أنهى رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، أمس الأربعاء، جولةً خارجية، بدأها بالجزائر يوم السبت الماضي، ثم إيطاليا وفرنسا، وحفلت كالزيارات الخارجية السابقة التي أجراها الدبيبة منذ تسلمه منصبه رسمياً في مارس/آذار الماضي، لا سيما إلى كلّ من مصر وتركيا، بأجواء توقيع الاتفاقات الاقتصادية الثنائية، وعقود إعادة إعمار ليبيا. ويستعد الدبيبة للمشاركة في مؤتمر "برلين 2" حول بلاده، والمقرر عقده في 23 يونيو/حزيران الحالي بمشاركة عدد من الدول الإقليمية والدولية، ومنظمات دولية، كأول رئيس لحكومة ليبية موحدة منذ ست سنوات.
وعكست زيارات الدبيبة جميعها إدراكه لضرورة العمل على التوفيق بين مصالح دول عدة فاعلة ومؤثرة في أزمة بلاده، والتي غالباً ما جاءت متشابكة ومتضاربة.
اتسمت أجواء معظم الزيارات بتوقيع الاتفاقات الاقتصادية، وعقود إعادة إعمار ليبيا
وجاءت الجولة الأخيرة للدبيبة، بعد شهر من جولة أولى حملته إلى أنقرة والقاهرة وأبوظبي والكويت. وكانت زيارته إلى مصر وتركيا، الأكثر كثافة، من حيث المشاركة الوزارية الليبية، والاتفاقات الثنائية ذات الطابع الاقتصادي، التي وقعت بين طرابلس وهذين البلدين، ما يشير إلى إدراك رئيس حكومة الوحدة الليبية، مدى أهمية دور أنقرة والقاهرة في بلاده، وأنهما الفاعلان الخارجيان الأكثر تأثيراً وبشكل مباشر في أزمتها. كما يدرك الدبيبة، مدى أهمية فكّ اشتباك مصالح تركيا ومصر ومواقفهما المتوجسّة.
وحلّت الجزائر ثالثة من حيث كثافة وثقل الزيارة لرئيس الحكومة الليبية، حيث رافقه إليها وفد حكومي مكون من تسعة وزراء، شاركوا في العاصمة الجزائرية في العديد من اللقاءات التي عقدت مع نظرائهم الجزائريين ومسؤولين في هذا البلد. كما شهدت الزيارة بدورها، توقيع اتفاقات وعقود، تتيح للجزائر المشاركة في ملف إعادة إعمار ليبيا. بل حرص الدبيبة على إطلاق منتدى ليبي - جزائري، بمشاركة حوالى 400 من رجال الأعمال من كلا البلدين، ويهدف إلى "الإسهام في رفع التبادل التجاري وتبادل الخبرات، والنهوض بالقطاع الخاص للمساهمة في تنويع مصادر الدخل"، بحسب المكتب الإعلامي للحكومة الليبية. وجاء ذلك إضافة إلى التشاور في ملفات على صلة بدعم الجانب الخدمي وقطاعي الكهرباء والصحة، واتفق الطرفان على عودة شركة "سوناطراك" لاستئناف العمل في مجال استكشاف النفط في ليبيا.
ولم تختلف زيارة الدبيبة لروما، يومي الأحد والإثنين الماضيين، في فقراتها، كثيراً عن زياراته الخارجية السابقة التي حملت خصوصاً اهتماماً بالجانب الاقتصادي. وفي هذا الإطار، شارك الدبيبة فور وصوله إلى العاصمة الإيطالية، في افتتاح المنتدى الليبي -الإيطالي الاقتصادي، برفقة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، مشدداً على أن بلاده "ترغب في إعادة إطلاق اقتصادها، وإيطاليا هي أفضل شريك"، وفق ما صرّح به خلال مؤتمر صحافي عقد مع انطلاق فعاليات المنتدى. وعلى هامش أعمال المنتدى أيضاً، التقى الدبيبة رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، لمناقشة "سبل توسيع دائر المشاركة لمكافحة الهجرة غير النظامية، وإيجاد آليات تنسيق موحدة إزاء التحديات الأمنية التي تواجه بلاده وإيطاليا"، وفق المكتب الإعلامي للحكومة الليبية.
