يقف اليمن على مفترق طرق مرحلة بالغة الحساسية. ففي مقابل التحركات الدولية الحثيثة لنزع فتيل النزاع المعقد منذ 6 سنوات، يتحرك اللاعبون الإقليميون لقبض ثمن الاستنجاد بهم، والحصول على غنائم حرب لم تضع أوزارها بعد، وذلك من أطراف داخلية لن يكون أمامها سوى التفريط بموانئ وجزر، لطالما كانت هدفاً للأطماع منذ عقود.
وأعاد الجدل المثار طيلة الأيام الماضية حول تشييد الإمارات قاعدة عسكرية في جزيرة ميون، فتح باب النقاش حول السيادة المهدورة، من قبل أطراف تزعم أنها تقاتل تحت راية استعادة اليمن من المشاريع الخارجية، فيما تذعن لحلفائها الإقليميين وتساهم في تحويله إلى أرض مستباحة. ولا تقف جزيرة ميون كمثال وحيد للسيادة المهدورة في البلد الذي يرزح تحت وطأة حرب أشعلها الحوثيون، عقب اجتياح صنعاء أواخر عام 2014، حيث تخضع عدد من الجزر والمنافذ الجوية والبرية والبحرية لنفوذ فصائل وجماعات مسلحة، بعيداً عن حكومة تحظى باعتراف دولي، لكنها لم تجد موطئ قدم داخل أراضيها.
التحركات المريبة في سقطرى وميون بدأت تتعاظم منذ عام 2017
ولم يكن الحديث عن الأطماع في الجزر اليمنية وليد اللحظة. فالتحركات المريبة في سقطرى وميون بدأت تتعاظم منذ عام 2017، غير أن التقارير الأخيرة لوكالة "أسوشييتد برس" استندت إلى صور أقمار اصطناعية، وكشفت عن قاعدة جوية غامضة في جزيرة ميون المطلة على مضيق باب المندب، وظهور مدرج بطول 1.85 كيلومتر. وخلافاً لجزيرتي ميون وسقطرى، تبدو الحكومة الشرعية مغيبة أيضاً عما يدور في مطاري المكلا وعدن وموانئ الضبّة وبلحاف، فضلاً عن المنافذ البرية والبحرية لمحافظة المهرة المحاذية لسلطنة عمان، حيث تخضع جميع هذه المنافذ الاستراتيجية، إما لقوات سعودية وإماراتية خالصة، أو فصائل محلية موالية لهما.
وكما هو الحال مع السيادة المهدورة في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، لا يبدو الأمر مختلفاً كلياً في مناطق نفوذ جماعة الحوثيين شمالي وغرب اليمن، حيث تعاظم الدور الإيراني بشكل لافت منذ أواخر العام الماضي، وخصوصاً عقب الوصول الغامض للسفير الإيراني حسن إيرلو إلى صنعاء، والذي يتحرك كحاكم فعلي للعاصمة اليمنية، فضلاً عن مجاهرة "الحرس الثوري" الإيراني بالوقوف وراء تسليح مليشيات الحوثيين، وتدريبها عبر خبراء عسكريين يوجدون داخل الأراضي اليمنية.
ويشكل الموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به اليمن هدفاً للقوى الإقليمية الساعية لتوسيع رقعة نفوذها العسكري في البحار. ففي حين تبدو جزيرتا ميون وسقطرى مطمعاً للسعودية والإمارات لتأمين ممرات الملاحة ومواجهة النفوذ التركي والإيراني، تبدو باقي الموانئ والجزر الخاضعة للحوثيين، وعلى رأسها جزيرة كمران، مطمعاً لإيران في ابتزاز الغرب، خصوصاً في ظل تقارير دولية تتهم طهران بإدارة سفينة استخباراتية تدعى "سافيز"، يقال إنها "قاعدة أمامية سرية" لـ"الحرس الثوري" في مضيق باب المندب، فيما لا وجود لتفسير مدني شرعي لدورها الغامض في البحر الأحمر.
صحوة شعبية وصمت حكومي
وخلافاً للبرود الذي تم التعامل به مع تدخلات سابقة في سقطرى وبلحاف والمكلا، أثارت القاعدة الجوية الغامضة في جزيرة ميون صحوة شعبية غير مسبوقة في أوساط اليمنيين. كما وّجه برلمانيون استجواباً لرئيس الحكومة معين عبد الملك حول حقيقة ما يجري دون علم الدولة. ولم يكن السخط الشعبي، والاستجواب المقدم من النائبين علي المعمري ومحمد أحمد ورق، كافياً لإخراج الحكومة عن صمتها. وفي وقت كان الشارع اليمني ينتظر إجابات من قيادات الدولة، كان التحالف، الذي تقوده السعودية، يقر، أواخر الأسبوع الماضي، أن المعدات التي توجد في ميون تابعة له، دون الكشف عن هوية الجهة التي تقوم ببناء المنشأة.
