انتهى اجتماع مساء الثاني من يوليو/تموز الحالي في قصر الرئاسة "الإليزيه"، ولم يصدر عنه حتى بيان رسمي، بينما كان من المتوقع أن يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حالة الطوارئ، وإنزال الجيش الذي طالب به 70 في المائة من المواطنين، حسب استطلاعات الرأي.
كان ذاك مساء اليوم السادس للحرائق، التي انطلقت شرارتها الأولى يوم السابع والعشرين من شهر يونيو/حزيران الماضي، إثر مقتل الفتى نائل المرزوقي من أصل جزائري على يد شرطي فرنسي، وانتقلت بسرعة شديدة من ضواحي باريس إلى المدن الأخرى، بعد أن تحوّلت من احتجاجات إلى أعمال عنف وتدمير للممتلكات العامة والخاصة، ونهب للمتاجر.
عدم إعلان حالة الطوارئ واستبعاد خيار الاستعانة بالجيش دليل مباشر على تراجع الخطر، وهذا ما حصل فعلاً، إذ عاشت فرنسا ليلة الأحد الماضي من دون حوادث في أي من المدن الكبرى مثل باريس، مرسيليا، ليون، ستراسبورغ، وهذا يعني أن الشرطة وأجهزة مكافحة الإرهاب والتخريب نجحت في السيطرة على الموقف.
أصعب التحديات أمام ماكرون
جرى زجّ 45 ألف شرطي في مواجهة أحداث العنف، وهو ما يقارب نصف عديد الجهاز الفرنسي المكلف بالأمن الداخلي، وهذا يحصل للمرة الأولى منذ ما يعرف بـ"انتفاضة الضواحي" عام 2005. وبسبب خطورة الموقف، تمت الاستعانة بقوات على درجة عالية من الحرفية متخصصة في الإرهاب، وظهرت، لأول مرة، عدة أنواع من المصفحات والآليات، التي جرى تطويرها من أجل حروب المدن.
لم تكن مسألة إخماد الحريق سهلة أبداً على الدولة الفرنسية، التي تصرفت بصرامة وحذر شديد ومسؤولية تجاه الحدث غير المسبوق، من حيث الشكل والمضمون. وكان واضحاً منذ اليوم الأول أن الحكومة اتّبعت منهج التدرج في استخدام القوة، وذلك نتيجة لأسباب عدة.
لم تكن مسألة إخماد الحريق سهلة أبداً على الدولة الفرنسية، التي تصرفت بصرامة وحذر شديد
السبب الأول هو الخوف من أن الإفراط في استخدام القوة كحل سهل وسريع المفعول، يمكن أن يزيد من اشتعال النيران. ولو أن الشرطة استخدمت الرصاص الحي في مواجهة حرق الممتلكات العامة، كانت حدّت من الأضرار على هذا الصعيد، ولكنها كانت ستوقع قتلى وجرحى وتتحمّل تبعات سياسية وأخلاقية.
والسبب الثاني هو أن أكثر من ثلث المشاركين في الاضطرابات في ضواحي باريس في اليومين الأولين تتراوح أعمارهم بين 11 و13 عاماً. ولذلك ضغطت الدولة على أولياء الأمور من أجل المساعدة على منعهم من النزول للشارع ليلاً، وهو ما بدا ملحوظاً في اليوم الثالث.
أما السبب الثالث فهو أن هناك رأياً عاماً محلياً وخارجياً، يحمّل الدولة الفرنسية مسؤولية تدهور الأوضاع في الضواحي، من خلال اتّباع سياسات تمييز أدت إلى الإهمال والتهميش، وتصاعد وتيرة العنصرية التي تسربت إلى بعض الأجهزة الرسمية، ومنها قوات الشرطة، وكان لبيان الأمم المتحدة في هذا الصدد، أثره البالغ.
وجدت الدولة نفسها في مواجهة حدث يتجاوز انتفاضة الضواحي الباريسية في العام 2005، وذلك من حيث نسبة المشاركة ونوعيتها وحدتها، وكذلك الأعمال التي قام بها المشاركون، وكشفت عن تنظيم حصل من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي "تيك توك" و"سناب شات"، وهذا ما أعلن عنه ماكرون في اليوم الثالث.
