تُشكّل الأجنحة المختلفة داخل الحزب الديمقراطي الأميركي نموذجاً لتحولات عميقة يعرفها المجتمع الأميركي ومؤسساته السياسية، وقد نجح الجناح اليساري، المسمى التقدمي، في تشكيل قواعد صلبة، بناء على انتماء الأقليات الدينية والعرقية إليه من جهة، ومناصرته القضايا الإنسانية من جهة أخرى. مع ذلك، ظلّت العلاقة مع إسرائيل استثنائية، بفعل وجود الجناح اليميني المحافظ. لكن ما هو مؤكد وأكثرت الصحف الأميركية في الكتابة عنه أخيراً، أن الدينامية اليسارية المستجدة داخل الحزب الديمقراطي كانت صاحبة الدور الرئيسي في الضغط على الرئيس جو بايدن لكي يرغم بدوره القيادة الإسرائيلية على وقف العدوان على الفلسطينيين بأسرع وقت ممكن، بعدما أظهر في اليومين الأولين للحرب تأييداً مطلقاً لتل أبيب، كيف لا وهو صاحب مقولة أنه ليس على المرء أن يكون يهودياً لكي بكون صهيونياً، مستدلاً بهذه "الحكمة" على نفسه.
وعن هذا الموضوع، يقول الدكتور عزمي بشارة، في ندوة نظمها كل من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، إنه لولا الضغط داخل الحزب الديمقراطي على بايدن، لما توقفت الحرب الإسرائيلية على غزة بهذه السرعة (11 يوماً). ليست الأجنحة ظاهرة مستجدة على الحزب الديمقراطي الأميركي، لكن ربما لم يسبق أن كان الجناح اليساري بهذا النفوذ. والمعركة "الوجودية" التي خاضها الحزب ضد الرئيس السابق دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دفعته إلى وضع الخلافات جانباً، والتركيز على هزيمة الرئيس الـ45. تمّ طيّ صفحة خلافات هيلاري كلينتون وبيرني ساندرز، وكذلك خلافات الرئيس جو بايدن مع نائبته الحالي كامالا هاريس، وصولاً إلى تنحّي ساندرز في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي لدعم بايدن.
الديناميات اليسارية قد تكون غير مسبوقة بتاريخ الحزب
وبعد تسلّم بايدن مهامه رسمياً في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، وبدء أفول نجم ترامب، سعى الرئيس المنتخب إلى القتال على جبهتين: محاربة كورونا والإنعاش الاقتصادي، مؤجلاً النقاشات الداخلية الأخرى. كان بايدن يدرك أن الانتصار في ملف كورونا وتحقيق نموّ اقتصادي مستدام، سيسمح بلجم الخلافات. غير أن محاولة الاحتلال الإسرائيلي تهجير أهالي حي الشيخ جرّاح المقدسي والعدوان الأخير على قطاع غزة، غيّرت كل شيء، مع بروز مواقف ديمقراطية منددة بجرائم دولة الاحتلال.
وسط كل هذا، ظل بايدن يُشكّل نقطة توازن فعلية في الحزب، رغم تفوق الجناح اليساري، وهو ما دفعه إلى الانتباه لذلك. وسعى مع مستشاريه لاستيلاد نوع من التوازن بين الدعم الأميركي التقليدي لإسرائيل، وبين وقف الحرب. تاريخياً، كان دعم بايدن لإسرائيل على مدى سنوات ثابتاً، وكرر موقفه أكثر من مرة، وآخرها مساء الجمعة الماضي، بقوله لأحد الصحافيين: "لا يوجد تحول في التزامي بأمن إسرائيل على الإطلاق، لكننا نحتاج إلى حل الدولتين".
وساهم بايدن مع المصريين في رسم هدنة أوقفت العدوان، فجر الجمعة الماضي، أو بالأحرى شعرت القيادة المصرية بأن حاجتها إلى إرضاء الإدارة الأميركية تفرض عليها الإسراع في التوسط بين الاحتلال والفصائل الفلسطينية لعل حكام القاهرة يتلقون اتصالاً لطالما انتظروه من بايدن، وهو ما حصل بالفعل عند اكتمال إعداد اتفاق وقف إطلاق النار مساء الجمعة الماضي. وعند الإعلان عن الاتفاق، شدد بايدن على نية الولايات المتحدة تجديد القبة الحديدية الإسرائيلية، في مقابل تعهّد من خلال الأمم المتحدة، بالعمل على تقديم المساعدة الإنسانية لقطاع غزة وتمويل إعادة الإعمار. وأوضح أن إدارته ستعمل مع السلطة الفلسطينية، لا مع "حماس".
وللإشارة إلى مدى دقة الوضع الداخلي في الحزب، حاول بايدن استيعاب النائبة الفلسطينية الأصل، رشيدة طليب، التي هاجمت إسرائيل بشدّة بسبب عدوانها. فأشاد بها، والتقاها في مطار ولاية ميتشغن، مبدياً إعجابه "بفكرها وشغفها واهتمامها بالآخرين، وبقتالها". وتعني هذه التفاصيل، أنه على الرغم من ثبات بايدن في موقفه تجاه إسرائيل، إلا أن الحراك الذي يشهده حزبه بدأ يكبر. وحول هذا الأمر، يقول أحد المسؤولين السابقين في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لـ"واشنطن بوست": "لا يزال هناك دعم قوي لإسرائيل في الحزب الديمقراطي، لكن الديناميكيات أصبحت أكثر تعقيداً".
