نظمت، يوم أمس السبت، الانتخابات التشريعية السادسة عشرة منذ استقلال تونس سنة 1956، والرابعة منذ ثورة "الحرية والكرامة" في 2011، وسط مقاطعة غالبية القوى الحزبية والمدنية وتشكيك في نتائج المشاركة والإقبال.
وشارك التونسيون، يوم أول من أمس، في انتخابات تشريعية وفق الدستور الجديد الذي صاغه الرئيس قيس سعيّد بمفرده، بعد تمريره في استفتاء شعبي يوم 25 يوليو/ تموز 2022.
وسجلت نسبة مشاركة هي الأضعف منذ عرفت البلاد انتخابات ديمقراطية بعد الثورة، حيث سجلت انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 نسبة مشاركة 52%، وفي انتخابات البرلمان سنة 2014 كانت نسبة المشاركة هي الأعلى بـ69%، أما في سنة 2019 فكانت في حدود 41,3%، لتكون انتخابات سنة 2022 هي الأضعف على الإطلاق بـ 8,8% فقط.
وجاءت هذه الانتخابات التشريعية المبكرة قبل نهاية المدة النيابية الثانية لبرلمان 2019 المنتخب وفق دستور 2014، وذلك على خلفية حل الرئيس سعيّد البرلمان في 30 آذار/مارس 2022، بعد تجميد أعماله منذ تفرده بالسلطات بقرارات، وصفها خبراء القانون الدستوري بـ"المخالفة للدستور".
وستفرز انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول برلمانا جديدا، في وقت يتمسك فيه جزء هام من برلمانيي 2014 بشرعيتهم المعترف بها من البرلمانات الدولية ويعتبرون أنهم ما زالوا برلمانيين جرى الانقلاب عليهم.
ومن ضمن البرلمانات المتعاقبة على تونس، سجل التاريخ برلمانييْن تأسيسيّيْن، انتخب الأول مباشرة بعد استقلال البلاد في 25 مارس/آذار 1956 ويتكون من 98 عضوا وقتها، وتولى المجلس القومي التأسيسي المصادقة على أول دستور للبلاد في 1 يونيو/ حزيران 1959.
وجاء ثاني مجلس تأسيسي إثر ثورة "الحرية والكرامة"، إذ انتخب في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 بعد خلع نظام بن علي، فيما جرت المصادقة على دستور الثورة في 27 يناير/كانون الثاني 2014.
وكان المجلس التشريعي التونسي يسمى مجلس الأمة منذ تأسيسه وحتى 1981، حيث غُيّرت التسمية إلى مجلس النواب، ثم أصبح مجلس نواب الشعب بعد إقرار دستور 2014.
تاريخ الانتخابات التشريعية في زمن بورقيبة
ويوزع خبراء القانون تاريخ الانتخابات التشريعية إلى حقبات كبرى، زمن بورقيبة، وبن علي، وبعد الثورة، ومرحلة قيس سعيّد.
وكانت الانتخابات الأولى زمن حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهو أول رئيس للجمهورية التونسية منذ إلغاء الملكية وبعد استقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي (25 يوليو/ تموز 1957 - 7 نوفمبر /تشرين الثاني 1987).
وانتظمت زمن حكم بورقيبة أول انتخابات تشريعية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1959، وهي الانتخابات الأولى من نوعها بعد دستور تونس 1959 الجديد، مندون اعتبار انتخابات المجلس القومي التأسيسي قبلها، إذ فاز خلالها الحزب الاشتراكي الدستوري بكل المقاعد بنسبة 100% وعددها 90 مقعدا، فيما لم يحصل الحزب الوحيد الذي نافسه على أي مقعد، وهو الحزب الشيوعي التونسي.
وفي العام 1964، انتظمت الانتخابات التشريعية بعد محاولة الانقلاب على بورقيبة عام 1962، مثلت هذه الفترة منعرجا بعد محاكمة بورقيبة وقضائه من وصفهم بالمتآمرين، وإقراره منع أي نشاط حزبي خارج عن الحزب الحاكم، ما أفضى إلى القضاء على التعددية الحزبية تماما وهيمنة الحزب الواحد.
وفي تلك الانتخابات، دخل الحزب الاشتراكي الدستوري، حزب الرئيس، من دون أي منافسة، وفاز بكل مقاعد مجلس النواب وعددها 101.
