أخيراً، سينطلق الحوار الوطني في تونس، الذي دعا إليه "الاتحاد العام التونسي للشغل"، بعدما أكد رئيس الجمهورية قيس سعيّد الموافقة عليه مرّة أخرى، وأنه سيتولى هو الإشراف عليه. وعلى الرغم من هذا الإعلان الرسمي، تستمر الشكوك في تونس حول جدّية الحوار، خصوصاً في غياب أجندة واضحة ومتفق عليها حوله. كما أن العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، أي بين الرئيس ورئيس الحكومة هشام المشيشي، لم يطرأ عليها أي تغيير، فالقطيعة متواصلة بين قرطاج (المقر الرئاسي) والقصبة (المقر الحكومي)، وكأن كلّ واحد منهما يشتغل في دولة مستقلة بذاتها. كما أن حرب الإشاعات السياسية مفتوحة على مصراعيها، وتشنها الأطراف ضدّ بعضها البعض في ظرف تزداد خلاله الأزمة الاقتصادية استفحالاً، حيث كُلّف وزير الاقتصاد والمالية علي الكعلي بالتوجه خلال شهر إبريل/نيسان نحو واشنطن للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، بهدف التوصل إلى اتفاق اللحظة الأخيرة لاسترجاع ثقة الممولين الدوليين قبل أن ينهار البناء.
تستمر الشكوك في تونس حول جدّية الحوار، خصوصاً في غياب أجندة واضحة ومتفق عليها حوله
كاد الرئيس قيس سعيّد أن يفقد حليفاً هاماً في مستوى "الاتحاد العام التونسي للشغل"، لولا التدارك الذي قام به أخيراً، بعدما جلس على انفراد مع الأمين العام لـ"الاتحاد" نور الدين الطبوبي. لقد مرّت خمسة أشهر منذ أن عرض "الاتحاد" مبادرته المتعلقة بالحوار الوطني، بدون أن يلمس تفاعلاً واضحاً وإيجابياً من قبل رئاسة الجمهورية. ومما أثار غضب النقابيين وانزعاجهم، إقدام سعيّد على تغيير الوجهة فجأة، عندما أعلن الأربعاء الماضي عن مبادرة أخرى مختلفة تتمثل في إطلاق حوار شبابي عن طريق تطبيق إلكتروني حدّثه عنه وزير الاقتصاد السابق نزار يعيش. فكان ردّ فعل المركزية النقابية قوياً، حيث اعتبر الأمين العام المساعد سامي الطاهري، يوم الأحد الماضي، مبادرة رئيس الجمهورية "انقلاباً على الأعراف وعدم احترام للمنظمة". وأكد الطاهري على أن "خيار الاتحاد هو الحوار، وإذا انسدت سبله، فلدينا البديل ومسارات أخرى"، مشيراً إلى أن تاريخ "14 جانفي (يناير/كانون الثاني) 2011 مش بعيدة علينا"، في إشارة إلى تاريخ سقوط نظام زيد العابدين بن علي.
أمام هذا الغضب، سارع قيس سعيّد إلى تعديل مساره، وعاد من جديد إلى استرضاء "الاتحاد"، خوفاً من الوقوع في عزلة من شأنها أن تزيد من إضعافه تجاه البرلمان والأحزاب المخاصمة له. ولذلك، فهو الآن بصدد بناء ميزان قوى يكون لصالحه من خلال كسب ودّ النقابات من جهة، وتنظيم كتلة شبابية مساندة له من خلال الحوار الشبابي الذي ينوي إطلاقه قريباً بشكل مواز مع مبادرة الحوار الوطني.
يفكر سعيّد جدّياً في الاعتراض على القرار الأخير للبرلمان حول تنقيح قانون المحكمة الدستورية
من جهة أخرى، وجه قيس سعيّد اهتمامه إلى مسألة المحكمة الدستورية التي صوّت في شأنها البرلمان لصالح تعديل تمّ القيام به أخيراً، والذي بمقتضاه قرّر التراجع عن شرط الثلثين الذي سبق أن تم اعتماده من قبل لقبول العضوية لدى هيئة المحكمة، وهو الشرط الذي ساهم في عدم الوصول إلى اختيار المرشحين الأربعة عن مجلس النواب. فمنذ أن طالب بعض النواب صراحة بالشروع في وضع الآليات القانونية والدستورية من أجل الإطاحة بقيس سعيّد أو تقييد حركته، أخذت مسألة المحكمة الدستورية أبعاداً خطيرة، من شأنها أن تفتح الباب أمام صراع محموم بين رئيس الجمهورية من جهة وخصومه من جهة أخرى، وهو صراع وجود، وليس فقط صراع صلاحيات. فالرئيس يفكر جدّياً، خصوصاً بعد استقباله لبعض الأساتذة المختصين في القانون الدستوري، في الاعتراض على القرار الأخير للبرلمان بحجة أنه يتعارض مع "الدور الأساسي للمحكمة الدستورية في إرساء دولة القانون بعيداً عن الاعتبارات السياسية، والتأكيد على ضرورة أن تتوفر في هذه المحكمة كلّ الشروط لتحقيق مقاصدها، ومن بينها الحياد والكفاءة حتى لا تكون امتداداً لأي جهة سياسية". والقصد من ذلك حركة "النهضة" و"ائتلاف الكرامة" اللذان قدما مرشحين إلى عضوية المحكمة الدستورية يدور حولهما جدل واسع، نظراً لكونهما ليسا من أهل الاختصاص، إضافة إلى عدم إلمامهما بالمسائل الدستورية، واتهامهما بأن خطابهما الديني يتعارض صراحة في بعض جوانبه بناء على تصريحات سابقة مع روح الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان ومدنية الدولة. إذ من حقّ رئيس الدولة إعادة المشروع الذي وافق عليه البرلمان من أجل قراءة ثانية، وهو ما من شأنه أن يخلق صعوبة إضافية أمام السلطة التشريعية، ويزيد من تأجيل موعد تشكيل هذه المحكمة.
يحصل هذا في ظرف يتعرض فيه رئيس البرلمان، رئيس حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، إلى حملة واسعة النطاق تقف وراءها جهات غير معلنة تسعى إلى الإطاحة به سواء من رئاسة البرلمان، أو من المشهد السياسي. في هذا السياق، روّجت إحدى الصحف التونسية لاتهام رئيس حركة "النهضة" بأن ثروته السرّية بلغت 2700 مليار دينار (بما يعادل مليار دولار أميركي)، لإثبات تهمة الفساد، وهو ما سارعت الحركة إلى تكذيبه ولجوئها إلى القضاء. كما تمّ الترويج لخبر نقل الغنوشي إلى المستشفى العسكري في حالة خطيرة، وهو ما جعل رئيس الجمهورية يتصل به هاتفياً ليطمئن على صحته، في حين أن الرجل يواصل نشاطه بشكل عادي. هذا يعني أن "النهضة" ستبقى مستهدفة بشكل يومي من أجل تعميق أزمة ثقة التونسيين فيها وفي قادتها. ويأتي ذلك، فيما ينتظر التونسيون لحظة انفراج تعيد إليهم الأمل الذي فقدوه أو يكادون، حيث يعتقد 89 في المائة منهم أن البلاد تسير في الطريق الخطأ، ويفترض 63 في المائة منهم أن مستقبل الأجيال القادمة سيكون أسوأ مما هو عليه الآن، بحسب آخر استطلاع للرأي قامت به مؤسسة "سيغما كونساي".