عقد المنتدى السنوي لفلسطين، في دورته الثانية، التي ينظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في يومه الثاني، الأحد، جلستين شملت كل واحدة أربعة مسارات فرعية متوازية، وورشتي عمل.
وحمل المسار الأول للجلسة الأولى عنوان "تصوّرات لمستقبل فلسطيني"، بتنظيم شبكة السياسات الفلسطينية، شارك فيها ثلاثة باحثين، وقدمت أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في بوسطن، ليلى فرسخ، ورقة سلطت الضوء على "إعادة تصوّر الاستدامة الاقتصادية والتحرر في فلسطين: الفرص والعوائق"، وأكدت أن "تصوّر المستقبل الفلسطيني يتطلّب إنشاء اقتصاد عادل بيئياً، على عكس الاقتصاد السائد منذ ثلاثين عاماً القائم على الفصل العنصري الاستغلالي وغير المتكافئ".
من جانبه، عرض أستاذ علم الاجتماع في جامعة ماونت رويال في كندا، مهند عيّاش، قضية السيادات المناهضة للاستعمار لتحلّ محلّ الدولة القومية بوصفها بنية توجيهية من أجل تصوّر مستقبل بديل لإنهاء استعمار فلسطين، لافتاً إلى أن السيادات المناهضة للاستعمار يمكن نظرياً أن تصوغ الهياكل الاجتماعية والسياسية وتشكّلها، بما في ذلك الدولة والقومية، في أشكال مناهضة للاستعمار.
وأضاف عيّاش أنه "على النقيض من السيادة الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية الأميركية المطلقة، وغير القابلة للتجزئة في تطلعاتها إلى القضاء على السكان الأصليين في ممارساتها، فإن السيادات المعنية بإنهاء الاستعمار هي طبقات مشتركة ومتضاعفة في تطلعاتها وممارساتها".
أما الأستاذة في قسم الدراسات الأميركية الآسيوية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، نور جودة، فاستعرضت واقع التهجير والسلب بالرجوع إلى مسابقة إعادة الإعمار التي تنظّمها هيئة أرض فلسطين، والتي دلّلت على ضآلة التشعّب بين الماضي والحاضر في إعادة بناء عوالم الحياة المتوقّفة مؤقتاً.
المسار الثاني في المنتدى السنوي لفلسطين: الشباب والديموغرافيا
"الشباب الفلسطيني والديموغرافيا"، كان عنوان المسار الثاني، بمشاركة ثلاثة باحثين، وتحدثت الباحثة في مركز الدراسات اللبنانية، مي أبو مغلي، عن تأثير مشروع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في المجتمعات الفلسطينية من خلال تجارب الطلبة الفلسطينيين في الجامعات البريطانية، والتي تكشف عن قمع متعدد الأوجه يواجهه هؤلاء الطلبة، إلى جانب عمل سياسات الحكومة البريطانية على التأثير سلباً في الأداء الأكاديمي والفرص المهنية، وانتهاك حقوق التجمع والتعبير.
من جانبه، تناول مدير عام الإحصاءات السكانية والاجتماعية في الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، محمد دريدي، الواقع الديموغرافي للشباب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتقديرات المتوقّعة لأعدادهم المستقبلية، وما يواجهونه من تحديات على مختلف الأصعدة، كالبطالة والفقر والهجرة، وآراءهم تجاه عدد من القضايا، كالممارسة السياسية، والمجتمعية، والعمل الريادي والتطوّعي.
ولفت دريدي إلى أن "ثمة جملة من المشكلات الإضافية المركبة والمعقدة لدى أوساط الشباب الفلسطيني تفوق مشكلات كل الشباب في الدول المحيطة، وذلك بسبب الاحتلال وما يمارسه من قمع وملاحقة واعتقال وتخريب مجتمعي وقيمي، وما يلحقه بالمجتمع الفلسطيني من أضرار جسيمة عموماً، والشباب خصوصاً".