عرفت الأحداث ثلاثة أطوار. الأول هو التظاهرات العفوية عند انتشار نبأ مقتل الشاب نائل، وترافقت مع تكسير كاميرات المراقبة في الشوارع وحول مراكز الشرطة والمباني الرسمية. والثاني هو حرق المقرات الرسمية، وغير الرسمية، والأملاك العامة، والخاصة. والثالث هو عمليات النهب الواسعة التي شملت المتاجر بشتى محتوياتها، وخصوصاً الملابس والأجهزة الإلكترونية المتطورة، من هواتف وغسالات وبرادات، وحتى فرش البيوت.
اتسم رد الدولة بممارسة أكبر قدر من الصرامة، ولم يصدر عن أي من مسؤوليها أي رد فعل خارج حدود القانون، فهي التزمت باعتقال الشرطي، وإحالته إلى القضاء بعد أن وجّهت له تهمة القتل، ومن المقرر أن تصدر نتائج ذلك خلال أيام. وتجنّبت المحاكمة السريعة كي لا تنعكس سلباً على الجهاز الذي يتحمّل مسؤولية إطفاء الحريق.
ولن تكون نتائج التحقيق مُرضية لأهل الضحية، إذا كانت العقوبة مخففة، ولا لجهاز الشرطة في حال كانت قاسية، لأن مسؤوليه يعتبرون أن الشرطي كان يقوم بواجبه ومارس حق الدفاع عن الذات، ولم يكن في نيّته القتل. وأي تشديد للعقوبة سينعكس سلباً على أداء عناصر الشرطة الذين واجهوا المخاطر خلال خمسة أيام صعبة من أجل فرض الأمن والهدوء.
ثمة من ينتقد صرامة ماكرون في مواجهة الحدث، وعدم التعامل معه كنتيجة لتراكمات طويلة من إخفاقات الدولة الفرنسية
ثمة من ينتقد صرامة ماكرون في مواجهة الحدث، وعدم التعامل معه كنتيجة لتراكمات طويلة من إخفاقات الدولة الفرنسية حيال معالجة مشاكل الضواحي، إلا أن الرئيس الفرنسي وجد نفسه بلا خيارات أمام تطورات سريعة ومفاجئة، انتقلت من العفوي إلى الحرق والتدمير والنهب والاعتداء على أفراد الشرطة ورموز الدولة.
وترى أوساط المعارضة أن لأداء ماكرون خلال السنوات الست التي مضت من وجوده في رئاسة الدولة حصة في كل ما حدث، سواء من خلال السياسات الليبرالية التي اتّبعها، أو التشدد الأمني، ومواجهة كافة المظاهر الاحتجاجية بالعنف، وهذا ما حصل مع حركة السترات الصفراء، والتظاهرات التي خرجت في الأشهر الماضية للاحتجاج على فرض مشروع قانون التقاعد.
تشاؤم بالقدرة على امتصاص الصدمة
وتسود حالة من التشاؤم حول قدرة ماكرون وجهازه الحكومي على امتصاص الصدمة الكبيرة، وتحويلها إلى فعل إيجابي من أجل وضع سياسات جادة لمعالجة إهمال وأخطاء الحكومات السابقة تجاه الضواحي، وإصلاح جهاز الأمن ووضع ضوابط لاستفحال الخطاب العنصري، الذي تجاوز اليمين المتطرف، وصار يصدر عن ماكرون نفسه، وعن وزير داخليته جيرالد دارمانان، الذي أثار استياء واسعاً بتصريحاته الأخيرة في الولايات المتحدة التي تحدث فيها عن "الإرهاب السنّي".
ومن الانتقادات التي توجَّه إلى ماكرون عدم ظهوره للحديث إلى الرأي العام مباشرة، وترك رئيسة الوزراء إليزابيث بورن التي لا تحظى بأي شعبية، ووزير الداخلية، يتجولان في المناطق الملتهبة، بينما بقي هو يتابع من مكتبه في الرئاسة، وكان البعض يعوّل أن يخرج ماكرون ليضع الأزمة في نصابها، وهذا يوحّد الجهود الساعية إلى معالجة توقف الانهيار.
