"بينما كان الفلسطينيون يقاتلون من أجل بقائهم على الأرض، كانت شركات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل بنشاط على إسكات أصواتهم عبر الإنترنت". "الرقابة الصارخة على المحتوى الفلسطيني هي مثال على فشل شركات التكنولوجيا في حماية المستخدمين الأكثر ضعفًا، وإثبات التزامها بدعم حقوق الإنسان، لا سيما في أوقات الشدة السياسية". مروة فتافطة مديرة سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في Access Now
من الأرض إلى السماء يحتل الكيان الصهيوني كل الحيز والمساحات التي تمكن الفلسطيني من النفاذ إليها رغم الاحتلال والقمع والاعتقالات والمنع ومصادرة ممتلكاته وحياته والتهجير القسري والشتات لإيصال صوته وحقوقه في مواجهة السياسات العنصرية والاستعمارية من الكيان العبري منذ أكثر من سبعين عاما. وليست شبكات التواصل الاجتماعي إلا جدار جديد فاصل بين الحق الفلسطيني وبين العالم الخارجي ليس فقط داخل الأرض المحتلة، بل في كل ارجاء المعمورة وليس حكرا على الفلسطينيين، بل كل متضامن وداعم للحق الفلسطيني حتى في الولايات المتحدة الأميركية.
خلال الهبة الفلسطينية الأخيرة، مارست شركات التواصل الاجتماعي تحيزها الواضح مع سياسات الاحتلال الإسرائيلية وأظهرت دعما وتعاونا غير مسبوق لحجب الرواية والمحتوى الفلسطيني الذي رصد الانتهاكات وجرائم الفصل العنصري بدءا من احداث حي الشيخ جراح وصولا إلى ما يتعرض له الصحافيون الفلسطينيون والأجانب والفنانون والأكاديميون، بل وأصوات اليهود غير الصهاينة الذين ينتقدون جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكن هذه الأحداث الأولى التي تمارس فيها إدارات شركات التواصل الاجتماعي أنواعا من الرقابة تصل إلى إعدام الصوت الفلسطيني دون أي معايير واضحة ولن تكون الأخيرة في اتباعها انماطا متحيزة سياسيا للرواية الإسرائيلية الصهيونية. بل يمكن أن منصات التواصل الاجتماعي خاصة شركة فيسبوك وفرعيها إنستغرام وواتساب كانت شريكة في دعم وترويج خطاب كراهية مُحرّض للمستوطنين ضد الفلسطينيين خلال مهاجمتهم للمقدسيين أو مهاجمتهم لفلسطينيي الداخل 1948 خلال احتجاجات اللد على سبيل المثال عبر الترويج لرسائل الكراهية والتحريض والتهديد للنشطاء الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة. بجانب المساعدة على ترويج مسيرة الأعلام للمستوطنين في 15 يونيو الحالي وما سبقها وتخللها من الترويج لخطابات الكراهية والتحريض على القتل دون أي حذف او رقابة أو حجب وفقا لمعاييرها المجتمعية التي نصت عليها في إدارتها.
حجب وإسكات الصوت الفلسطيني
انشغل العالم بالحدث الفلسطيني واستحوذ على اهتمام المستخدمين والنشطاء في مختلف شبكات التواصل وفي مختلف الدول العربية، وعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الإعلامي والشعبي العربي والدولي رغم محاولات إسكات الصوت الفلسطيني منذ سنوات وشيطنة روايته مقابل أنسنة الاحتلال الإسرائيلي، وتصدر الفضاء الرقمي أوسمة عبرت عن الأحداث وداعمة للحق الفلسطيني وراصدة للانتهاكات وجرائم الاحتلال كـ #فلسطين_قضيتي_الأولى، #انقذوا_حي_الشيخ_جراح، #فلسطين_ تنتصر #SaveShaikhJarrah #GazaUnderAttack إلى صدارة الوسوم المستخدمة على «تويتر» و"فيسبوك" و"إنستغرام" بعد أن انشغلت غالبية المستخدمين بالأحداث في فلسطين التي بدأت في القدس المحتلة وسرعان ما امتدت إلى مختلف المناطق الفلسطينية من البحر إلى النهر.
وتحولت تلك الأوسمة إلى حملات تضامنية من قبل النشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي لدعم صمود الفلسطينيين في القدس وغزة والضفة والداخل.
تلك الحملات التضامنية لنقل الرواية الفلسطينية وفضح جرائم الاحتلال الضخمة والكثيفة حدت بمنصات فيسبوك وإنستغرام وتويتر لحجب كل محاولات نشر الحقيقة والقصص التي يعيشها سكان القدس والمصلون في المسجد الأقصى. وحجب جرائم المستوطنين الذين انطلقوا في كل ارجاء المدن الفلسطينية مروجين ومحرضين لخطاب الكراهية والقتل للفلسطينيين.