وفي السياق ذاته، تطرق مخطط المدن، الجغرافي راسم خمايسي، إلى "جدلية الديموغرافيا في فلسطين التاريخية: تحولات وإسقاطات واستشراف"، موضحاً أنّ إسرائيل تعمل على إنتاج جغرافية استعمار منطلقة من مفاهيم وروايات دينية، إذ أنشِئت هذه الجغرافيا باستخدام منظومة مركّبة لتجذب مجموعة عرقية كمياً لتُحدث تغييرات جيوسياسية وتحوّلات ديموغرافية.
ويرى خمايسي أن "استمرار الصراع في ظل شيطنة الديموغرافيا، كماً ونوعاً وانتشاراً، سيؤجج الصراع، وربما يجهز لتطهير حيّزي قادم، وذلك على خلفية التغييرات الديموغرافية، التي تجاوز عدد الفلسطينيين فيها اليهود الصهيونيين، على الرغم من مصفوفة الضبط التي تطبقها الدولة الصهيونية الاستعمارية الهجينة".
الاقتصاد بين الصمود والكفاف
وعقد المسار الثالث بعنوان "الاقتصاد الفلسطيني: بين الصمود والكفاف" بتنظيم معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني "ماس"، وشارك فيه سبعة باحثين.
وسلط مدير عام معهد "ماس"، رجا الخالدي، الضوء على "إشكالية هوية الاقتصاد الفلسطيني والتحول الهيكلي المطلوب لتنمية مستدامة"، وانطلق في بحثه من "حقيقة عدم تحقيق الأهداف الوطنية في إقامة الدولة ومماسة السيادة، وفي بناء الاقتصاد الوطني المنتج، وفي إرساء النظام الاجتماعي العادل كما خُطط وشُرّع لهما"، راصدًا المتغيّرات الأساسية في الهوية الاقتصادية الاجتماعية لفلسطين التي حالت دون تحقيق ما هو مخطط لدولة فلسطين.
سلط مدير عام معهد "ماس"، رجا الخالدي، الضوء على "إشكالية هوية الاقتصاد الفلسطيني والتحول الهيكلي المطلوب لتنمية مستدامة
وتطرق الخالدي إلى ثلاثة بدائل تكون أطراً لما يمكن أن تكون عليه العلاقات الاقتصادية الفلسطينية - الإسرائيلية في إطار حل الدولتين، أو في إطار السعي لتعديل العلاقة الحالية دون حل سياسي، وهي المزيد من التقارب مع تصحيح أوجه الخلل في الاتحاد الجمركي أو تجارة حرة، والمزيد من الانفكاك عن التبعية الاقتصادية، وبناء نظام تجاري ونقدي مستقل، إلى جانب التقارب الاقتصادي المتكافئ من خلال اتحاد اقتصادي كامل (تجاري، ضريبي، نقدي).
ومن خلال بحث السياق التاريخي لبدء تدفق العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، رصد الباحثون ماهر الكرد وإسلام ربيع وصبري يعاقبة، في ورقتهم المشتركة، أوضاع العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر في إسرائيل والمستوطنات القائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
وتستعرض الورقة اتجاهات العمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، والآثار الاقتصادية الناجمة عنها، والسياق التاريخي للعمالة الفلسطينية في إسرائيل، وبيّنت الورقة البحثية أن إسرائيل أخضعت الضفة والقطاع منذ احتلالهما في 1967 إلى الضم القسري للاقتصاد الإسرائيلي، وعزلهما عن محيطهما العربي.
وأشارت إلى أن إسرائيل انتهجت سياسة السلب والإفقار، والتي أدت إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية، وهذا بدوره حد من قدرة الاقتصاد المحلي على خلق فرص مجزية للقوى العاملة، كما أدى إلى الاعتماد على السوق الإسرائيلي في استيعاب فائض اليد العاملة الفلسطينية، فأدى إلى تعميق تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي.
وفي سياق متصل، قدّم الباحثون ياسر شلبي وأنمار رفيدي وإيمان سعيدي في ورقة مشتركة كذلك، لمحةً عن مدى إمكانية تحقيق التنمية والحد من اللامساواة في ظل السياق الاستعماري المفروض على الحالة الفلسطينية، مستعينين بمؤشرات اللامساواة في المجالات الاقتصادية ومجالات الخدمة الاجتماعية.
