص العقد الاجتماعي، الذي يبرر الوجود المحض لأي قيادة حالية أو سابقة أو لاحقة، بتولي مهمات التحرير الوطني، ومواصلة النضال بكافة أشكاله حتى دحر الاحتلال وانتزاع حق العودة، والتعبير عن إرادة ومصالح الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده. لذا، قبل الإجابة عما إذا كان إنجاز المصالحة بين حركتي فتح وحماس هو رديف لتحقيق الوحدة الوطنية، بالمعنى الحقيقي للمفهوم؟ لا بد من محاولة الإجابة على التساؤل التالي: هل تُحقق سياسات هاتين الحركتين، أو غيرهما، شروط العقد الاجتماعي الذي يبرر وجودهما؟ عندها سيكون طرح مسألة استمرار الانقسام وسبل معالجته أكثر جدوى.
بدايةً، حدث الانقسام منذ العام 2007، واستمر إلى اليوم، نتيجة السياسات السلطوية، التي تمنح التناقضات الثانوية أولوية على حساب التناقض التناحري الأساسي، المتمثل في الصراع مع الاحتلال. لكن، لا يقف الأمر عند حدود الفصل الجيوسياسي بين غزة والضفة الغربية، بل يتجاوزه إلى تهميش إرادة الشعب الفلسطيني في كل من القدس، الأراضي المحتلة منذ العام 1948، الشتات، من خلال العمل وفقاً لآليات استراتيجية "حل الدولتين"، وتهميش مشاركة الشعب في آليات صنع القرار، استنادا إلى مبدأ وحدة الأرض والشعب والهوية.
في ظل غياب أهم شروط العقد الاجتماعي، المتمثل بالتعبير عن الإرادة الشعبية، سيكون من العبث اختزال مسألة بالغة الأهمية، الوحدة الوطنية، في إجراء مصالحة، أو حتى وفاق بين حركتي فتح وحماس. إن إنجاز مصالحة حقيقية تسعى إلى تحقيق مهمات التحرير الوطني، أمر غير وارد في ظل رعاية النظام الرسمي العربي، كونه يبني علاقته مع الاحتلال بناءً على توجيهات وإملاءات ما يسمى بالمرجعية الدولية، التي يهيمن عليها "العم سام".
يتطلب تحقيق المصالحة الحقيقية وجود تيار فلسطيني ثالث لا يدور في فلك أي من الطرفين المتنازعين على السلطة، ويلبي استحقاقات مرحلة التحرر الوطني، ويعبر برنامجه عن كُلّ الشعب الفلسطيني، وفي كافة أماكن وجوده. عندها، سوف تجد أطراف الانقسام نفسها أمام خيارين فقط، إما تتعامل بجدية مع ما يطرحه هذا التيار من مبادرات، أو الخروج من دائرة الفعل والتأثير السياسي.
طُرحَت العديد من المبادرات الساعية إلى تحقيق المصالحة، سواء من قبل حركة الجهاد الإسلامي، الأكثر قرباً إلى حماس، أو من قبل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، اللتين تعتبران "منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، على الرغم من تفرد اليمين الفلسطيني فيها، ومن وأدها لحظة إلغاء ميثاقها في العام 1998، حيث تم التخلي رسمياً عن الهدف الاستراتيجي، المتمثل بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.
يتلخص العقد الاجتماعي في الحالة الفلسطينية الذي يبرر وجود أي قيادة بتولي مهمات التحرير الوطني ومواصلة النضال بكافة أشكاله حتى دحر الاحتلال وانتزاع حق العودة
تطالب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بإعادة بناء المنظمة "على أسس وطنية وديمقراطية"، وبتبني "برنامج سياسي يتجاوز أوسلو وتبعاته"، على التوازي مع مبادراتها للمصالحة. لكن هل كانت قرارات المنظمة، حتى قبل توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1992، تتخذ على أسس ديمقراطية؟ أم على أسس المحاصصة الفصائلية؟ وحتى لو اعترفت حركتا حماس والجهاد الإسلامي بوحدانية "شرعية" التمثيل، وحصره في هذه المنظمة، فهل فعلاً سيعاد بناء مؤسساتها استنادا إلى ما يفرضه الناخب الفلسطيني، بأي مكان كان، أم وفق المحاصصة الفصائلية؟ وقبل كل شيء، ماذا تبقى من "شرعية" المنظمة بعد اعترافها رسمياً بدولة الاحتلال، وتخليها عن الكفاح المسلح؟!
في المقابل، تتصرف حركة حماس، منذ انتهاء الانتفاضة الأولى، على أنها "البديل الوحيد" لمنظمة التحرير، وهذا من أهم الأسباب التي قادت، إلى جانب عوامل ذاتية وموضوعية أخرى، إلى تفاقم النزاع مع فتح، وصولاً إلى الانقسام، ومن ثم عزل قطاع غزة عن الكل الفلسطيني. لكن هل يمكن لحماس أن تقود فعلاً مسيرة التحرر الوطني؟ رغم سياساتها الإقصائية في القطاع، ورغم القمع الذي تواجه به حركات التحرر الاجتماعي (مثل حراك "بدنا نعيش" في العام 2019)، ورغم عملها وفق آليات حل الدولتين، حتى وإن لم تعلن ذلك صراحة!
لا يمكن فصل الجانب السياسي، حتى في مراحل التحرير الوطني، عن نظيره الاجتماعي، فالنضال من أجل التحرر الاجتماعي في سياق النضال ضد الاحتلال، شرط أساسي لإنجاز المهمات الثورية الاستراتيجية، وضمان عدم احتكار القرار السياسي في يد أقلية لا تعبر عن مصالح الجماهير الشعبية الأكثر تضرراً من وجود الاحتلال واستمراره.
كلتا الحركتين، فتح وحماس، تتصرفان على أنهما "الشرعية المطلقة"، وتغيّبان دور ومصالح القواعد الشعبية، سواء في الداخل أو الشتات، عن حساباتهما السياسية، فالأولى تتذرع بوهم "الرصاصة الأولى"، بينما تطرح الثانية ذاتها على أنها "البديل الوحيد"! أما اليسار الفلسطيني، الذي يحاول تصوير نفسه على أنه "التيار الثالث"، فلا يزال يدور في فلك القيادة اليمينية المتنفذة في م.ت.ف، منذ تبنيها مقاربة "الحل المرحلي".
رغم كل هذا، لا يزال الحديث يدور عن الوحدة الوطنية وكأنها مجرد مبادرة يطرحها فصيل ما، تقود إلى تصالح قيادات فتح وحماس، هذا اختزال للمسألة، إذ لا يمكن لأي وحدة أن تكون وطنية إن لم تكن شعبية في جوهرها، ولا يوجد أي فصيل فلسطيني قادر على قيادة النضال وحده، حتى لو توافقت كافة الفصائل على برنامج موحد واستراتيجية عمل واحدة، فإن نجاحها في قيادة النضال مرهون بدرجة الانخراط الشعبي في العمل النضالي.
ما نحتاجه اليوم هو بديل حقيقي، يتجاوز وهم الحل المرحلي، ويطرح برنامجاً ثورياً، انطلاقاً من مبدأ وحدة الأرض والهوية، والشراكة الشعبية النضالية، التي يجب أن تستمر حتى بعد إنجاز كافة مهمات مرحلة التحرر الوطني. هذا وحده ما سيفرض الوحدة الوطنية الشعبية على أرض الواقع، وليس مجرد اتفاق يعقد بين طرفين متنازعين على السلطة، برعاية رسمية عربية!