وعلى الرغم من التشاؤم السائد، يجري الرهان على حصول تغييرات حكومية في المدى المنظور، تطاول رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية وبعض قيادات أجهزة الشرطة، واستحداث أجهزة تتولى أداء دور وسيط بين الدولة والضواحي، من أجل معالجة آثار التوتر وردم الهوة، وبناء جسور لإعادة الثقة، والعمل معاً لتجاوز الآثار الكارثية للأحداث، والتأسيس لمستقبل مختلف.
يجري الرهان على حصول تغييرات حكومية في المدى المنظور، تطاول رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية وبعض قيادات أجهزة الشرطة
وفي كافة الأحوال، فإن مسؤولية الدولة لا تحل محل دور العائلة في التربية، خصوصاً أن الأحداث كشفت عن خلل كبير على هذا الصعيد، من خلال مشاركة الأطفال والمراهقين في عمليات التخريب والنهب. وحينما لفتت السلطات انتباه الأهل وهددت باتخاذ إجراءات عقابية ضدهم، تراجعت على الفور مشاركة هؤلاء. تركت الأحداث آثاراً عميقة على المديين القصير والطويل، لن تندمل جراحها بسهولة، ومنها على المدى القصير معالجة الآثار المباشرة لعمليات التكسير والحرق والنهب، وهذه فاتورة ضخمة جداً سوف تصل إلى أكثر من 300 مليون يورو حسب تقديرات أولية.
وتسود خشية من أن الدولة لن تجد أمامها سوى الحلول الجاهزة، وهي زيادة الضرائب على المواطنين، من أجل تسديد الكلفة التي لا تستطيع الدولة تحملها وحدها. الأمر الأكثر خطورة هو الآثار المترتبة على السلم الأهلي، من جراء حصول شرخ عميق بين فرنسا والقطاع الأكبر من الفرنسيين والجاليات العربية والأفريقية. وما لم تنهض الدولة بدور كبير، من الصعب أن تختفي من الأذهان صور التكسير وإشعال الحرائق في الممتلكات ونهب المتاجر من قبل شبان من أصول عربية وأفريقية.
الرابح الوحيد من الأحداث هو اليمين المتطرف الذي صعد في الأعوام الأخيرة بسبب الهجرة، ومن المؤكد أن دائرة المتعاطفين معه والذين يصوّتون له سوف تتسع، وسيظهر ذلك في الانتخابات المقبلة، خصوصاً أن معالجة الملفات الأساسية لإيجاد حلول مستدامة تحتاج إلى وقت طويل.
ويرى مراقبون أن اليمين المتطرف سوف يشكّل عامل ضغط على الدولة لمنعها من إيجاد حلول مستدامة بعيداً عن استخدام القوة، بما في ذلك سحب الجنسية والترحيل ووقف المساعدات الاجتماعية. وهناك ضرر لا يقل من حيث الأهمية، وهو اهتزاز صورة فرنسا خارجياً، وهذا واضح من خلال ردود الفعل، وأهمها موقف الأمم المتحدة التي دعت باريس إلى معالجة تنامي ظاهرة العنصرية داخل جهاز الشرطة. وصار هذا البيان مادة لوسائل الإعلام الدولية التي ألقت المسؤولية في ما حدث على الشرطة، وعزت العنف من قبل المشاركين في الاضطرابات إلى التهميش والتمييز اللذين تعاني منهما الضواحي.
ستكون أبرزَ المتأثرين الألعابُ الأولمبية المقررة في باريس بعد عام، وهي حدث كبير، تراهن عليه السلطات الفرنسية أن يلعب دوراً مهماً في تنشيط القطاع السياحي، بعد خمسة أعوام من التراجع بسبب تظاهرات السترات الصفراء التي بدأت عام 2018، واستمرت حتى استشراء كوفيد 2019.
ويرى خبراء اقتصاديون أن قطاع السياحة سيتضرر، بسبب مخاوف السياح من التوجه إلى فرنسا. الأحداث توقفت وتمت محاصرة الحريق، لكن الجمر تحت الرماد. بانتظار حلول وسياسات تتجاوز نتائج التحقيق في مقتل الفتى نائل، ضمن معادلة تعيد للدولة هيبتها ومكانتها، ومواجهة المشاكل المزمنة في الضواحي بأسلحة غير العنف.