لا يريد ساسة اليمين المحافظ في بريطانيا أن يستفيدوا من دروس بعضهم بعضاً، ولا من تجارب نظرائهم في أوروبا والولايات المتحدة.
ولذلك كانت العشرية الأخيرة من حكم حزب المحافظين حافلة بالإخفاقات على أكثر من صعيد، محلي وخارجي. وجاء الفشل، الذي واجهته رئيسة الحكومة المستقيلة ليز تراس، مثل لحظة شكسبيرية ضمن مسرحية عن الخسارة والسقوط الذي لا يعرف حدوداً.
ومثار الصدمة في هذه المسرحية هو أن لا أحد كان يخمن أن هذه السيدة التي قاتلت بشراسة لتصل إلى المنصب، يمكن أن تهزم مع أول هبة ريح. وتراس، التي قدمت نفسها على أنها مارغريت تاتشر الثانية، لم تنتظر حتى تواجه العواصف التي تحدتها المرأة الحديدية في مرحلة صعبة من تاريخ بريطانيا، ونجحت خلال عقد من الزمن في قيادة معركة تحويل بريطانيا نحو ليبرالية السوق التي دمرت القطاع العام.
التخبط هو أبرز سمات حزب المحافظين وهو ما حال إلى عدم القدرة على حسم خياراته السياسية والاقتصادية
ظهرت تراس منكسرة وحزينة تمضغ المرارة وهي تعلن، يوم الخميس الماضي، من خلال نص قصير، استقالتها بعد 44 يوماً أمضتها في رئاسة الحكومة، كانت مزيجاً من الآمال الكبيرة والأخطاء الجسيمة والمؤامرات من داخل حزبها وخارجه، ما ولد فوضى عارمة، عبّرت عن نفسها في جلسة مجلس العموم قبل الاستقالة بيوم، حيث تعرضت لحملة تجريح وتقريع وضغوط لتقديم الاستقالة، وهذا ما حصل في اليوم الثاني.
خرجت تراس من رئاسة الوزراء تاركة السفينة في بحر مضطرب، مثلما كانت عليه حين اعتلت قيادة حزب المحافظين في 5 سبتمبر/ أيلول الماضي، لتخلف بوريس جونسون، الذي غادر المنصب تحت ضغط حزبه والمعارضة والرأي العام بسبب سلسلة من الفضائح وعمليات التضليل والأكاذيب التي هزت صورة البلاد واقتصادها، وتركتها تترنح بانتظار حكومة تتمتع بالخبرة والنزاهة والشجاعة لمواجهة المرحلة الحرجة.
ومع أن الحزب اختار ريشي سوناك، يوم الإثنين الماضي، رئيساً له ولرئاسة الحكومة، فإن هذا لا ينهي الأزمة، مع فشل كلي لاستراتيجية الشعارات الشعبوية البراقة، ورشاوى خفض الضرائب، واللعب على الورقة العنصرية في ملف الهجرة.
وضع "المحافظين" أخطر التحديات بوجه تراس
ومن أخطر التحديات التي واجهتها تراس هي الوضع داخل حزب المحافظين، الذي تبين خلال الأيام الأولى من تسلمها الحكومة أنه يعاني من عدة مشاكل.
الأولى، الانقسامات الحادة بين الكتل والتيارات، وغياب شخصية قيادية تحظى بالمصداقية وتستطيع تهدئة الحروب الداخلية. والثانية الاتجاه اليميني المتطرف، وعبرت عنه وزيرتا الداخلية الأولى بريتي باتيل التي كانت في حكومة جونسون، والثانية في حكومة تراس، وهي سويلا برافرمان، وكلتاهما من أصول هندية كينية مهاجرة، وتضع الحرب على الهجرة في رأس قائمة الأولويات.
ودعمت برافرمان بقوة قضية ترحيل اللاجئين إلى رواندا. وتحدثت بعض المواقع أن الوزيرتين تعتنقان الأيديولوجية الهندوسية القومية "هندوتفا". وهناك أمر يسترعي الانتباه في أنهما تقفان على أقصى اليمين المتطرف في بريطانيا، التي تواجه هي الأخرى احتكاكات بين الجاليات الهندية بسبب الدين.
