- إسرائيل، التي فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية ضد حماس، تسعى لحماية حقول الغاز في بحر غزة، مما يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء إنشاء الميناء العائم كوسيلة لتوصيل المساعدات.
- الصراع على موارد الغاز في المنطقة يعكس الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للمنطقة، مما يضع الفلسطينيين في مواجهة مع مشروعات قد تؤدي إلى تهجيرهم، فتحًا لفصل جديد في النكبة المستمرة.
بعد دخول الحرب على غزّة شهرها السادس، أعلنت الولايات المتّحدة في بداية آذار- مارس 2024 مشروع بناء ميناءٍ عائمٍ مؤقتٍ قبالة ساحل غزّة، لإيصال المساعدات إلى سكان القطاع المتضررين جوعًا، بسبب الحرب والحصار الإسرائيلي، بديلاً لمعبر رفح البري المغلق منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هذا المقترح الأميركي ليس بدواعٍ إنسانيةٍ كما يدّعون، ومن ورائهم الأوربيون، بل يسعون من خلاله لتحقيق كثيرٍ من المصالح الاقتصادية، منها حماية الممر الاقتصادي الذي يربط أوروبا بالشرق الأوسط، والسيطرة على غاز شواطئ غزّة، الذي يقف خلف الحرب الدائرة على القطاع الآن.
رغم فشل دولة الاحتلال في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب، وهي القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، إلى جانب الخسائر العسكرية الباهظة، التي منيت بها حتّى الآن، يظلّ لدى إسرائيل هدف استراتيجي لن تتنازل عنه، يتمثّل بحماية حقول الغاز في بحر غزّة، حقلي تمارا ومارين، الذين لن تقبل بتوقف العمل فيهما، إذ تحاول إسرائيل، مع القوى الغربية، الحفاظ على هذا الهدف الاستراتيجي، من خلال اقتراحٍ أمريكيٍ صهيونيٍ ينص على إنشاء ميناءٍ عائمٍ لإيصال المساعدات الإنسانية. فهل يكون الميناء حصان طروادة؟
من سيربح حرب الغاز؟
لم يكن هدف الدولة العبرية إعادة احتلال قطاع غزّة بعد 7 أكتوبر فقط، بل طُرحت الفكرة منذ عام 2012، خصوصاً بعدما اكتشف الاحتلال حقول الغاز الطبيعي على ساحل فلسطين التاريخي، وتحديدًا قبالة ساحل غزّة، إذ سيطرت إسرائيل على 5 حقول غازٍ في البحر المتوسط، هي حقل لفيتان وهو الأكبر، وحقل تمار، وحقول ديليت، وكريش، وتميم. لكن لم تكتف تل أبيب بذلك، بل أرادت السيطرة على حقلي مارين، مارين 2، اللذين اكتشفا قبالة ساحل قطاع غزّة، حيث يبلغ حجم الغاز الطبيعي في الأول حوالي 32 مليار متر مكعب، ومن شأن هذه الكمية سد احتياجات الفلسطينيين في كلٍّ من الضفّة الغربية، وقطاع غزّة لمدّة 25 عامًا، في حال تشغيله، كذلك يبلغ صافي أرباح السلطة الفلسطينية، من إنتاج الغاز وتصديره، محليًا ودوليًا، نحو 150 مليون دولارٍ سنويًا، بحسب تقديراتٍ رسمية.
هناك من يرى أن المشكلة تكمن في مستقبل إسرائيل، خصوصاً في قطاع الغاز وصادراته، الأمر الذي يشكل تهديدًا لإسرائيل، والولايات المتّحدة
في حزيران 2023، صدر بيانٌ إعلاميٌ عن مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي مفاده أنّ بنيامين نتنياهو وافق على تطوير حقل الغاز الطبيعي البحري قبالة ساحل غزّة. وفي إعلانه لمشروع "غزة مارين"، قال مكتب نتنياهو إن التقدم سيتوقف على "الحفاظ على احتياجات دولة إسرائيل الأمنية والدبلوماسية". وفقًا لتقارير إعلاميةٍ إسرائيليةٍ، جاءت تلك الخطوة بعد مفاوضاتٍ مكثفةٍ بين حكومة تل أبيب ومصر والسلطة الفلسطينية، بهدف تطوير الاقتصاد الفلسطيني، والحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة.
