دائما ما سعى الشعب الفلسطيني إلى تحسين أوضاعه المعيشية، رغم كل الظروف السياسية التي كانت تعصف به منذ بداية القرن العشرين، التي لم تسمح له بالتطور الطبيعي، كما بقية الأمم، بل أدت تلك الظروف إلى تشريد الشعب الفلسطيني، وتقسيم أراضيه، إذ عاش الفلسطينيون تحت أنظمة وتشريعات مختلفة ومتغيرة، لم تعطِ الوقت أو المساحة لعمل نقابي فلسطيني مستقر، يساهم في بناء مجتمع مدني ديمقراطي.
نشأت الحركة النقابية الفلسطينية في ظل المتغيرات التي تبعت نهاية الحرب العالمية الأولى، التي أعادت تقسيم المنطقة العربية، وبروز عالم جديد، وخلق أوضاع سياسية واقتصادية جديدة، ساعدت في تسريع انتقال الفلاحين الفلسطينيين إلى المدن، في ظل تشجيع سلطة الانتداب البريطاني على ترك العمل في الزراعة والانتقال إلى العمل المأجور، من خلال المشاريع التي بدأت بتطوير العمل في الموانئ الفلسطينية، وإنشاء سكة الحديد تلبيةً لمصالح سلطة الاحتلال البريطانية.
لذلك؛ ليس من المستغرب أن التنظيم النقابي الأول كان "نقابة" عمال سكة الحديد، هو بداية العمل النقابي المطلبي الفعلية في فلسطين، تلاه تشكيل جمعية العمال العرب الفلسطينية في 1925، التي حددت عدداً كبيراً من المطالب العمالية المباشرة، منها الأجور والتأمين الصحي لحماية العمال وعائلاتهم في حالة الإصابة أو الوفاة، خاصة في ظل ظروف عمل شاقة وساعات عمل طويلة. ترافق ذلك مع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والشعور الفلسطيني العام بهذا الخطر الحقيقي، ما فرض على العمال الفلسطينيين، منذ البداية، الانخراط في النضال ضد الاستعمار البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين، إذ شغل مساحة كبيرة من نشاط النقابيين إلى جانب نشاطهم المطلبي والمهني.
مع تسارع التطورات والأحداث السياسية وازدياد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، برز دور العمال والنقابات قوة رئيسة مؤثرة وطنياً على الأرض، وفي القدرة على الوصول إلى الجمهور، الأمر الذي كثف من محاولات جر النقابات تحت راية اللجنة العربية العليا في فلسطين بعد أن تبين تأثيرها على الأرض، لكن حافظت النقابات في بداية الثلاثينيات على قدر كبير من الاستقلالية، بعيداً عن الهيمنة السياسية، مع ذلك، فإن الأحداث اللاحقة؛ مثل إضراب 1936، أثرت وفرضت بوضوح تغليب العمل السياسي والحراك الوطني على العمل النقابي المطلبي، وأخذ الطابع السياسي الوطني يحتل الأولوية لدى جميع فئات الشعب الفلسطيني، وتراجع دور النقابات الاجتماعي والاقتصادي، بل كان العمال والنقابيون أكثر تضحيةً وتأثراً بالأحداث ونتائجها، وشغل هذا الصراع معظم سنوات العقد الثالث من القرن العشرين.
بدأ التغير في بداية الأربعينيات؛ خلال الحرب العالمية الثانية، حين ازداد طلب السلطة البريطانية على اليد العاملة الفلسطينية، من أجل العمل في المشاريع الناشئة، ومن أجل تلبية احتياجات القوات البريطانية وإدارتها في فلسطين والمنطقة، الأمر الذي تطلب المزيد من العمالة، وهذا أدى إلى انخفاض نسبة البطالة، وإعادة إحياء روح العمل النقابي، وتوسع نشاطاته.
تأسست عدة نقابات، وازدادت وتيرة الإضرابات والاحتجاجات في الأعوام 1942 و1943 من أجل المطالبة بسن تشريعات عمالية والمساواة في الأجور بين العمال العرب واليهود، وأضرب عمال نقابة البرق والبريد والهاتف احتجاجاً على رفض رئيس دائرة البريد والبرق والهاتف البريطاني في يافا الاعتراف بالنقابة.