وحمل المسار الرابع عنوان "القيادات والمؤسسات الفلسطينية في بداية القرن العشرين"، وقدم المؤرخ الفلسطيني عادل مناع، "تأملات في أداء قيادات فلسطينية منذ الحاج أمين الحسيني"، وتحدث عن النهج السياسي لبعض الزعامات الفلسطينية ودورها في تفتيت وحدة الشعب الفلسطيني خدمةً لمصالح فئوية، محاولًا عقد مقاربة تاريخية بين القيادة الوطنية بزعامة أمين الحسيني من جهة، وياسر عرفات ومحمود عباس رئيسَي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى.
بدوره، أضاء الباحث مهند أبو سارة، على "تطور الأدوار الاجتماعية والتوجهات الفكرية عند الأعيان المقدسيين خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين" وركّز على عائلتَي الحسيني والخالدي في القدس، مبيناً ظهور فئات جديدة، مثل "المثقف" و"السياسي"، على حساب أدوار تقليدية للقاضي والفقيه.
وانطلاقاً من مقاربات اجتماعية تستند إلى مفهوم الحقل لدى بيير بورديو، تمحورت ورقة الباحث خالد زواوي حول، تحولات المؤسسة الدينية في فلسطين في نهايات العهد العثماني حتى عام 1936، والعام الذي أقال فيه الاحتلال البريطاني الحاج أمين الحسيني.
في السجون والقوانين والشتات
تمحور المسار الأول من الجلسة الثانية حول "منظومة السجن الإسرائيلية"، وقدّم الأستاذ في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، باسل فراج، إطاراً نظرياً مختلفاً لدراسة سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأنماط السلطة والعنف المطبّقة على الفلسطينيين، محاججاً بأنّ النظريات الموجودة غير كافية لتحليل منظومة الاحتلال السجنية، واقترح بدلًا من ذلك التركيز على أهداف العنف والسلطة الاستعمارية، وهي إعادة تشكيل الذات الفلسطينية ووعيها.
أما كريم قرط، فعالج العلاقة الجدلية بين تطوّر منظومة الرقابة والضبط في السجون الصهيونية وعمليات الهروب ومحاولاته التي قام بها الأسرى الفلسطينيون، محاولاً توضيح أن تطوّر منظومة الرقابة كان استجابةً لاختراق هذه المنظومة المتكرر على أيدي الأسرى.
وتناول الأكاديمي القانوني، محمد الشوبكي في ورقته "احتجاز الاحتلال الإسرائيلي لجثامين الشهداء الفلسطينيين بموجب القانون الدولي"، موضحاً أن احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين هو أحد الإجراءات الظالمة القديمة والمستمرة القائمة على مبدأ تحويل الجثث إلى ورقة مساومة، متطرقاً إلى مدى شرعية هذه السياسة وتداعياتها من منظور قانوني دولي.
ويرى الشوبكي أن ضعف القرارات الدولية وضعف وسائل إنفاذ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، أدّيا إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ سياساته غير القانونية من دون مراعاة قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وفي جلسة "الفلسطينيون ومنظومات القوانين"، حاول نائب رئيس جامعة بيرزيت، ياسر العموري، والمحامية مي بركات، في ورقتهما المشتركة تناول الإشكاليات التي تطرحها التشريعات الصادرة عن دولة فلسطين في ما يتعلّق بإعادة تعريف الفلسطيني، والتي برز أحد تجلياتها في الانتخابات التشريعية المؤجّلة لعام 2021، حيث شكّلت السياق العملي المعاصر لتكريس النص القانوني، الذي يصنّف الشعب الفلسطيني وفقاً لمكان الإقامة.