وشهدت تونس 7 انتخابات تشريعية زمن بورقيبة، (1956- 1959 - 1964- 1969 -1974 -1979 -1984). ووصفت منذ رئاسة بورقيبة البلاد بـ"انتخابات الحزب الواحد"، لطالما فاز الحزب الحاكم الاشتراكي الدستوري بأغلبية المقاعد.
وتداول 3 رؤساء على رئاسة مجلس الأمة زمن حكم بورقيبة، وهم الجلولي فارس (1956-1964)، ثم الصادق مقدم (1965-1981)، ثم محمود المسعدي (1981-1987).
زمن بن علي.. 5 انتخابات تشريعية
وبعد انقلاب الوزير الأول زين العابدين بن علي 7 نوفمبر/ تشرين الأول 1987، انتظمت أول انتخابات تشريعية في العام 1989، حيث وقّعت 6 أحزاب معارضة على "ميثاق وطني" مع حكومة بن علي في نوفمبر/تشرين الثاني 1988، من بينهم الإسلاميون، وبذلك تمكن 350 مرشحا من دخول غمار المنافسة على 141 مقعدا برلمانيا.
وفي 2 مارس/آذار 1989، أعلن بن علي حل برلمان 1986، ودعا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية تقام في 9 إبريل/ نيسان 1989، وتمكن مرشحو الحزب الحاكم وقتها، أي التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الاشتراكي الدستوري حتى 1988)، من الفوز بجميع مقاعد مجلس النواب الجديد، رغم المنافسة القوية للمستقلين والإسلاميين.
وشهد زمن حكم بن علي 5 انتخابات تشريعية (1989- 1994- 1999-2004 - 2009)، حيث تميزت بفوز حزب التجمع الحاكم بأغلبية المقاعد، حيث سجلت انتخابات عام 1994 أول مشاركة للأحزاب المعارضة للحزب الحاكم بدخول 6 أحزاب وصفت بالكرتونية من قبل الخبراء، ليسجل فوز الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) بـ144 مقعدا في البرلمان، تلته حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بـ10 مقاعد، وحركة التجديد بـ4 مقاعد، والاتحاد الديمقراطي الوحدوي بـ3 مقاعد، وأخيرا حزب الوحدة الشعبية بمقعدين.
وترأس البرلمانات المتعاقبة زمن بن علي 4 رؤساء، هم: رشيد صفر (1978-1988)، وصلاح الدين بالي (1988-1990)، والباجي قائد السبسي (1990-1991)، والحبيب بولعراس (1991-1997)، وفؤاد المبزع (1997-2011).
بعد الثورة.. 3 انتخابات حرة ونزيهة وانتخابات سعيّد الأخيرة
وبعد ثورة 2011، شهدت البلاد نقلة سياسية هيكلية على مستوى الانتخابات، وصفت من قبل مراقبين دوليين ومحليين بأول انتخابات تعددية حرة ونزيهة وشفافة، حيث انتظمت 3 انتخابات تشريعية (2011 و2014 و2019) قبل دعوة الرئيس سعيّد إلى انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022 الحالية.
وشهدت انتخابات 2011 مشاركة واسعة من الناخبين والأحزاب والمستقلين، حيث أقبل على التصويت أكثر من 4 ملايين ناخب، فيما فاز حزب حركة النهضة بـ89 مقعدا من جملة 217، يليه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بـ29 مقعدا، ثم حزب العريضة الشعبية بـ26 مقعدا.
كما حصل حزب التكتل من أجل العمل والحريات على 20 مقعدا، والحزب الديمقراطي التقدمي 16 مقعدا، ومجموعة أحزاب أخرى وشخصيات مستقلة حصلت على مقاعد تراوحت بين مقعد وحيد و5.
وترأس برلمانات مرحلة ما بعد الثورة 3 رؤساء حتى حل سعيّد البرلمان في 30 مارس/ آذار الماضي، وهم: مصطفى بن جعفر (2011-2014)، ومحمد الناصر (2014-2019)، وراشد الغنوشي (2019-2021).
وانتخب التونسيون أمس برلمانا جديدا وسط تشكيك واسع من قبل المناهضين للانقلاب والأحزاب المقاطعة للانتخابات، وأهمها: جبهة الخلاص الوطني التي تضم مجموعة من الأحزاب، من بينها حزب النهضة، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، وجبهة الأحزاب الاجتماعية التي تضم 5 أحزاب: التيار الديمقراطي والجمهوري، والعمال، والتكتل، والقطب، إلى جانب الحزب الدستوري الحر، وآفاق تونس، والاتحاد الجمهوري الشعبي.