شكل طوفان الأقصى مخاطر أمنيةٍ عاليةً على حقول الطاقة، لذا توقف العمل في حقل تمارا القريب جدًا من مارين 2، الذي سيطرت على إنتاجه وصادراته سلطة العدو، الأمر الذي زاد من خسائر القطاع الطاقي في إسرائيل، بل في القطاع الاقتصادي كلّه، إذ انخفض إنتاج الغاز في الأسبوع الأول إلى نسبة 35%، ثم تهاوت الصادرات بعد خمس أسابيع من طوفان الأقصى إلى 70%. لكن رغم تلك الخسارة، استأنفت شركة شيفرون الأميركية، المنقب الأساسي لدى سلطة الاحتلال، تزويد الإسرائيليين بالغاز الطبيعي من حقل تمارا. وفي خطوةٍ غريبةٍ ومثيرةٍ للشكوك، أعلنت تل أبيب منح 12 رخصةٍ لستّ شركات تنقيبٍ عن الغاز الطبيعي في شمال حقل ليفياثان وغربه، بهدف خلق مزيدٍ من المنافسة. تزامن ذلك مع سيطرة قوات الاحتلال على منطقة ميناء غزّة، الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
يحتوي حقل تمارا على 10 تريليونات قدمٍ مكعبٍ من الغاز، وهو ثاني أكبر حقول الإنتاج في دولة الاحتلال، تديره شركة شيفرون الأميركية بالشراكة مع مبادلة للطاقة الإماراتية، يعد مصدرًا رئيسيًا لإمدادات السوق المحلية، والصادرات إلى الدول المجاورة، كذلك يُعَدّ نقطة عبورٍ للغاز من أكبر حقول العدو، أي من حقل ليفياثان (الذي تديره شركة شيفرون أيضًا)، والذي تبلغ طاقته 22 تريليون قدمٍ مكعبٍ، ليتدفق إلى مصر باعتبارها محطةً لتصدير الغاز المسال إلى السوق الأوروبية.
الممر البحري حصان طروادة
اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن حربه على غزّة حربٌ "وجوديةٌ"، تماهى معه المجتمع الإسرائيلي، وأبدى استعداده لدفع ضريبة الحرب، وعليه سيكون على الحكومة الحالية والقادمة إعادة ترتيب الأوراق، بما فيها سياستها الاقتصادية، خصوصاً في قطاع الغاز، وتحديدًا في حقول الغاز الفلسطينية التي تسطو عليها. رغم تدني الإنتاج في حقل تمارا تدنيًا غير مسبوقٍ، إلّا أنّ وقف الحرب سيضر بعراب استثمار إسرائيل، نتنياهو، في حقول الغاز الفلسطينية، مع أن حقلي مارين ومارين 2 في غزّة صغيرين نسبيًا، لاعتباراتٍ اقتصاديةٍ، ولتعزيز مكانتها الجيوسياسية بمساندة الولايات المتّحدة، إذ أرادت إسرائيل أن تصبح محورًا رئيسيًا لصناعة الغاز في شرق المتوسط، وشريكًا رئيسيًا في قطاع الطاقة العربي، لذلك أبرمت اتّفاقيات سلام مع المنطقة العربية، بجانب صفقاتٍ مع شركاتٍ في الأردن ومصر، تساهم في تدفق الغاز عبر أنابيب جديدةٍ؛ عكس مسار خط الأنابيب الحالي، من أجل السماح بتدفّق الغاز من إسرائيل إلى مصر، التي أصبحت مركزاً إقليمياً لتسييل الغاز الطبيعي وتصديره.
