في النهاية، حسم بايدن الجدل بعد اجتماعه مع مجموعة السبع، وقرر التقيد بموعد الـ 31 من آب الجاري لاختتام عملية الرحيل من أفغانستان وطيّ صفحة حرب العقدين. وربطه ذلك باستمرار التعاون من جانب "طالبان"، ومطالبته الجهات المعنية في الإدارة بوضع خطة لمواجهة الحالات الطارئة، كان من باب التحوّط وحفظ خط الرجعة. وللمرة الثانية يصرّ على التعجيل، وهو أصلاً مستعجل في الخروج. سبق له أن قدّم الموعد من 11 سبتمبر/أيلول إلى آخر أغسطس/آب. ولعل تسارع الرحلات الجوية وانتظامها في اليومين الأخيرين، وتراجع حالة الفوضى والتخبط التي رافقت الأيام الأولى في مطار كابول، كله ساهم في قراره. بالإضافة إلى ذلك، يُعتقد أن اجتماع مدير السي آي إيه وليام بيرنز أمس في كابول مع القيادي الطالباني الكبير الملا عبد الغني برادر، قد انتهى إلى ما صبّ في ترجيح كفة التزام موعد آخر الشهر.
ويُشار في هذا الخصوص إلى أنّ كثرة إشارات المسؤولين في الخارجية والبنتاغون والبيت الأبيض إلى "التعاون والتواصل" مع قيادة الحركة والتنويه أحياناً "بتسهيلاتها"، ترك الانطباع بأنّ هذه الخطوط المفتوحة تتعدى، على الأرجح، الجانب الأمني المتعلق بالتسهيلات المطلوبة لوصول المغادرين، وخاصة الأميركيين إلى المطار.
وفي هذا السياق، لا يُستبعد كذلك أن يكون قرار بايدن قد جاء في إطار ترتيب من شقين: واحد صريح يقضي بإعلان وقف العملية رسمياً في وقتها المحدد. وشق آخر ضمني تتواصل بموجبه عملية التسفير بعد يوم 31 للباقين، إذا بقي، من المغادرين الموجودين في هذا التاريخ داخل تخوم المطار. لكن هذه التقديرات قد لا تصمد، لكونها مبنية على أرضية زئبقية سريعة التغيير. ويبدو من شبه تأكيدات البنتاغون اليوم، أنّ الإمكانية متوافرة، وبثقة، إلا إذا تدخلت عوامل خارجة عن الإرادة مثل تقلبات الطقس والأحوال الجوية، لتنفيذ خطة الترحيل ضمن المهلة المقررة.
في ضوء خطاب الإدارة وأولوياتها وحيثياتها، يبدو أنّ الرئيس بنى قراره على عدة عوامل واعتبارات، يحتل فيها حرصه على تمرير هذه الوصلة الزمنية الدقيقة المحفوفة بكثير من المخاطر بسلام. أو بأقل الخسائر. فهو لا يحتمل تطوراً أو وقوع حادث من العيار الكبير يكون بمستوى نكسة قاسية تُحسب عليه نتيجة لقراره "المتسرع" في الانسحاب. الأيام الأولى في مطار كابول هزّت، بل هددت وضعه الداخلي، وبالتأكيد الخارجي. لم يعد بقدرته احتواء المزيد من الخسائر، والضمان الأهمّ أن يقفل على العملية بالشمع الأحمر في أقرب وقت، أي في الـ31 من الجاري.
يدفع استعجاله هذا، أن الكونغرس يعود من إجازته الصيفية في 6 سبتمبر/أيلول المقبل، مجلس النواب عاد اليوم، وأمامه مشروع البنية التحتية الذي ربط بايدن رئاسته به. إزاحة الموضوع الأفغاني قبل هذه العودة ومن دون تداعيات مباشرة ومكلفة، يحرم خصومه الجمهوريين ورقة وازنة ضده، الجدل في مدى صوابية الانسحاب من حيث المبدأ، لا يؤذيه في الوقت الراهن، ما بقيت أكثرية الشارع معه. وبكل حال، تبقى الاعتراضات عليه محصورة في العامل الثالث المحتمل أن يكون قد أدى دوره في القرار، وهو أن تقليص المدة وعدم تمديدها من شأنه الحد من حجم اللجوء الأفغاني إلى أميركا والغرب بعد عودة "طالبان" إلى الحكم. كثير من المحافظين كانت ردودهم باردة على استقبال أعداد كبيرة من الأفغان باستثناء الذين تعاونوا مع القوات الأميركية هناك. وكان من الواضح أن سعي الإدارة مع العديد من الدول لاستقبال قسم كبير من هؤلاء، يعكس حرصها على خفض عدد الذين تعتزم استقبالهم في أميركا، وذلك لقطع الطريق على اعتراضات المحافظين واستخدامهم هذه الورقة ضد الرئيس في الانتخابات، ولا سيما أنّ المآخذ عليه كبيرة في هذا المجال، جراء ما يقال عن تساهله مع اللاجئين القادمين من بلدان أميركا اللاتينية عبر الحدود الجنوبية مع المكسيك.
إلى جانب ذلك، ثمة عامل آخر قد يكون دخل في الحسبان، ويتعلق بحسابات البيت الأبيض لترك الخطوط مفتوحة حتى لا نقول لبناء الجسور مع نظام "طالبان"، التي أوحى بها التعاون بين الجانبين، وإيفاد مدير السي آي إيه إلى كابول للتباحث مع قيادتها. واهتمام الإدارة بتنظيم مثل هذه العلاقة ينطلق، على ما يبدو، من الحرص على حمل "طالبان" على التزام ما جاء في الاتفاق الموقّع مع إدارة الرئيس ترامب، الذي تعهّدت فيه بعدم السماح بعودة "القاعدة" أو أي من الحركات الأصولية الأخرى إلى أفغانستان واستخدامها محطة لعملياتها في الخارج. تعهّد قوبل بشكوك كبيرة في واشنطن، وإن كان ثمة من لا يستبعد وفاء "طالبان" بوعدها كحاجة لتوفير مقبولية دولية تمكنها من تسيير عجلة الحكم.
وبعد أربع ساعات تأخير، أعلن الرئيس بايدن مساء أمس قراره. ما كان ليقدم على ذلك لولا اعتقاده الراجح أنّ العملية سائرة في هذا الاتجاه، ما لم يقع شيء خارج الحسبان. بدلاً من التمديد، لأن "في العجلة الندامة"، اختار الإسراع على أساس أنّ في العجلة السلامة هذه المرة. مراهنة محسوبة بالتفاهم بين الجانبين، ولو أنها لا تخلو من المجازفة.