مع اقتراب انقلاب قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان من إكمال عامه الأول، يزداد الغموض في المشهد السياسي، خصوصاً مع تحركات دولية لدفع تسوية لا تبدو معالمها واضحة حتى الآن. وطبقاً لتسريبات متداولة، فإن اللجنة الرباعية، المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، وعبر سفرائها في الخرطوم، سرّعت الخُطى لإنجاز تسوية سياسية بين العسكر والمدنيين.
ووفق التسريبات، اجتمع السفراء، قبل يومين، بالمكون العسكري، ونجحوا إلى حد بعيد في تحقيق اختراق كبير، بقبول العسكر بمسودة الدستور الانتقالي المقترحة من قبل اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، والتي حظيت بترحيب داخلي وإقليمي ودولي.
وكانت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، وهي جسم نقابي صدر قرار بحله بواسطة انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكنها لا تعترف بذلك القرار، قد أعدت مشروع دستور انتقالي من 12 باباً و76 مادة ليحكم الفترة الانتقالية.
الحديث لا زال مبكراً جداً حول تسمية أعضاء مجلس السيادة ورئيس الوزراء
وينص على إلغاء كل القرارات التي أصدرها الانقلاب العسكري، بما يشمل الاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها، وعلى تشكيل هياكل السلطة الانتقالية بواسطة المدنيين وبعيداً عن أي شراكة مع العسكر. وشدد على إصلاح المؤسسة العسكرية وحل المليشيات وصولاً إلى جيش وطني مهني موحد لحماية البلاد والدستور.
موافقة العسكر على غالبية المسودة الدستورية
تلك التسريبات أكدتها ثلاثة مصادر تحدثت إليها "العربي الجديد"، وجميعها أوضحت أن نشاط اللجنة الرباعية أفضى إلى موافقة العسكر على الكثير مما جاء في المسودة الدستورية، بما يتضمن إلغاء الشراكة بين العسكر والمدنيين، وتكوين مجلس سيادة مدني وحكومة تنفيذية مدنية، مع تشكيل مجلس للأمن والدفاع بصلاحيات محدودة يحددها قانون لاحق يتم الاتفاق عليه.
وتلك الصلاحيات، بحسب المصادر، هي آخر ما يناور به المكون العسكري بغرض توسيعها في المباحثات في الأيام المقبلة، فيما تتمسك الأطراف الأخرى بخلاف ذلك، وتصر أيضاً على أن يرأس مجلس الأمن والدفاع، رئيس الوزراء المدني الذي تتوافق عليه قوى الثورة.
وبحسب المصادر، فإن الاجتماع الأخير بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) بحضور اللجنة الرباعية، ساهم إلى حد بعيد في الضغط على البرهان للقبول بالمقترح الدستوري، وذلك بعد أن اقتنع حميدتي مبكراً بفشل الانقلاب العسكري، وعدم جدوى الاستمرار فيه. كما أن حميدتي انتابته مخاوف كبيرة في الفترة السابقة من عودة عناصر نظام الرئيس المعزول عمر البشير إلى السلطة عبر بوابة الانقلاب العسكري بتواطؤ مع البرهان.
وكان حميدتي قد أصدر، أمس الأول الجمعة، بياناً عقب اجتماعه مع البرهان، جدد فيه التزامه بتعهداته السابقة بخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي، والانصراف تماماً إلى مهامها المنصوص عليها في الدستور والقانون، وترك أمر الحكم للمدنيين.
وأوضح حميدتي أن الاجتماع أقر بشكل قاطع بأن يتولى المدنيون اختيار رئيسي مجلس سيادة ووزراء مدنييْن، قبل أن يعبّر عن تطلعه لتوافق قوى الثورة على تشكيل حكومة مدنية بالكامل لاستكمال مهام الفترة الانتقالية، بما يؤسس لتحول ديمقراطي حقيقي.