في مقابل ذلك، شاركت في الانتخابات مجموعة من الأحزاب والمستقلين المساندين لمسار 25 يوليو/ تموز، والذين يعتبرونه مسارًا تصحيحيا للمسار السياسي وإصلاحا لما أفسده الحكام خلال العشرية الماضية، وأبرز المشاركين: حركة الشعب، والتيار الشعبي، وحراك 25 جويلية، وحراك لننتصر للشعب، والشعب يؤسس.
البرلمان الجديد.. عقبات في ملء مقاعد دوائر الخارج
وبحسب القانون الانتخابي، يفترض الإعلان عن تركيبة البرلمان النهائية قبيل منتصف مارس/آذار المقبل، الذي يشترط حصول المرشح على الأغلبية المطلقة من أصوات ناخبي دائرته، (أي 50% زائد واحد)، ما سيفرض على عدد منهم خوض جولة انتخابية ثانية بين المرشحين الأكثر أصواتا.
ويرجح أن ينطلق البرلمان منقوصا من أعضائه بـ154 عضوا فقط من جملة 161، باعتبار أن 7 دوائر بالخارج لم تجر فيها انتخابات لغياب أي ترشحات.
وينتظر تنظيم انتخابات جزئية في الدوائر السبع في الخارج لسد الشغورات في البرلمان الجديد، وهي سابقة لم يعرف لها مثيل في البرلمانات المتعاقبة منذ الاستقلال.
أستاذ القانون الدستوري شاكر الحوكي: ليس صدفة ألا تلقى الانتخابات من الناس تقريبا أي اهتمام أو متابعة رغم الحملة الدعائية البائسة التي تقوم بها الهيئة، والأموال الطائلة التي رصدت لهذا الاستحقاق الباطل.
واعتبر الرئيس التونسي قيس سعيّد، أمس، أن "الانتخابات التشريعية فرصة تاريخية للتغيير، ولقطع الطريق على من نصبوا أنفسهم أوصياء على تونس"، وفق تعبيره.
وخلال إدلائه بصوته، قال سعيّد: "ليتذكر الذين سيتم انتخابهم اليوم أو في دورة ثانية أنهم سيبقون تحت رقابة ناخبيهم، فإذا تنكروا لمن انتخبهم ولم يعملوا صادقين من أجل تحقيق ما وعدوا به، فوكالتهم بالإمكان سحبها كما ينص على ذلك القانون الانتخابي (…) ولتكن السيادة للشعب لتحقيق الحرية والكرامة ولتركيز سيادة تونس حتى تصدر القوانين من المجلس النيابي القادم معبرة عن رغبات شعبنا وتطلعاته في العزة والحرية والكرامة".
تراجع الديمقراطية
وقال أستاذ القانون الدستوري خالد الدبابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن الانتخابات زمن بورقيبة كانت لا معنى لها، خصوصا بعد التعديل الدستوري سنة 1975 الذي منح بها نفسه الرئاسة مدى الحياة.
الدبابي: كانت الانتخابات منذ 2011 ديمقراطية ونزيهة وشفافة بأتم معنى الكلمة، فيها حرية وتعددية حقيقية رغم بعض التجاوزات والهنات فيها وفي المنظومة الحزبية الهشة
وكانت الانتخابات التشريعية زمن بورقيبة تقوم على الحزب الواحد وتوصف بالانتخابات غير الديمقراطية وأنها لا تستجيب للمعايير الدولية، وسط غياب الحرية والتعددية وتكافؤ الفرص، كما زوّرت الانتخابات التشريعية حسب ما نقله المؤرخون في تلك الفترة، وخصوصا الانتخابات السابقة لآونها سنة 1981.
وتابع الدبابي: "تواصل نفس الشيء زمن بن علي على مستوى الانتخابات رغم تخليه عن الرئاسة مدى الحياة في الدستور، ولكن انتقلنا من نظام الحزب الواحد إلى الحزب المهيمن، وكان هناك التجمع الدستوري الديمقراطي المهيمن ومعه أحزاب كرتونية صنعها النظام، لإيهام الرأي العام الدولي والداخلي بأن هناك انتخابات تعددية وديمقراطية ونزيهة وشفافة، وكنا نلاحظ النسب التي كانت تصدر في شكل 99.99% لفائدة حزب النظام".