أصبح عمل النقابات أكثر وضوحاً ووعياً. يظهر ذلك في سعي النقابات الفلسطينية إلى العمل والتعاون المشترك بين جميع العمال في فلسطين، بغض النظر عن القومية أو الدين أو المعتقد السياسي، على التوازي مع العمل والمطالبة برحيل البريطانيين عن فلسطين، وإقامة دولة مستقلة ذات نظام ديمقراطي فيها.
يمكن اعتبار تلك الفترة من الأربعينيات أكثر الفترات التي نشطت فيها النقابات بهويتها الواضحة إلى جانب الحركات الوطنية، واستطاعت النقابات الموازنة بين عملها المطلبي من ناحية، ونضالها ضد الاستعمار والخطر الصهيوني من ناحية ثانية، لذا كسبت احترام وتقدير القيادات السياسية الوطنية وجماهير العمال، واعترف بها مكوناً أساسياً من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، قد لا نبالغ في قول إن بعض القوى السياسية أصبحت تخشى من قوة ونفوذ النقابات وتعاظم دورها، وعملت على إعاقة عملها وحاولت منع تمثيلها في القيادة الوطنية.
مرة أخرى، لم تعطِ الأحداث السياسية النقابات فرصة كي تركز على القضايا المطلبية، ولم يكن ممكناً لها الابتعاد عن النضال الوطني والتركيز على المطلبي، إذ أدى قرار التقسيم والنكبة في عام 1948 إلى تشتت أبناء الشعب الفلسطيني وقادته النقابيين، ما عقد إمكانية تشكيل تنظيم نقابي قوي، وقضى على طموح بناء حركة نقابية فلسطينية، حيث توزع النقابيون على عدة مناطق جغرافية منفصلة عن بعضها، لكل منها ظروف اقتصادية واجتماعية ومطلبية خاصة، وهذا أدى إلى تغليب العمل السياسي على العمل المطلبي، أي أضعف العمل النقابي كثيراً وتقدم الموضوع الوطني على جميع الأولويات.
بعد ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية، صدرت عدة تشريعات، كان أولها قانون النقابات العمالية رقم 35 عام 1953، الذي أقر الحق في تشكيل النقابات نظرياً (في حين لوحق النشطاء النقابيون على أرض الواقع)، مع التأكيد على وجوب ابتعاد النقابات عن القضايا السياسية أو الدينية، وحظر الدخول في المضاربات المالية أو التجارية، في وقت منع فيه تشكيل الأحزاب والنشاط السياسي.
رغم كثرت المعوقات، فإنها لم تمنع تشكيل عدد من النقابات التي استخدمت في خدمة الأحزاب السياسية، على اعتبارها مدخل النشاط السياسي والاجتماعي العلني الوحيد، الأمر الذي أعاد هيمنة العمل السياسي على العمل النقابي، وتراجع النضال المطلبي لصالح التحرك الوطني، بالتالي لم يتأسس العمل النقابي المطلبي الحقيقي، مؤدياً إلى إحجام العمال عن النقابات، واحتكار معظمها من قبل النشطاء السياسيين؛ قد يفسر هذا الكثير مما حدث لاحقاً بخصوص علاقة النقابات مع المصالح العمالية والوطنية والأولويات والهيمنة.
لم يكن حال قطاع غزة أفضل من المناطق الأخرى، فقد غاب العمل النقابي عن النشاط مدة 16 عاماً منذ النكبة، حتى العام 1964 حين أسست عدة نقابات واتحاد عمال فلسطين، على اعتباره أحد المنظمات الشعبية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، كذلك، لم يحظ العمل النقابي بأولوية الاهتمام، إذ سيطرت فكرة أولوية النضال الوطني على حساب النضال المطلبي الذي يمكن تأجيله إلى ما بعد التحرير، ولم يستمر هذا الوضع طويلاً، بعدما احتلت السلطة الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وأصبحت تسيطر على كامل حدود فلسطين التاريخية.
