الثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا عام 1917 لم تكن ثورةً نحو الاشتراكية لفترةٍ طويلةً من الزمن، إذ اصطدمت بثورةٍ ستالينية مضادّةٍ، سلمت البلاد لطغمةٍ دكتاتوريةٍ مستبدةٍ، وتحالفت مع القومية البرجوازية في بلدان العالم كافّة، التي كانت تحتكم لمرجعية الأممية الثالثة في ذلك الوقت، وذلك بعد تصفية كلّ قادة البلاشفة، واختراع نظرية "الثورة على مراحل"، والتي أفضت إلى تولي البرجوازية مسؤولية إنجاز المهام الوطنية الديمقراطية في بعض دول الكومنتيرن، وتأسيس نظام رأسمالية الدولة في بعضها الآخر.
اليسار الفلسطيني لم يكن؛ بالطبع، بمنأى عن الإصابة بعدوى الستالينية، فقد كان يؤمن تمامًا بأنّ إنجاز مهمة التحرر الوطني يقتضي بالضرورة صياغة تحالفٍ استراتيجي مع البرجوازية، فرغم ادعائه بأنّ علاقته معها هي علاقة "وحدة وصراع"، إلّا أنّ ممارساته على أرض الواقع أفضت إلى تمكين القيادة اليمينية في منظّمة التحرير من فرض أجندتها، على الفصائل كافّة المنضوية تحت لواء هذه المنظّمة.
ليس هذا فحسب، بل إنّ الجبهة الديمقراطية كانت هي من قدم مقترح الحل المرحلي لياسر عرفات، والذي يعني هنا إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ على الأراضي المحتلة عام 1967 فحسب. حتّى الجبهة الشعبية تبنت هذا الخيار، رغم إصرارها في أدبياتها على تمسكها بكامل التراب الوطني الفلسطيني. أما الحزب الشيوعي الفلسطيني؛ الذي انخرط تحت راية منظّمة التحرير في ساحات النضال، كان قد تأخر في الانضمام إليها حتّى عام 1987، لاعترضه على ميثاقها عند تأسيسها، داعيًا إلى تبنّي مقاربة القبول بقرار الأمم المتّحدة رقم 181، أيّ الاعتراف بقرار التقسيم، مع عودة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا للقرار 194.
أما اليسار فلا يزال متمسكًا بعلاقته الاستراتيجية مع القيادات اليمينية سواء في منظّمة التحرير أو غيرها
وهكذا؛ سلم اليسار، منذ البداية، الدفة للقيادة اليمينية، بعد أن أسهم في تأسيس المقدمات النظرية لصيرورة التسوية مع الاحتلال الصهيوني، والتي وصلت إلى إبرام اتّفاقية أوسلو، استنادًا إلى النظرية المرحلية، وبالتالي إلغاء ميثاق منظّمة التحرير، والتخلي عن خيار الكفاح المسلّح، ومن ثم إقامة سلطةٍ في رام الله يكاد دورها يقتصر اليوم على التنسيق الأمني مع الاحتلال! أضف إلى هذا، أنّ كثيرًا من ممثلي اليمين الفلسطيني باتت تربطهم علاقاتٌ اقتصاديةٌ مشتركةٌ مع "إسرائيل"، ويرون في أيّة ثورةٍ عسكريةٍ محتملةٍ تهديدًا لمصالحهم!
لكن، قبل، وخلال، وحتّى بعد صياغة مقدمات التسوية النظرية بقليل، كان اليسار الفلسطيني، وخاصّة الجبهة الشعبية، لا يزال متمسكا بشغفه الثوري، بل وقادرًا على قيادة الجماهير الفلسطينية عل طريق التحرير الوطني، نظرًا لعملياته البطولية، التي استقطبت كثيرًا من الشابات والشبان خلال فترة السبعينيات. غير أنّ الإيمان بالستالينية قد دفعه إلى التنازل للقيادة اليمينية في منظّمة التحرير الفلسطينية، بل والدوران في فلكها إلى اليوم، تحت شعار "الوحدة الوطنية"، وكأن وحدة تلك الفصائل؛ التي تخلت اليوم عن خيار الشارع المتمثّل بالكفاح المسلّح، هي الرديف لوحدة الشعب الفلسطيني!
منذ عودة قيادات منظّمة التحرير الفلسطينية إلى الضفّة الغربية، تراجع الدور العسكري لليسار الفلسطيني تراجعًا لافتًا، باستثناء فترة الانتفاضة الثانية، وبعض عمليات "الرد" المتباعدة زمنيًا. وفي المقابل تزامنت مراحل عودة قيادة المنظّمة، التي اعترفت بدولة "إسرائيل"، مع تنامي ظهور وتأثير المقاومة الإسلامية تناميًا متسارعًا، سواء على المستوى النضالي العسكري، أو على المستوى الاجتماعي، طارحةً نفسها بديلٍ "ثوريٍ"، بل ونجحت في استقطاب تأييد غالبية أبناء الشعب الفلسطيني؛ في الداخل والخارج، لفترةٍ طويلةٍ من الزمن.
رغم أنّ حركة حماس اتجهت لاحقًا، في عام 2004 نحو الاندماج في النظام السياسي الفلسطيني، الناتج عن "اتّفاق أوسلو"، عندما شاركت في الانتخابات التشريعية، ورغم نزاعها على السلطة مع حركة فتح، الذي قاد إلى الانقسام، وتأسيس حكومةً أخرى في قطاع غزّة؛ الذي يعاني أهله ظروف قهرٍ لا إنسانيةً بسبب الحصار الصهيوني، لا يزال حضورها وتأثيرها في الشارع، إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي، أعلى بكثير من ما يمكن لليسار الفلسطيني بلوغه اليوم، وذلك بسبب الاشتباك العسكري "شبه المستمرّ" مع قوات الاحتلال، ونتيجة تفاعلها المباشر والفاعل مع الجماهير، من خلال المؤسسات الاجتماعية والمساجد والمبادرات الشعبية، التي تطلقها المقاومة الإسلامية بين فترةٍ وأخرى.
أما اليسار فلا يزال متمسكًا بعلاقته الاستراتيجية مع القيادات اليمينية سواء في منظّمة التحرير أو غيرها، حتّى كاد دوره؛ أيّ اليسار، يقتصر على إجراء مصالحةٍ بين حركتي فتح وحماس، لبناء سلطةٍ تضم "الأطراف كافّة"، عوضًا عن طرح مشروعٍ ثوريٍ حقيقيٍ، بعيدًا عن المرحلية والحلول التسووية، والالتحام مع الجماهير، التي لن تتبع سوى من يعبر عن مصلحتها الأساسية، المتمثّلة بالمقاومة المستمرّة بأشكالها كافّة، وفي مقدمتها الكفاح المسلّح، حتّى تحرير كلّ فلسطين.
في النهاية، حتّى لو نجح اليسار في تحقيق "المصالحة الوطنية"، وفي اقتسام السلطة بين فتح وحماس بمشاركة "الأطراف السياسية كافّة"، فإنّ هذه السلطة لن تكتسب الشرعية الشعبية، إلّا عبر طرح مشروعٍ ثوريٍ يستند إلى مبدأ وحدة الأرض والشعب والهوية، عوضًا عن وحدةٍ فصائليةٍ سلطويةٍ تحت ظلّ الاحتلال. الوحدة الشعبية وحدها هي الوحدة الوطنية الحقيقية، وأيّ فصيلٍ بإمكانه تحقيق هذه الوحدة، وقيادة الجماهير، ولكن عبر الثورة المستمرّة فقط.