وبحسب الدبابي، فإن تونس قد تطورت منذ 2011 على مستوى الانتخابات، بداية من التأسيسية ثم التشريعية والرئاسية 2014 و2019، مشيرًا إلى أن لا أحد يستطيع إنكار الطابع التعددي للانتخابات، حيث كانت انتخابات ديمقراطية ونزيهة وشفافة بأتم معنى الكلمة، فيها حرية وتعددية حقيقية رغم بعض التجاوزات والهنات فيها وفي المنظومة الحزبية الهشة، بحسب وصفه.
وقال الدبابي إن الصبغة الديمقراطية للانتخابات ضعيفة جدًا، وإن الانتخابات الأخيرة أعادت تونس إلى الوراء، متهما هيئة الانتخابات بالتحول إلى هيئة للإشراف على انتخابات ينظمها رئيس الجمهورية.
لا انتخابات إلا بعد الثورة
من جهته، قال أستاذ القانون الدستوري ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية، شاكر الحوكي، خلال حديث مع "العربي الجديد"، إن الانتخابات (رئاسية وتشريعية) كانت منذ الاستقلال مجرد وسيلة لإضفاء نوع من الشرعية الزائفة والمصطنعة على الحكام.
الحوكي: "بعد 25 جويلية فقدت الانتخابات كل رهاناتها السياسية خصوصا بعد أن أعلنت معظم الأحزاب الوازنة والجدية مقاطعتها لها".
وأضاف: "كان الجميع يعلم بالنتيجة قبل الإعلان عنها والجميع يعرف مآلاتها. فلا فرق هنا بين الزمن البورقيبي والزمن النوفمبري (بن علي) اللهم إذا استثنيا ما أعلنه بورقيبة لنفسه من رئاسة مدى الحياة منذ الستينيات، أو استثنينا الانتخابات التي جرت في مطلع التسعينيات وأسفرت عن صعود الإسلاميين في الانتخابات التشريعية في ذلك الوقت، بشكل لم تتوقعه السلطة الرسمية، وهو ما دفعها إلى الانقلاب عليها ووضع اليد على المحطات الانتخابية التي جرت بعد ذلك، وإقصاء حركة الاتجاه الاسلامي من الحياة السياسية، وكل ذلك في محاولة لتجنب أي شكل من أشكال المفاجآت مستقبلا".
وتابع الحوكي قائلا: "في الحقيقة لم تعرف الانتخابات في تونس مسارها الطبيعي والديمقراطي إلا بعد الثورة، حيث تميزت كل المحطات الانتخابية بقدر معقول من النزاهة والشفافية والحرية، ناهيك عن حياد الإدارة واستقلالية الهيئة الوطنية المشرفة على الانتخابات".
وبحسب ما يقول الحوكي، فإن الرهانات السياسية، بحدتها وسقوفها العالية، هي ما جعل المؤسسات الدولية الحكومية وغير الحكومية تعترف بالديمقراطية التونسية بوصفها ديمقراطية حقيقية وجدية.
واستدرك قائلا: "وأما في زمن الانقلاب (بعد 25 جويلية 2021)، فقد فقدت الانتخابات كل رهاناتها السياسية، خصوصا بعد أن أعلنت معظم الأحزاب الوازنة والجدية مقاطعتها لها".
وتابع: "وتبدو هذه الانتخابات اليوم وكأنها استجابة لشهوة الرئيس المنقلب في أن تجرى هذه الانتخابات طبقا للاقتراع على الأفراد، كما كان يدعو إلى ذلك منذ 2012 لترذيل الحياة السياسية أكثر فأكثر، وكل ذلك خدمة لرجال المال والفساد واللوبي الفرنسي على وجه الخصوص، وهما الحاكمان الحقيقيان للبلاد بالأمس واليوم وغدا".
وأضاف: "ليست صدفة أنها لا تلقى من الناس تقريبا أي اهتمام أو متابعة رغم الحملة الدعائية البائسة التي تقوم بها الهيئة، والأموال الطائلة التي رصدت لهذا الاستحقاق الباطل، والحال أن الشعب يعيش الفقر والجوع ناهيك عن نقص الأدوية والمواد الغذائية".