استمر التراجع والضعف النقابي إلى ما بعد العام 1967، حينها كان على النقابات الفلسطينية إعادة البناء من جديد، في ظل ظروف سياسية مختلفة عن السابق يغلب عليها العمل الوطني، ولم يكن ممكناً إعطاء الأولوية للجانب المطلبي، وأصبحت النقابات الداعم الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، وكذلك للعمل الجماهيري الوطني ضد الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كانت لمشاركة النقابات في الانتخابات البلدية في العام 1976، وفوز مرشحيها في عدد من البلديات، أهمية وطنية كبيرة، حين وقفت ضد مشروع الحكم الذاتي واتفاقيات كامب ديفيد، ما عرض النقابيين إلى الاعتقال والملاحقة. عندها، بدأ الانتباه إلى أهمية دور النقابات في النضال الجماهيري، وبدأت الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية تستند إلى النقابات في نشاطها، خاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن للأسف، بدل من أن يساهم ذلك في تقوية الحركة النقابية ودورها الوطني والنقابي، ظهرت الخلافات والتنافس والانشقاقات وتشكيل نقابات موازية، ما جعل النقابات أذرعاً حزبية.
ما أن وصلت النقابات إلى ثمانينيات القرن الماضي، حتى كثرت الانقسامات والانشقاقات في الحركة العمالية، انعكاساً للخلافات بين القوى السياسية، حتى تضاعف عدد النقابات، ليصل عام 1987 إلى حوالي 187 نقابة، تدعي جميعها تمثيل العمال، في حين لم تُجرَ أية انتخابات حقيقية، ولم يُعط العمال الفرصة لاختيار ممثليهم بحرية.
بقيت الأولوية للانتماءات السياسية على حساب العمل النقابي والمطالب العمالية، على الرغم من مشاركة النقابات الفاعلة في الانتفاضة الأولى في عام 1987، ومن تعرض العديد من النقابيين للاعتقال. نتيجة الصراعات الحزبية واحتكارها العمل النقابي، حرم المجتمع الفلسطيني إمكانية نشوء حركة نقابية مستقلة ذات طابع عمالي ديمقراطي منتخب، تكون ممثلاً حقيقياً للعمال ومصالحهم.
حتى مع اعلان إعادة توحيد النقابات، وإنشاء الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، وزعت المواقع القيادية بين التنظيمات المنتمية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالمحاصصة، من دون اللجوء إلى الانتخابات، كما لم يؤخذ بمشورة العمال في هذا الاتفاق، ما كرس التبعية النقابية للسياسيين، وطمس دور النقابيين الحقيقي.
يمكن رصد العديد من المتغيرات في الواقع الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو، فقد بنيت أنواع جديدة من العلاقات بين النقابات وأصحاب العمل والحكومة، وبرزت قطاعات كثيرة لم تكن موجودة حتى العام 1993، مثل قطاع البنوك وشركات التأمين والعاملين في القطاع الحكومي، وتوسع قطاع الخدمات توسعاً كبيراً، الأمر الذي أدى إلى تشكل العديد من النقابات والاتحادات خارج الاتحادات الرسمية، التي أصبحت جزءاً من النظام السياسي القائم.
لم تتوقف ضغوط الأوضاع المعيشية والمطالب العمالية، بل أصبحت ذات أولوية، وهذا أدى إلى عودة العديد من التحركات العمالية المتعلقة بالأجور وغلاء المعيشة واتفاقيات العمل الجماعية، كما تشكلت عدة نقابات في القطاع الحكومي: الصحة والتعليم والوظيفة العمومية (التي أغلقت بمرسوم رئاسي) وغيرها، وتراجعت أولوية العمل الوطني، على الرغم من عدم تحقق الأهداف الوطنية، مع ذلك، بقيت نسبة المشاركة الفعلية في النقابات متدنية، تعتبر نسبة المشاركة المرأة (5%) الأقل على مستوى الدول العربية المجاورة.
أخيراً، يمكن القول إن النضال النقابي تراجع لصالح السياسي والوطني في جميع مراحل النضال الفلسطيني، ولم تُعط الحركة النقابية فرصة طبيعية من أجل تطورها، أو بغرض بناء حركة نقابية قوية تدافع عن مصالح العمال ومستقبلهم وتحميها.