وكان التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي قد حقق نجاحات بارزة في الانتخابات الأخيرة في نوفمبر الماضي، فمن أصل 219 نائباً ديمقراطياً، ينتمي 91 منهم إلى التيار التقدمي، الذي ترأسه النائبة براميلا جايابال. أبرز هؤلاء، هم رشيدة طليب وألكسندرا أوكاسيو كورتيز وإلهان عمر. في المقابل، يُعتبر بيرني ساندرز السيناتور التقدمي الوحيد من بين 48 ديمقراطياً في مجلس الشيوخ، وهو مع ذلك ليس عضواً حقيقياً في الحزب الديمقراطي، بل يترشح على قوائمهم ويعتبر حليفاً أساسياً لا بل رمزاً لجناحهم اليساري. ولدى التيار التقدمي ممثلين في الإدارة الجديدة، أكان في الوزارات أو في مناصب أخرى شديدة الأهمية.
يدرك بايدن أن أي انقسام داخلي، سيؤثر سلباً على الملفات الداخلية، خصوصاً أن ساندرز، الخصم الاشتراكي القديم، يسعى إلى فرض تصويت على قرار يهدف إلى وقف بيع أسلحة بقيمة 735 مليون دولار لإسرائيل الذي أقره بايدن، متسائلاً عما إذا كانت المساعدة العسكرية الأميركية تساهم في الحفاظ على السلام في المنطقة أو تغذي الصراع. وقال: "في الوقت الذي تدمر فيه القنابل الأميركية غزة وتقتل النساء والأطفال، لا يمكننا ببساطة السماح ببيع أسلحة ضخمة أخرى من دون مناقشتها في الكونغرس".
ومع أن جهود ساندرز لوقف بيع الأسلحة ضعيفة، إلا أنه قد يجبر الديمقراطيين على إجراء تصويت غير مريح، خصوصاً أن الجمهوريين يتهمون الديمقراطيين بـ"إدارة ظهرهم لإسرائيل". وقال أحد مساعدي ساندرز، إن فريقه سيسعى لفرض التصويت في مرحلة ما في مجلس الشيوخ، ولكنهم ما زالوا يستكشفون تفاصيل الإجراءات، كونه لم يحصل سابقاً أن تمّ توقيف صفقة بيع أسلحة. ويسمح قانون "مراقبة تصدير الأسلحة" للكونغرس بمنع بيع الأسلحة عبر قرار مشترك بالرفض في مجلس الشيوخ. ولا يتطلب الأمر سوى أغلبية بسيطة لتمرير القرار. في المقابل، يتطلب الأمر توفر غالبية الثلثين في كل مجلس (النواب والشيوخ) لتجاوز الفيتو الرئاسي، في حال أصرّ بايدن على تمرير الصفقة. لكن العمل على وقف بيع الأسلحة ما زال مستمراً، مع تقديم طليب والنائب ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، قراراً مشابهاً لوقف بيع الأسلحة. ولكن، عكس مجلس الشيوخ حيث يمكن لعضو واحد فرض التصويت، يمكن للقيادة الديمقراطية في مجلس النواب منع طرح مشروع القانون.
يقود ساندرز حملة لوقف بيع الأسلحة إلى إسرائيل
وهو ما برز في حديث رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، يوم الخميس الماضي، بقولها: "أنا أؤيد بيع الأسلحة، لكنني أقدّر النقاش المستنير الذي يجريه أعضاؤنا حول هذا الموضوع". وعضوة الكونغرس كورتيز، الديمقراطية اليسارية التي تمثل نيويورك، تتصدر الحملة المناهضة لجرائم الاحتلال في أميركا، وقد وصفت إسرائيل بـ"دولة الفصل العنصري" التي "لا يمكن أن تكون ديمقراطية" بأي شكل من الأشكال. وهي اليوم تقود معركة إلغاء صفقة الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل ولا تقف الأمور عند صفقة الأسلحة، بل تحدى التقدميون في الحزب قانوناً متعلقاً بأمن "كابيتول هيل"، الذي تصدّر قائمة الأولويات بعد اقتحام أنصار ترامب المبنى في 6 يناير الماضي.
فقبل ساعتين من التصويت على القانون يوم الخميس الماضي، اكتشفت القيادة الديمقراطية أن ستة مشرعين تقدميين خططوا لإصدار بيان معارض لزيادة تمويل الشرطة، الذي يُظهر عدم اهتمام الكونغرس بالتطرف وبمسألة "تفوق البيض". وكان من الممكن أن تؤدي اعتراضاتهم إلى إسقاط مشروع زيادة التمويل للشرطة، خصوصاً أن الديمقراطيين يتمتعون بأغلبية ضئيلة أمام الجمهوريين: 219 نائباً ديمقراطياً في مقابل 212 نائباً جمهورياً. ومرّ القانون بصعوبة مع تصويت 213 معه و212 ضده. ويؤشر الأمر إلى مدى ضراوة الصدام الداخلي في صفوف الديمقراطيين. وفي حال لم تتمّ معالجة الخلافات الداخلية، فإن الجمهوريين قد يكتسبون الأكثرية في الكونغرس، في الانتخابات النصفية أواخر عام 2022.