تدخل العلاقات السودانية التشادية نفقا مظلما لم تشهده منذ 15 عاما، على خلفية تداعيات الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، وبعد أنباء تداولتها دوائر الجيش السوداني عن سند لوجستي تقدمه أنجمينا لقوات الدعم السريع، وتزايد القلق عند تلك الدوائر، في ظل قنوات دبلوماسية بين تشاد ودولة الإمارات العربية المتحدة، التي تتهمها الحكومة السودانية بتقديم مختلف أشكال الدعم لقوات محمد حمدان دقلو.
وكان عضو مجلس السيادة السوداني، مساعد قائد الجيش، الفريق ياسر العطا، أكثر وضوحا بتوجيهه، قبل أيام، الاتهام مباشرة لتشاد بتجهيز واحد من مطاراتها، وهو مطار أم جرس على الحدود الشرقية مع السودان، لتوصيل العتاد العسكري الإماراتي لقوات الدعم السريع داخل الأراضي السودانية، مؤكدا استخدام مطار أنجمينا العاصمة للغرض ذاته الذي يزعزع أمن واستقرار السودان.
خطوات تصعيدية متبادلة
نفت تشاد الاتهام، واستدعت السفير السوداني في أنجمينا، وقدمت طلبا عبره للحكومة السودانية تشدد فيه على المطالبة بتوضيحات تصريحات الفريق العطا، وتقديم اعتذار علني عنها، وهو ما رفضته الخرطوم على لسان وزير الخارجية السفير علي الصادق، الذي خرج عبر التلفزيون الرسمي ليقول، إن تصريحات العطا كانت مبررة، وأن أنجمينا تسلمت من الخرطوم صور أقمار صناعية تثبت توفيرها ممرات لوجستية لإمداد الدعم السريع بالسلاح.
والجمعة الماضي، وبعد حديث وزير الخارجية السوداني، قررت تشاد طرد 4 من دبلوماسي السفارة السودانية في أنجمينا، وطلبت منهم مغادرة البلاد في غضون 72 ساعة، ليرد السودان، السبت، بالمثل ويخطر الخارجية التشادية بطرد 3 دبلوماسيين يعملون في سفارة إثيوبيا في الخرطوم، باعتبارهم أشخاصا غير مرغوب فيهم.
تاريخ من الشدّ والجذب
ويعيد التوتر بين الخرطوم وأنجمينا، تاريخا طويلا من الشد والجذب بين البلدين، واتهامات متبادلة لعقود بدعم حركات متمردة هنا وهناك، ومحاولات لتغيير نظام الحكم، آخرها في عام 2008 حينما نفذت حركة العدل والمساواة السودانية عملية عسكرية أطلقت عليها اسم "الذراع الطويل"، وصلت إلى مدينة أم درمان لتغيير نظام الرئيس عمر البشير، الذي تمكن من صد الهجوم ليوجه الاتهام لنظام الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي بتبني ودعم العملية. في حينه، رد النظام السوداني بالمثل، ودعم، بحسب أنجمينا، عملية مماثلة وصلت للعاصمة التشادية قبيل أن يدحرها الحيش التشادي.
وبعد عامين من الحدثين، توافق البلدان على إعادة علاقتهما وفتح صفحة جديدة لتبادل المصالح، والاتفاق على عدم دعم أي طرف لأي مجموعات متمردة، ومضيا في عام 2010 نحو تكوين قوات مشتركة قوامها آلاف الجنود، لضبط الحدود المشتركة ومحاربة التمرد، ومكافحة الجريمة والتهريب والهجرة غير الشرعية، ولم تتأثر العلاقة بعد ذلك حتى بعد سقوط نظام البشير في السودان، ومقتل الرئيس إدريس ديبي في تشاد، وإن بدت توترات مكتومة، خصوصا بعد زيادة نشاط شركة فاغنر الروسية في منطقة غرب أفريقيا.
في الخامس عشر من إبريل/ نيسان الماضي، اندلعت الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وتوسعت لتصل إلى كبرى المدن في إقليم دارفور، غرب البلاد، وهو الإقليم المتاخم لتشاد على حدود السودان الغربية، وأغلقت أنجمينا حدودها مع السودان، وسمحت بدخول آلاف اللاجئين السودانيين، وأكدت عدم رغبتها في التورط في الحرب بدعم أي طرف، وحثت الطرفين على للعودة إلى طاولة التفاوض، وشاركت في مؤتمر لدول الجوار دعت إليه، واستضافت اجتماعاته التي شارك فيها وزراء الخارجية.
لم يمض وقت طويل حتى برزت الاتهامات السودانية لتشاد بالوقوف إلى جانب "الدعم السريع"، وتوفير خطوط إمداد له، تمتد إلى مدن دارفور حتى العاصمة الخرطوم. وأخيرا وصلت العلاقة لما وصلت إليه من تبادل لطرد الدبلوماسيين والتهديد بالرد بالمثل.
خطوات سودانية مبرّرة
يقول محمد أبوزيد كروم، رئيس حزب منبر السلام العادل، إن الخطوات التي قام بها السودان تجاه تشاد "مبررة تماما لأن تشاد وفرت كل الدعم لمتمردي الدعم السريع، على العكس من موقفها في الأسابيع الأولى من الحرب، وهو موقف إيجابي وجد إشادة من السودان دولة وشعبا"، مضيفا أن "زيارة المسئولين الإماراتيين لتشاد والتوقيع على اتفاقيات ثنائية غيّرت كل شيء، فأعدت مطار أم جرس لتمرير السلاح الإماراتي للدعم السريع".