التخبط أبرز سمات "المحافظين"
التخبط هو أبرز سمات حزب المحافظين، وهو ما حال إلى عدم القدرة على حسم خياراته السياسية والاقتصادية. ومنذ عدة أعوام عجز جيل القيادة الراهن عن تقديم برنامج والنهوض به، وهذا ينطبق على رؤساء الحكومة، ديفيد كاميرون وتيريزا ماي التي خلفته بعد استقالته عام 2016، وبوريس جونسون الذي تسلم منها الحكومة في 2019، وليز تراس. وهناك قاسم مشترك بين المسؤولين الأربعة تجاه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست".
يبدو أن حزب المحافظين البريطاني لا يريد أن يتعلم من دروس خسارة اليمين في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وأميركا
أول من طرح "بريكست" على الاستفتاء هو كاميرون، وكان يريد منه كسب ناخبي اليمين المتطرف، ولم يكن يؤيد أو يخمن أن هذا الأمر يمكن أن يصبح حقيقة. وحين نجح الاستفتاء، انسحب من الساحة وترك ماي تواجه العواقب. ولم تكن الأخيرة أقل ارتباكاً ومعارضة للخروج من الاتحاد الأوروبي من الأول. أما جونسون فقد كان يردد في مجالسه أن نسب نجاح الاستفتاء ضعيفة، ولم يكن يميل إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ليز تراس.
"بريكست" أحد أهم مسببات مشاكل بريطانيا
"بريكست" أحد أهم مسببات وصول بريطانيا إلى ما هي عليه اقتصادياً وسياسياً. ومن بين أسباب فشله حتى اليوم في تغيير وضع البلد نحو الأفضل، هو أن رؤساء الحكومات الأربعة لم يكونوا من المؤيدين له قبل حصوله، وفشلوا جميعاً في وضع خطة اقتصادية من أجل إعادة بناء الاقتصاد البريطاني حسب المواصفات الجديدة من جهة، ومعالجة آثار الخروج من أوروبا من جهة ثانية.
عانت بريطانيا من انكماش اقتصادي في العامين الأولين من "بريكست" 2018 و2019، وتراجع أداء الاقتصاد الذي وجد نفسه يجذف وحيداً في بحر متلاطم. ارتفعت الأسعار وانخفض سعر الجنيه، وتراجع التبادل التجاري مع أوروبا، ورحلت الشركات الأوروبية الكبرى من سوق المال البريطاني الذي خسر في حدود ثلث رصيده، وارتفع التضخم. وبسبب خروج الأوروبيين من البلد تراجعت قطاعات اقتصادية كاملة، ومنها سوق العقارات الذي عرف ركوداً مديداً، تلقي آثاره بنتائجها الكارثية حتى اليوم.
وجاء فيروس كورونا ليغرق الاقتصاد البريطاني في أزمات جديدة، ولم تتمكن حكومة بوريس جونسون من تقديم حلول عاجلة تحول دون ديمومة الأزمة، بل إنها ساهمت في تضخيم المصاعب بسبب اهتزاز الثقة بها نتيجة سوء إدارة أزمة كوفيد، وأكاذيب رئيس الحكومة التي أدت إلى استقالته.
يبدو اليوم أن إحدى مشاكل بريطانيا الأساسية هي البعد عن أوروبا، وهذا أمر كشفت حرب روسيا على أوكرانيا مدى الأهمية التي يتمتع بها. فبينما يعمل الأوروبيون على مواجهة آثار الحرب على نحو موحد، تبحث بريطانيا عن حلول وحدها، ما يكلفها تسديد فواتير ضخمة لارتفاع أسعار الطاقة على نحو خاص.
مشكلة أزمة اليمين في بريطانيا
مشكلة أخرى تعاني منها بريطانيا، ولا تبدو أنها قريبة لتجاوزها أو إيجاد حلول لها، وهي أزمة اليمين. وهي لا تتوقف عليها وحدها، بل هي أوروبية وأميركية. فقد حصلت قوى اليمين خلال العشرية الأخيرة على فرص كبيرة للحكم، لكنها فشلت في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وبولندا، والمجر. ولم تتمكن من المحافظة على التوازن إلا في ألمانيا التي قادتها المستشارة أنجيلا ميركل على أساس بناء تحالفات سياسية واسعة، وهذا ما استمر فيه المستشار الحالي أولاف شولتز.
يبدو أن حزب المحافظين البريطاني لا يريد أن يتعلم من دروس خسارة اليمين في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وأميركا، ويصر على البحث عن حلول للأزمات الكبرى من داخله.