كما سبق لحميدتي إصدار بيان، أعلن فيه ترحيبه بمشروع الدستور الانتقالي الذي اقترحته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين. وليست هناك تأكيدات قاطعة حول دخول أطراف العملية السياسية من العسكر والمدنيين في تحديد الأسماء المرشحة لتسلم المواقع في مجلس السيادة، أو أسماء المرشحين لرئاسة مجلس الوزراء.
وجرى تداول واسع النطاق في الساعات الماضية، لأسماء مثل الفريق أول جمال عدوي الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش، واللواء فضل الله برمة ناصر رئيس حزب الأمة القومي، والشفيع خضر القيادي السابق في الحزب الشيوعي، كمرشحين لرئاسة المجلس السيادي.
ومن بعيد برز اسم نصر الدين عبد الباري وزير العدل في حكومة عبدالله حمدوك المقالة، كمرشح مع آخرين لمنصب رئيس الوزراء. لكن المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد" قالت إن الحديث لا زال مبكراً جداً حول تسمية أعضاء مجلس السيادة ورئيس الوزراء، وأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بعد القبول النهائي من جانب العسكر بمسودة الدستور الانتقالي.
تردد من قبل العسكر في القبول بالصفقة
ولكن على الرغم من كل التأكيدات، فإن مؤشرات أخرى تبيّن تردداً من جانب العسكر بقبول الصفقة التي تتماشى مع التزاماتهم بالخروج من المشهد السياسي. من بين تلك المؤشرات المقال الذي كتبه قبل أيام رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة العقيد إبراهيم الحوري عن ساعة صفر جديدة للجيش، تُكمل ما بدأ في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تاريخ وقوع الانقلاب العسكري.
ومن المؤشرات أيضاً، تصريحات مستشار البرهان العميد الطاهر أبو هاجة، أمس السبت، التي نقلتها وكالة السودان للأنباء، وقال فيها إن السودان، شعبه وأرضه، أمنه وفترته الانتقالية، أمانة في عنق البرهان، وأن "تلك الأمانة لن تُسلّم إلا لمن يختاره الشعب السوداني، ولا مجال لحكم الفترة الانتقالية بوضع اليد، والفهلوة السياسية"، على حد تعبيره.
وأضاف أبو هاجة أن المؤسسة العسكرية ملتزمة بالخروج من العمل السياسي وملتزمة أيضاً بأن تكون حكومة ما تبقى من المرحلة الانتقالية حكومة كفاءات وطنية مستقلة غير حزبية ولا تخضع لأي محاصصات، وبأن يكون ذلك بالتوافق بين جميع القوى السياسية "فنحن لن نسلم السلطة إلا لحكومة متوافق عليها من كل السودانيين أو حكومة منتخبة".
كما برز تحذير رئيس حركة العدل والمساواة، وزير المالية الحالي، جبريل إبراهيم، اللجنة الرباعية من الإقدام على "إعادة السيطرة لتحالف الحرية والتغيير". واقترح إبراهيم، خلال مؤتمر صحافي أمس السبت، إبقاء الشراكة بين العسكر والمدنيين بشكلها الراهن في مجلس السيادة، من دون تكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة ينتزع الصلاحيات الأمنية والدفاعية والعلاقات الخارجية وغيرها، منتقداً المطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات.
كذلك حذر من مغبّة المساس باتفاق السلام الموقّع بين الحكومة والحركات المسلحة عام 2020 والذي شاركت بموجبه هذه الحركات في الحكم. وشنّ هجوماً على رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتيس واتهمه بعدم الحياد، وطالبه بمغادرة البلاد.
وتعليقاً على هذه التطورات، قال المتحدث الرسمي باسم تحالف قوى الحرية والتغيير شهاب إبراهيم، لـ"العربي الجديد"، إنهم يتابعون مثل غيرهم الاجتماعات بين اللجنة الرباعية مع البرهان وحده ثم مع حميدتي وحده ثم معهما، متوقعاً أن يتسلم التحالف دعوة من الرباعية بعد أيام، وحينها سيقيّم التحالف التطورات ويتخذ قراره حول أي مقترحات. وأبدى إبراهيم قلقه من الخلافات الظاهرة داخل المكون العسكري، والتي يمكن أن تقود إلى إلغاء التنازلات الأخيرة المقدمة للرباعية.