واصلت منصات التواصل الاجتماعي انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني المحتلّ في التعبير عن رأيه ومعاناته وتوسع الحجب على كامل الشبكة باستهداف كل وسم يستعمله النشطاء، وقامت خلال أحداث القدس بحجب الحسابات الشخصية التى تحتوي على كلمات "المقاومة" و"المسجد الأقصى" و"شهيد" واجه كل النشطاء الذين تحركوا منذ أزمة حي الشيخ جراح عمليات حجب واضحة لمجرد استعمال الوسم #القدس، رغم أن المحتوى ليس فيه تحريض ولا عنف، بل كان أغلبه في شكل قصص توثّق ما يجري في الميدان. بجانب حجب الصور والفيديوهات التي توثق لجرائم الاحتلال كصور وفيديوهات المعتقلين والمعتقلات من الشباب والنساء والأطفال. وأصبحت عملية إزالة المحتوى تخضع لرقابة دقيقة وحتمية من خلال تقنية الذكاء الصناعي وخوارزميات فيسبوك التي تحلّل وتدير المحتوى في المنصة بمختلف اللغات.
انحياز المنصات الاجتماعية لخطاب الكراهية والعنصرية
تزايد عدد الفلسطينيين الذين يشكون من منصات التواصل الاجتماعي المهيمنة وعلى رأسها "فيسبوك"، و"واتسآب"، و"تويتر"، و"يوتيوب"، بسبب قمعها حريتهم في التعبير، ووثقت عدة مؤسسات حقوقية تعنى بالحقوق الرقمية وحرية الرأي والتعبير في فلسطين، الكثير من الانتهاكات ضد المحتوى الرقمي الفلسطيني. ورصد المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي "حملة"، خطاب الكراهية والتحريض والعنصرية في المحتوي الإسرائيلي والذي لم تقم منصات التواصل الاجتماعي بحجبه أو منعه وفقا للمعايير المجتمعية التي تحاجج بها المحتوى الفلسطيني، وأعلنت النتائج زيادة نسبة المحتوى الإسرائيلي باللغة العبرية وعلى صفحات المنصات 15 ضعفا خلال الفترة ما بين 6-12 مايو/أيار 2021 مقارنة بالفترة الزمنية المماثلة من العام الماضي.
كما أوضحت النتائج انتشار 183,000 محادثة تضمنت عنصرية أو سب/شتم أو تحريض ضد العرب من أصل 1,090,000 محادثة رصدها التقرير حول السكان العرب والفلسطينيين/ات بشكل عام على الإنترنت، حيث شكل الخطاب التحريضي على العنف ما نسبته 29%، بينما شكلت الشتائم ضد العرب والفلسطينيين/ات ما نسبته 31%، وقد شكلت المحادثات العنصرية تجاه العرب والفلسطينيين/ات 40%. كما ظهر من النتائج تنوع في الخطابات بين خطابات عنيفة في سياق عسكري وأمني بنسبة 76% من الخطاب، فيما شكل 11% من الخطاب مضموناً حول القضية السياسية، والتي وجه معظمها إلى أعضاء الكنيست العرب ككل، وذلك على خلفية محاولات تشكيل حكومة تغيير تعتمد
على الأحزاب العربية، وقد جاءت 5% من المحادثات العنيفة في السياق الاقتصادي، والتي تضمنت دعوات للمقاطعة الاقتصادية للسكان العرب، ووفقاً للمؤشر فقد وجد أن "تويتر" هي الأكثر "عنفاً" بنسبة 58%.
وفي السياق نفسه ذكر مركز صدي سوشيال وهو أحد المراكز التي تعنى بالمحتوى الرقمي الفلسطيني أن هناك أكثر من 1200 انتهاك ضد المحتوى الرقمي الفلسطيني في عام 2020 بزيادة وصلت إلى 20 في المائة عن العام 2019، تربعت على عرشها شركة "فيسبوك" بأكثر من 800 انتهاك كحظر النشر والبث المباشر، وإغلاق وحذف حسابات وصفحات، وحظر أرقام عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي الأخرى، مع التضييق في الوصول والمتابعة وقيود على النشر، وأكدت النتائج تصاعـد دور الخوارزميات والقوائمِ الاصطلاحية المرتبطة بها فـي ملاحقة المحتوى الفلسطيني وحجبه ومنع الوصول إليه على الشبكة.
على مدى سنوات طورت شركات التواصل الاجتماعي مئات القواعد لإدارة المحتوى، منها ما هو مُعلن على صفحات المعايير المُجتمعية، ومنها ما هو مخفي يظهر فقط عبر تسريبه للإعلام. كما أنها أوكلت لشركات خارجية تطوير القواعد لادارة المحتوى الرقمي بل والرقابة عليها. وذلك عبر مكاتب إقليمية ومطورين استشاريين خارجيين. فيذكر مركز سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في Access Now في موقعه أن النيويرك تايمز نشرت وثائق داخلية لشركة فيسبوك عممت على موظفيها أن يتم تصنيف كلمة «شهيد» على أنها محتوى إرهابي. كما نشرت مجلة «ذا إنترسيبت» تقريرًا عن سياسة داخلية للتعامل مع كلمة «الصهيونية»، وهي سياسة تساوي بين «الصهاينة» و«اليهود»، وأعطت السياسة تعليمات بحذف مواد تحتوي انتقادات أو شتائم للصهيونية. كما نشرت مجلة «بروببليكا» عام 2017 وثائق إرشادية داخلية لفريق إدارة المحتوى في فيسبوك تمنع «التحريض على استخدام العنف لمقاومة احتلال دولة معترف بها عالميًا».