وفي السياق ذاته، تساءلت الأستاذة في كلية الحقوق والعلاقات الدولية في جامعة نيبريجا (إسبانيا)، سونيا بولس في ورقتها "هل يمكن أن تكون هناك مواطنة من دون حق تقرير المصير؟ لافتة إلى أنه جرى تصور مواطنة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل على أنها "مواطنة استعمارية استيطانية"، و"مواطنة عرضية" و"مواطنة فارغة"، وهي توجهات لا تهتم بالعلاقة الوطيدة بين المواطنة وحق تقرير المصير.
أمّا الباحثان رشاد توام وعاصم خليل، فأثارا سؤالًا يتعلق بدوافع النظام السلطوي لدعم وجود قضاء يبدو مستقلاً شكلانياً، ويسمح له بمناكفته بالحد من سلطاته والتضييق عليه في مصالحه، متخذين من التجربة الفلسطينية حالةً للدراسة في قراءتهم لتوجهات القضاء الدستوري الفلسطيني.
وضمت جلسة "الشتات الفلسطيني: الانتماء والمواطنة"، ثلاث أوراق، إذ بحثت الأستاذة في جامعة ماكماستر، لوسي الشريف، أوجه التشابه بين طرائق متشابكة لـ"العرقنة" والاستيطان في الدراسات حول الاستيطان الاستعماري في فلسطين وأميركا الشمالية، مقدّمةً جملة من الرؤى المنهجية الجوهرية بخصوص البحوث الميدانية والتحليلات المتعلقة بكيفية تجسّد هذه الطرائق وصياغتها وتنفيذها.
وأضاءت الأستاذة في جامعة أدنبرة، خلود العجارمة، على أنماط اللاجئين الفلسطينيين وتجاربهم من خلال استكشاف الشتات الفلسطيني الذي استقرّ أصلًا في العراق، ثم أجبِروا على النزوح في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وأُعيد توطينهم في تشيلي.
وفي السياق ذاته، قدّمت المستشارة ماري قرطام نظرة شاملة على الشتات الفلسطيني في أوروبا والمجتمع المضيف في ألمانيا وفرنسا والدنمارك، مع التركيز على أسباب الفشل في الدمج أو رفض المجتمع المضيف لدمجهم.
وبعنوان "في المقاومة الفلسطينية"، انعقد المسار الرابع والأخير من جلسات اليوم الثاني للمنتدى، إذ استهل رئيس وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عمر عاشور ورقته بتقديم وصف موجز لمفهومي "الدفاع الهجين" و"الدفاع الهجين في العمق"، ثم حلَّل التعديلات والابتكارات العسكرية ضمن هذه الاستراتيجية التي عزَّزت الفاعلية العسكرية لكتائب القسام، وانتهى بملاحظات حول هذه الاستراتيجية والكيفية التي تحاول بها القوّات الإسرائيلية مواجهتها.
بعنوان "في المقاومة الفلسطينية" انعقد المسار الرابع والأخير من جلسات اليوم الثاني للمنتدى
ومن خلال قراءة في تطور استراتيجيات المواجهة في الضفة الغربية خلال الفترة 2021-2023، درست الباحثة في المركز العربي، آيات حمدان ظاهرة الكتائب التي تشكّلت محلياً في المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، وذلك على الرغم من سياسات مكافحة التمرد التي طبّقتها القوى الدولية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، والتي لم تنجح في إنهاء تنظيمات المقاومة وتشكيلاتها كليّاً.
وفي سياق متصل، قدّم الباحث مجد درويش أدلةً على الشرعية الدولية للمقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبنيته الاستعمارية، في ضوء التجاهل شبه التام لشرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية من غالبية الأوساط الأكاديمية التي تهتم بالربط بين القانون الدولي وقضية فلسطين، وهو أمر غير طبيعي.
ويختتم المنتدى أعماله غداً الاثنين، وتناقش مسارات الجلسات غداً التضامن العالمي مع فلسطين، واللاجئين والمهجرين الفلسطينيين، والانتماء في المجتمع الفلسطيني، وأنظمة السيطرة الاستعمارية في الضفة الغربية وقطاع غزّة، والصحة والبيئة في سياق الاستعمار الاستيطاني، وصراع الذاكرة، وبناء الاقتصاد.