مخاوف من 3 مطبات أمام التسوية السياسية
ويتخوف مراقبون من ثلاثة مطبات قد تواجه التسوية السياسية إذا اكتملت، الأول هو لجان المقاومة السودانية ومن خلفها الشارع الثوري الرافض لأي تسوية مع العسكر، والثاني هو ردة فعل عناصر نظام البشير الذي استعاد عافيته بعد انقلاب 25 أكتوبر الماضي، ومن غير المستبعد أن يغامروا بتنفيذ تحرك مباغت قد يكون عسكرياً لخلق بلبلة بأشكال مختلفة. أما المطب الثالث فهو الحركات المسلحة التي شاركت انقلاب السلطة أخيراً.
تماسك قوى الحرية والتغيير
لكن المحلل السياسي طاهر المعتصم توقع، في حديث مع "العربي الجديد"، أن تمضي التسوية السياسية بين العسكر والمدنيين إلى نهايتها، بسبب وجود ضغط دولي قوي عبر اللجنة الرباعية، التي وصلت حتى الآن إلى نقاط جيدة تنهي انقلاب 25 أكتوبر وتعيد مسار التحول الديمقراطي وتشكل سلطة مدنية.
وأوضح أن أكبر العقبات والتحديات تتمثل في الأجنحة المتعددة التي تحاول قطع الطريق أمام أي عملية سياسية تُنهي الانقلاب، وتوقف زحف النظام البائد على السلطة. وأشار إلى أن قوى الحرية والتغيير متماسكة لأنها وضعت استراتيجيتها قبل فترة لإنهاء الانقلاب عبر 3 طرق: العمل الجماهيري، والضغط الدولي، وعملية سياسية.
يتخوف مراقبون من ثلاثة مطبات قد تواجه التسوية السياسية إذا اكتملت
ولفت كذلك إلى أن جزءاً من الشارع ومن لجان المقاومة سيتفهم ما سيجري، لجهة إدراكهم لحجم التعقيدات الاقتصادية، وسيناريوهات تفكيك الدولة في حال استمر الوضع الحالي، معتبراً أن الحركات المسلحة جزء من العملية السياسية المرتقبة، باستثناء أحزاب نبتت أخيراً وستفقد بعض المزايا من موالاتها للانقلاب.
من جهته، أوضح محمد زكريا، القيادي في قوى الحرية والتغيير-التوافق الوطني، المنشق من قوى الحرية والتغيير، أن تحالفهم لم يستلم حتى الآن أي دعوة من اللجنة الرباعية للقاء والتداول حول الانتقال في السودان.
وقال: "نحن من حيث المبدأ نقر بأهمية قيام حوار وطني سوداني-سوداني برعاية دولية وإقليمية، تشارك فيه جميع الأطراف، باستثناء حزب المؤتمر الوطني".
وأضاف زكريا، لـ"العربي الجديد"، أن لـ"الحرية والتغيير-التوافق الوطني، رؤية متكاملة ومنشورة حول العلاقة المتوازنة بين العسكر والمدنيين خلال الفترة الانتقالية تحدد صلاحيات كل طرف"، مبدياً تفاؤله بنجاح أي حوار بين السودانيين، لأن كل الأطراف الحالية تعي مخاطر الفترة الانتقالية وحريصة على مواجهة التحديات والصعوبات التي يغلب عليها الشكلية والإجرائية بعيداً عن الجذرية، ومن ثم الوصول إلى وفاق دستوري يستكمل هياكل السلطة الانتقالية ويحدد مهام الفترة الانتقالية ويهيئ البلاد لانتخابات حرة وشفافة.