وزير الخارجية في حكومة المحاصصة أحمد عوض بن مبارك كان الوحيد الذي تطرق للقضية من جانب الشرعية، إذ أعلن "عدم وجود اتفاق مع أي دولة أجنبية لبناء قواعد عسكرية داخل اليمن، باعتبار ذلك قضية سيادية تستدعي موافقة البرلمان". وقال "كامل التراب اليمني ومياهه وسمائه ثوابت أساسية لا يملك أي طرف الحق بأن يتنازل عنها". وعلى الرغم من التصريحات التي اعتبرها الشارع اليمني إيجابية، وخصوصاً بعد إقراره بوجود رحلات سياحية إلى سقطرى من دون إذن الحكومة، إلا أنه كان من اللافت أن حديث بن مبارك، الذي خصّ به وكالة "سبوتنيك" الروسية على هامش زيارته لموسكو الأسبوع الماضي، لم يجد طريقه للنشر في الوكالة الرسمية. كما لم يُعد الوزير نشره على حسابه الرسمي في موقع "تويتر".
أثارت القاعدة الجوية الغامضة في جزيرة ميون صحوة شعبية غير مسبوقة في أوساط اليمنيين
وحتى غد الثلاثاء، موعد انتهاء المدة المطلوبة للرد الحكومي على استجواب البرلمان، لا يبدو أن مجلس النواب، في نسخته الخاضعة للشرعية، سيخرج ببيان شديد اللهجة يندد بما يجري في جزيرة ميون، كما فعل البرلمان الخاضع لسيطرة الحوثيين في صنعاء مطلع مارس/ آذار 2017، عندما أعلن استنكاره لأي إجراءات أو اتفاقيات تنتقص من سيادة اليمن وأراضيه والجزر التابعة له، واعتبرها "تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية".
وتبدو الحكومة فاقدة الحيلة في استعادة السيادة المهدورة، ولن تحقق ذلك، إلا في حال فرض سيادتها على كافة الأراضي اليمنية، بما فيها الخاضعة للحوثيين، أو التوقيع على اتفاق واضح وصريح مع دول التحالف، ينظم مثل هذه القضايا، وفقاً لخبراء. وأكدت مصادر قانونية، لـ"العربي الجديد"، أن الموقف القانوني لليمن يعتمد على ما إذا كانت هناك اتفاقية بين الحكومة والتحالف، تسمح بمثل هذه الاستحداثات، فهذا أمر قانوني وصريح، وما عدا ذلك مخالفة قانونية. ولفتت إلى أنه من المرجح عدم وجود أي اتفاق مسبق على أدوار التحالف، وهو ما ساعد الإمارات والسعودية كثيراً على مواصلة العبث بأراضي اليمن.
لماذا ميون؟
رغم مساحتها الصغيرة الممتدة على صخور بركانية بمساحة 13 كيلومتراً مربعاً فقط، إلا أن جزيرة ميون كانت منذ القدم مطمعاً لكافة القوى الاستعمارية التي تناوبت على احتلالها، بهدف السيطرة على ممرات الملاحة. فبعد طرد الحوثيين من عدن منتصف عام 2015، كانت جزيرة ميون ومضيق باب المندب الهدف التالي لقوات التحالف. ومطلع أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، تمت السيطرة عليها، بعد معركة طاحنة سقط فيها عشرات القتلى من الطرفين. وعقب سنوات من تمركز قوات جنوبية، مدعومة إماراتياً، قالت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، إن الجزيرة تخضع منذ نحو عامين لسيطرة قوات طارق صالح، نجل شقيق الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، المرابطة في الساحل الغربي لليمن.