وعند كل منعطف يقدم أحد قادته، الذي سرعان ما يحترق ويفشل وتبتلعه الأزمة، وهذا يشكل استنزافاً للحزب من جهة، ومن جهة ثانية هز صورته أمام الرأي العام والأسواق الاقتصادية التي تفاعلت سلباً مع حكومات حزب المحافظين الثلاث الأخيرة.
تلوح الانتخابات البرلمانية المبكرة اليوم في الأفق بوصفها أحد أخف الحلول أضراراً
وكانت خسائر الاقتصاد البريطاني فادحة خلال الأسابيع الأخيرة بسبب أخطاء حكومة تراس، ووصل الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى في تاريخه، ونزل تحت مستوى الدولار الواحد، وفقد خلال العام الأخير نحو 18 في المائة من قيمته، ولا يزال يتذبذب، تبعاً لاهتزازات البورصة السياسية التي تنتقل من أزمة إلى أخرى، أكثر عنفاً وحدة.
انتهاء مرحلة تجربة الفرسان بالنسبة للمحافظين
ومع وصول سوناك إلى رئاسة الحزب والحكومة تكون قد انتهت مرحلة تجربة الفرسان بالنسبة لحزب المحافظين. وقد تبين، من خلال رؤساء حكومات العقد الأخير، أنه غير قادر على تقديم قائد يمتلك مهارات قيادية فعلية ورؤية للخروج من النفق. وهو جرب كل أوراقه على هذا المستوى، وأمهله الرأي العام قرابة 10 سنوات، وأعطاه أكثر من فرصة ليحكم وحده ويصلح وضع الاقتصاد على نحو عاجل، لكنه فشل.
تلوح الانتخابات البرلمانية المبكرة اليوم في الأفق، بوصفها أحد أخف الحلول أضراراً. وهذا خيار يناسب الجميع، المحافظين، والعمال المعارض، والأسواق الاقتصادية وأوروبا، التي تبقى على شراكة مع بريطانيا، حتى لو استمرت من طرف واحد. وعبر الانتخابات المبكرة يمكن للمحافظين أن يرموا المسؤولية عن ظهرهم ويختبروا شعبيتهم اليوم، ومشاركة الأعباء الكبرى مع الأطراف الأخرى.
كل المؤشرات تؤكد أن الحزب بحاجة إلى استراحة وأخذ مسافة من الحكم حتى يرمم نفسه، ويداوي الصدمات الكبيرة التي تعرض لها في العقد الأخير، وترك الرأي العام ينسى إخفاقاته في إدارة أزمتي "بريكست" وكوفيد، وإعطاء فرصة للقوى المعارضة كي تجرب برامجها. ولكن لا يبدو أن هذه النقطة على جدول أعمال قيادات حزب المحافظين التي تفتقد لتقدير الموقف جيداً، ولا شيء يشغلها سوى السلطة.
آلية اختيار رئيس الوزراء من قبل الحزب تحولت إلى ما يشبه المزاد ويصفها البعض بالتهريج. ويكفي أن يحصل المرشح على تزكية مائة نائب حتى يدخل التنافس على زعامة الحزب، وهي في الواقع تعبر عن تعسف شديد. 80 ألف عضو من الحزب هم الذين حسموا المنافسة بين تراس ومنافسها سوناك في 5 سبتمبر/ أيلول الماضي، وتبين أنه اختيار خاطئ، وتم لاعتبارات لا تتعلق بالضرورة بمعايير منها المصلحة العامة. ودخلت في فوز تراس عوامل عنصرية، لأن منافسها كان من أصل هندي أفريقي.
حزب المحافظين البريطاني حوّل الشعب لحقل تجارب
أما سوناك، فقد وصل لرئاسة الحزب والحكومة من دون حتى تصويت داخل الحزب، الذي سبق، منذ أقل من شهرين، أن فضّل عليه تراس، الأمر الذي لقي استهجاناً من الرأي العام وبعض وسائل الإعلام التي اعتبرت أن حزب المحافظين حول الشعب البريطاني إلى حقل تجارب.
هذا التجريب المتواصل في أعلى قمة في السلطة، سوف يدمر أهم إنجاز بريطاني، وهو الديمقراطية الليبرالية، على غرار ما حصل في بعض بلدان أوروبية أخرى سارت على هذا الطريق، واكتشفت متأخرة فداحة الخسارة.
وهي مسألة فاقعة جداً في حالة حزب المحافظين، لكنه لا ينفرد بها وحده، بل يشكل عهد رئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير أحد أسوأ المراحل التي اجتازتها بريطانيا، لما لعبه من دور في ازدهار الليبرالية الاقتصادية.