مرغم: الدبيبة يعرف أن المرحلة انتقالية، تصّر العواصم الكبرى على ضرورة تجاوزها بالانتخابات
وبعكس زياراته إلى تلك الدول، حملت آخر محطات جولات الدبيبة الخارجية حتى الآن، طابعاً سياسياً وأمنياً. ففي العاصمة الفرنسية باريس، التي وصل إليها الدبيبة الثلاثاء، برفقة وفد حكومي مصغر، التقى الأخير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية جان إيف لودريان، ووزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي. وشدّد الدبيبة خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع ماكرون في قصر الإليزيه، على "الدور المهم لفرنسا في دعم برنامج استقرار ليبيا وتعزيز قرارنا السياسي"، مشيراً إلى أن "اللجنة الليبية الفرنسية العليا المشتركة لم تجتمع منذ العام 2002، واتفقنا مع الفرنسيين على تفعيلها". وأوضح أن هناك مشاريع مشتركة بين ليبيا وفرنسا "نتطلع لاستكمالها في أقرب وقت". من جهته، شدّد الرئيس الفرنسي على وجوب عدم "السماح بتدخلات خارجية في ليبيا، وعلى ضرورة أن يغادرها المرتزقة الأجانب"، مؤكداً عزم باريس على "مساعدة ليبيا في هذه المرحلة الانتقالية".
وبحسب المحلل السياسي الليبي مروان ذويب، فإن مضمون الزيارات "يعكس رؤية الدبيبة لعمق الأزمة الليبية، وشكل الحل، من خلال تقديمه للمقاربة الاقتصادية كأساس وخطوة أولى باتجاه هذا الحلّ". ووفقاً لقراءة ذويب، فإن الدبيبة يرى أن الحل هو في التقليل من تأثير التدخلات الخارجية في بلاده، بهدف إضعاف الوكلاء المحليين، من خلال مقاربة اقتصادية تضمن مصالح المتنافسين الخارجيين، لكنه في الوقت ذاته يسعى إلى خلق توازن بين تلك الأطراف الأكثر تأثيراً، لاسيما الإقليمية منها.
ويوضح ذويب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن رئيس الحكومة الليبية "يدرك أن التقارب المصري – التركي، كان مفتاحه تفاهمات الطرفين في الملف الليبي، لكنها توافقات لا تزال غير ناضجة، وإمكانية فشلها واردة، وبالتالي فإن آثار أي فشل ستكون وخيمة على ليبيا". وحول ذلك، أوضح الدبيبة أن "البلدين انفردا بمشاريع وعقود ضخمة (في ليبيا) قد تذكي الصراع بينهما، وبالتالي كان لزاماً على الدبيبة إدخال طرف ثالث في حالة التنافس"، مؤكداً أن الجزائر "هي من أهم دول الجوار الليبي التي يمكنها موازنة مصر وتركيا، خصوصا وأنها تمتلك مقاربة سياسية خاصة بها للأزمة الليبية".
أما زيارة الدبيبة لروما وباريس، فهي مختلفة، بحسب ذويب. ويرى المحلل السياسي أنه "على الرغم من أن الزيارة إلى روما اتسمت بالاهتمام بالجانب الاقتصادي، الا أن ملف تأمين الحدود الجنوبية لبلاده، ونقل ملف الهجرة غير النظامية إلى فضاء دولي كان محل تركيزه وتأكيده"، لافتاً إلى أن هذا الملف بحث أيضاً في باريس، ذات النفوذ في العمق الأوروبي.
من جهته، يعتبر الباحث الليبي في الشأن السياسي، أبوزيد مرغم، أن الدبيبة يريد إيصال رسالة مفادها بأنه "رئيس معتدل، ويمكنه التعامل مع الجميع وتحقيق مصالحهم"، معتبراً أن هذه الجولات بـ"إغراءاتها الاقتصادية، هي بمثابة دعاية انتخابية، فالمرحلة التمهيدية الحالية للانتخابات على وشك النفاد (الانتخابات الليبية الرئاسية والتشريعية مقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل". ويقول مرغم في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "لغة المال والعقود التي تحدث بها الدبيبة في تلك العواصم، بدأها منذ اليوم الأول، فهو يعرف أن المرحلة مرحلة هدنة سياسية، تصّر العواصم الكبرى على ضرورة تجاوزها بالانتخابات المقبلة، ولذا فعليه حشد ما يمكن حشده من تأييد لدى تلك العواصم ولدى الرأي العام".
ويضيف مرغم أنه "كان من الممكن للدبيبة أن يستخدم أوراقاً أقوى، لجهة تبديده المخاوف الأوروبية في روما وباريس من علاقته مع تركيا، خصوصاً مع إصراره على الإبقاء على الاتفاقات الموقعة مع أنقرة (في عهد حكومة الوفاق السابقة برئاسة فائز السراج)، وأيضاً استثمار فرصة لقائه بالمسؤولين الفرنسيين الأمنيين رفيعي المستوى لتمتين علاقته بهم، بهدف سحب البساط من تحت أقدام (قائد مليشيات الشرق الليبي) الضعيف والخاسر، خليفة حفتر"، معتبراً أن حكومة الدبيبة في نظر تلك العواصم قصيرة الأمد، ولذا فإن هذه العواصم متشددة في ضرورة عقد انتخابات ليبية نهاية العام الحالي، والبحث عن شريك فاعل وقوي في طرابلس، يمكن التعامل معه.