نبيل الشرجبي: يمكن استخدام جزيرة ميون اقتصادياً وعسكرياً في آن واحد
ويبدو أن تعاظم الحديث عن أهميتها وكذلك التنازع على جغرافيتها، بالقول إنها تتبع محافظة تعز حسب آخر تقسيم إداري، وليس محافظات الجنوب كما كان قبل تحقيق الوحدة، أثار اهتمام قوات "المجلس الانتقالي الجنوبي"، التي أعلنت، الخميس الماضي، "إجراء تدريبات مكثفة لقوات الدعم والإسناد في جزيرة ميون". ومع استبعاد حدوث صدام محتمل بين قوات "المجلس الانتقالي" وقوات طارق صالح حول الطرف المؤهل لحماية الجزيرة، كونهما يتلقيان دعماً من أبوظبي، فإنه يبدو أن الصخب الذي أحدثته ميون سيجعل السعودية تفكر جدياً بوضع اليد عليها بشكل كامل وإزاحة الإمارات، خصوصاً أن هذا الأمر سيجعلها قادرة على مراقبة ممرات الملاحة الممتدة من خليج عدن والبحر العربي شرقاً، وكذلك الممرات من البحر الأحمر وحتى قناة السويس غرباً.
ووفقاً للباحث اليمني وأستاذ علم إدارة الأزمات، نبيل الشرجبي، فإن جزيرة ميون واحدة من الجزر القليلة عالمياً التي يمكن استخدامها اقتصادياً وعسكرياً في آن واحد، وهي ميزة استراتيجية لا تتمتع بها الكثير من جزر العالم. ولفت إلى أنه "لا يمكن تأمين البحار السبعة، أو الوصول إلى قارتي آسيا وأفريقيا، أو التحكم في المنطقة العربية والوصول إلى جنوب شرق آسيا وجنوب جنوب آسيا إلا بالسيطرة على سقطرى، وتأمين ذلك عبر السيطرة على جزيرة ميون". وقال الشرجبي، لـ"العربي الجديد"، إن "القرن 21 هو قرن الصراع المائي للسيطرة على الثروة. وهناك نظرية تقول إن من يستطيع السيطرة على أكبر عدد من الممرات، هو من يقود القرن 21 اقتصادياً. وهذا التفكير جدي لدى الإمارات، وتتبعها السعودية".
ولم يكن الطموح الإماراتي ـ السعودي هو الوحيد، حيث تزايدت رغبة القوى الإقليمية الناشطة في الملف اليمني، وخصوصاً تركيا وإيران، للسيطرة على ميون، وقد جرت محاولات كثيرة من أجل التوصل لهذا الأمر خلال العامين الماضيين. وعلى الرغم من بيان التحالف السعودي الأخير، الذي زعم أن الهدف من وراء الإنشاءات الحاصلة في ميون هو دعم المعركة ضد الحوثيين، إلا أنه يقول في الباطن إن هدفه هو حماية الجزر من الأطماع التركية والإيرانية، وهي شماعة عُلقت عليها كافة أخطاءهم داخل اليمن، وفقاً لخبراء.
وتبدو الجزيرة مهمة للإمارات بدرجة أساسية، إذ أوضح الشرجبي أن أبوظبي بدأت بالتوجه بشكل كبير نحو أفريقيا، وهي لن تتمكن من السيطرة على شرق أفريقيا وثرواته، وكذلك الوصول إلى المخزون العالمي من النفط، سوى بالسيطرة على جزيرة ميون، التي تمنحها أيضاً ميزة أخرى، هي تهديد النفوذ التركي المتصاعد في الصومال. وخلافاً لذلك، تؤكد تقارير دولية أن سيطرة الإمارات على جزيرة ميون، سيزيد من وزنها لدى المجتمع الغربي، حيث سيكون التواجد الإماراتي في مضيق باب المندب مصدر اطمئنان للدول الكبرى، التي لن تضطر لإرسال فرقاطات إلى البحر الأحمر، أو تفكر باحتلال الجزيرة مباشرة لتأمين خطوط الملاحة.
وتحدث الحوثيون عن طموح إسرائيلي للسيطرة على البحر الأحمر، والذي لن يتم سوى بالسيطرة على جزيرة ميون وباب المندب. وقال وزير الإعلام في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دولياً ضيف الله الشامي، في تصريحات سابقة، إن "العدو الإسرائيلي يرى اليمن خطراً عليه بموقعه الاستراتيجي، ويعمل على إيجاد موطئ قدم له في اليمن عبر دور إماراتي". وكانت إسرائيل حاولت بالفعل في سبعينيات القرن الماضي احتلال جزيرة ميون، وذلك لمنع تكرار الحصار الذي تعرضت خلال حرب أكتوبر 1973، لكنها واجهت حينها ردة فعل مصرية، بعد إرسال القاهرة مدمرات إلى ميون لمواجهة أي حالة طوارئ.