وتابع: "فجّر الفريق ياسر العطا المواجهة الإعلامية وكشف عن الحقائق، وبدلا من أن ترد أنجمينا على الأدلة التي قدمها السودان سارعت لطرد الدبلوماسيين السودانيين، ورد السودان بالمثل كإجراء طبيعي وردة فعل متوقعة".
يوضح كروم لـ"العربي الجديد" أن تشاد سوف تخسر كثيرا وتدفع ثمن ما قامت به طال الزمن أم قصر، لأن السودان، وبسبب تصرفات تشاد، يعيش منذ أشهر حالة الحرب حتى في الخرطوم وأجزاء واسعة من دارفور، مؤكدا أن للسودان خبرات كبيرة في التأثير على المسرح التشادي المعروف بهشاشته السياسية والأمنية، ذلك لأن تشاد وضعت نفسها كوكيل في حرب ليس لها فيها مصلحة، ومن المتوقع أن يصعد السودان في الوقت الحالي عملا دبلوماسيا ضد تشاد التي ستواجه في المحافل الدولية دولا تساند السودان".
الخبير بشأن النزاعات عبد الله آدم خاطر، يرى أن التصعيد بين السودان وتشاد "لا جدوى له ولن تسفيد منه الدولتان، وأتى في ظل مناخ حرب ونزاع وعدم استقرار في منطقة غرب أفريقيا"، مبينا أن ما حدث "كان متوقعا، وفي الوقت نفسه لن يكون له آثار عميقة، لأن الشعب السوداني ومعه الشعب التشادي يدركان أهمية العلاقة التاريخية بين البلدين، لا سيما الشعب السوداني الذي يعلم أن العلاقة مع تشاد هي مدخل للعلاقة مع دول غرب أفريقيا، وأن العلاقة مع تشاد هي المجال لتأمين الحدود بين البلدين وتبادل المصالح بينهما".
وأضاف خاطر لـ"العربي الجديد"، أن الحرب في السودان "مهما طال أمدها، فإنها إلى زوال بالتوقيع على اتفاق سلام شامل لكل السودانيين، وأن ذلك السلام بحاجة إلى علاقة ممتازة مع كل دول الجوار، وأي خلل في العلاقة مع تشاد أو جنوب السودان أو مصر أو بقية دول الجوار فلن يساهم في تحقيق الأمن والاستقرار".
فرص دبلوماسية رغم القطيعة
وحذر خاطر من تطور القطيعة بين البلدين "لأنها ستضاعف مخاطر دخول مجموعات غير سودانية للحدود المفتوحة والهجرات غير الشرعية، وتهريب السلاح وثروات البلاد"، مشددا على دور المثقفين "المدركين أهمية العلاقة السودانية التشادية على التحرك، وبذل مزيد من الجهود للحيلولة دون الانهيار الكامل للعلاقات".
أما السفير السابق في الخارجية السودانية، الطريفي كرمنو، فيقول إن المجال "ما زال مفتوحا للدبلوماسية في البلدين لتدارك ما يمكن تداركه، خصوصا أن أمر الطرد لم يصل بعد للسفراء"، محمّلا في حديثه لـ"العربي الجديد"، المسؤولية عن تدهور العلاقة بين الخرطوم وأنجمينا للجانب التشادي، لأنها "فعلت كل ما يمكن فعله لإجبار السودان على كشف الحقائق الخاصة بدعم تشاد للمتمردين في السودان مقابل تمويل إماراتي لها".
وأكد أن التصعيد بين السودان وتشاد ليس هو الأول من نوعه، لكن الأسوأ "وجود طرف ثالث وهو ما لم تتحسب له الحكومة التشادية، واتخذت خطوات غير موضوعية".
أما اللواء المتقاعد مازن إسماعيل، فيرى أن الطرفين "سيخسران من التوتر الحالي، وأن السودان خسارته الآنية واضحة وجلية، بينما ستظهر خسائر تشاد في المستقبل، لأنها استوردت لنفسها أزمة من السودان، وخسر نظام محمد كاكا في أنجمينا مكونات اجتماعية متداخلة بين السودان وتشاد، بدعم مكونات أخرى على عداء تاريخي معها".
وأضاف لـ"العربي الجديد"، أن الرئيس محمد كاكا يواجه بمنافسة انتخابية من لاعبين كبار و"ستؤثر خسارته تلك في نتائج الانتخابات، خاصة من قبيلة الزغاوة التي لن تكون له سندا بعد تورطه في حرب استهدفتها في السودان، بمثل ما استهدفت كل السودانيين، كما سيصعب عليه حفظ الأمن والاستقرار في بلاده، وربما تلحق تشاد بدول في غرب أفريقيا خرجت من دائرة النفوذ الفرنسي، وهو ما خلق الأزمة لفرنسا مع الولايات المتحدة، ومنعت سابقا الدعم السريع من الهجوم على مدينة الفاشر غرب السودان، لعلمها أن ذلك لو حدث يعني سقوط أنجمينا".
وأكد إسماعيل أن السودان يحتاج للرد على تشاد، ومواجهة كل أزماته الحالية لعمل دؤوب ومخطط، ومدروس، يبدأ بسد الفراغ الحكومي، وتشكيل حكومة حرب تدير الأزمات سياسيا وعسكريا واقتصاديا، موجها انتقادات حادة للوضع القائم حاليا في "غياب الدولة كليا".