انحازت شركة فيسبوك علنيا لجانب الاحتلال صراحة عبر استحداثها إدارة جديدة في عام 2019 في مقرها الإقليمي في أبوظبي ما يسمى "مجلس الإشراف" لغرض الرقابة على المحتوى والذي يعمل كمحكمة عليا داخلية بشأن النزاعات أو الخلافات وعينت إيمي بالمور، المديرة العامّة السابقة لوزارة القضاء الإسرائيليّة من بين أوّل 20 عضواً في المجلس، وأحد الممثّلين عن منطقة الشّرق الأوسط
وشمال أفريقيا، وقامت بالمور بإنشاء وحدة خاصة لتشديد الرقابة على المنشورات الفلسطينية، في مجلس الإشراف الذي أسسته فيسبوك في 2019.
خلال استلامها لجائزة مبادرة إبراهيم في الإمارات عام 2019. تعهدت إيمي بالمور "بأنها ستسعى لتغيير سياسات "فيسبوك" من الداخل، بحسب ما نقلت عنها صحيفة "غلوبوس"، وقالت مور في تصريحات سابقة للصحافة الإسرائيلية حول سياسات الحذف ضد الناشطين الفلسطينيين: "عندما تَعرف أن هناك أشخاصا في الـ 17 من عمرهم قرأوا مواد تحريضية على الإرهاب على صفحات "فيسبوك"، ثم قاموا بطعن طفلة في الخليل مثلاً، فإن الحديث هنا ليس مسألة حقوق إنسان وإنما أيضاً إمكانية إزهاق حياة (تقصد المستوطنين)".
المنصات الاجتماعية تخالف القانون الدولي
كشفت الأحداث الماضية عن تورط المنصات الاجتماعية وتنسيقها مع الكيان الصهيوني في حجب ومنع المحتوي الفلسطيني أو المحتوى العالمي الذي يوثق الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين الأساسية، ومن ضمنها الحق في التعبير، والحق في حريتَي التجمع والتظاهر في الفضاء الرقمي.
جاءت سياسات المنصات الاجتماعية مخالفة لما ينص عليه العهـد الدولي الخاص بالحقـوق المدنية والسياسية فــي المادة 16 التي تنص على أن "الحـق في الحياة حـق ملزم لكل إنسان، وعلى القانون آن يحمي هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا". ويعد انتهاكا تحديدا على المادة 26 التي تنص على أن "النـاس جميعـا سـواء أمـام القانـون ويتمتعـون دون أي تمييـز بحـق متسـاو فـي التمتـع بحمايتـه"، وقـد نـص علـى الحـق فـي حريـة الـرأي والتعبيـر، فـي عـدد مـن مواثيـق حقـوق الإنسان الدوليـة، وبما أن دولة إسرائيل قد وقعت على العهـد الدولـي الخـاص بالحقـوق المدنيـة والسياسـية، فـإنها ملزمـة -وفقا للمادة 19 بحماية " الحـق في حرية الإنسـان فــي التماس مختلـف ضروب المعلومات والأفـكار وتلقيهـا ونقلهـا إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سـواء على شـكل مكتوب أو مطبوع أو فـي قالـب فني أو بأية وسـيلة أخـرى يختارهـا".
علاوة على ذلك، فـإن المـادة 20 مـن العهـد الدولـي الخـاص بالحقـوق المدنيـة والسياسـية " تحظر بالقانون أية دعاية للحرب، وتحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو
العنف" مما يعني إن إســرائيل كدولــة طــرف فــي العهــد الدولــي الخــاص بالحقــوق المدنيــة والسياســية، تنتهــك حقـوق الانسـان الفلسـطيني الأساسـية، وتتجاهـل مسـؤولياتها بشـكل صـارخ. بجانب أن ذلك يمثل انتهاكا صارخا – أيضا- للاتفاقية الدوليـة للقضـاء علـى جميـع أشـكال التمييـز العنصـري ICERD )) التي صادقت عليها، لذا فإن الاتفاقية تطالب الموقعـين عليها بحظـر خطـاب الكراهيـة وتجريم العضوية في المنظمات العنصرية.
إن السياسات الرقابية التي تقوم بها المنصات الاجتماعية تعتبر انتهاكات صارخة وتمييزية عنصرية تهـدف إلـى إسـكات المحتـوى والتجـارب والأصـوات الفلسـطينية، وتشـكل انتهـاكا مباشـرا لحقـوق الإنسـان الفلسـطيني الأساسـية، وآليـة للسـماح بالتحريـض علـى العنـف، وذلـك نتيجـة لغيـاب الرقابـة ومحاسـبة الدعـوات الإسرائيلية المتطرفـة لارتكاب أعمـال العنـف ضـد الفلسـطينيين، لكن هل يمكن محاسبة أو مقاضاة تلك الشركات المخالفة والمنتهكة لحقوق الإنسان في المحاكم الدولية؟