هناك من يعتبر أن حقول الغاز ليست دافعًا من دوافع الحرب، والاستيلاء على غزّة وشمالها، خصوصاً أن المقاومة الفلسطينية هي من بادرت وباغتت الاحتلال، كذلك فإن حقلي مارين صغيران نسبيًا مقارنةً بالحقول المكتشفة الأخرى، لكن هناك من يرى أن المشكلة تكمن في مستقبل إسرائيل، خصوصاً في قطاع الغاز وصادراته، الأمر الذي يشكل تهديدًا لإسرائيل، والولايات المتّحدة. بما أنّ فترة قيادة نتنياهو لإسرائيل ستنتهي بعد أن تضع الحرب أوزارها، كذلك سينصبّ اهتمام الحكومة الجديدة بعد الحرب على الإخفاقات الأمنية التي مُنيت بها، لذا سيكون ملف الغاز طيّ النسيان، ما يؤدي إلى تراجعٍ كبيرٍ في تلك الصناعة، ما يهدد صناعة الغاز في المنطقة، ويمثل مخاطر استراتيجيةٍ تهدد سيطرة الولايات المتّحدة على شرق البحر المتوسط.
مع استمرار الحرب على غزّة، ومحاولات نتنياهو لإبرام عقودٍ للتنقيب على الغاز في حقول غزة، وسعيه لفرض أمرٍ واقعٍ على الفلسطينيين في غزة، وضمان بقائه في الحكم، عبر السيطرة على مدينة غزّة وشمالها، وجعلها منطقةً عازلةً بدعوى ضمان أمن مستوطنات الغلاف، الأمر الذي يعرقل سير مفاوضات وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، ومع الخلافات بين القيادة الأميركية وإسرائيل، الظاهرة على السطح، مع ذلك كلّه حسمت واشنطن خيارها بشأن إبقاء سيطرة الاحتلال على غزّة وشمالها، لضمان السيطرة على الميناء وحقلي مارين، وذلك من أجل مستقبل صناعة الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، والسيطرة على المنطقة وصادراتها، ومن ثمة السيطرة على الأسواق الأوروبية. لذا، كان مشروع الميناء العائم بدعوى إنسانية في غزّة بمثابة حصان طروادة لواشنطن، من أجل تفادي احتمال انسحاب الجيش الإسرائيلي، في حال تفاقُم أوضاع الحرب، وضرب نتنياهو رفح، ما يشكل جريمة إبادةٍ يمكن أن تقلب المعادلة كلّيًا.
لدى إسرائيل هدف استراتيجي لن تتنازل عنه، يتمثّل بحماية حقول الغاز في بحر غزّة، حقلي تمارا ومارين
ليس الأمر قاصرًا على تأمين حقلي الغاز في غزّة، خاصّةً أن الولايات المتّحدة تعتبر من الخمسة الكبار في إنتاج الغاز عالميًا، لكنها قلّصت صادراتها منه منذ الشهر الأول للحرب، بل يمتد إلى السيطرة على طرق التجارة الدولية، خصوصاً الممرات البحرية، كذلك أعلنت في قمة مجموعة الـ 20 في الهند، في سبتمبر/أيلول الماضي مشروعاً لإنشاء ممرٍ اقتصاديٍ جديدٍ يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، عبر منطقة البحر المتوسط، وذلك في إطار صراعها مع الصين.
ومما لا شك فيه أنّ ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعده، وأيًّا كانت نتائج الحرب على غزّة، جاء مشروع الميناء البحري الأميركي لتفادي الخسائر الهائلة، فهو مشروعٌ استعماريٌ بقناعٍ إنسانيٍ، سينتهي بقاعدةٍ أميركيةٍ عسكريةٍ، على الساحل الفلسطيني بقوّة تبدأ بـ 3000 جنديٍ أميركيٍ، إضافةً إلى آلاف الجنود الأوروبيين، فضلاً عن جنود الاحتلال الإسرائيلي، ثم تتحول إلى قواتٍ دائمةٍ في مدينة غزّة ومينائها، هذا يستهدف استخراج الغاز، وبناء قناة بن غوريون، كهدفٍ أولٍ وممرٍ تجاريٍ بحريٍ. ذلك يعني أن لا عودة للنازحين من جنوب غزّة إلى أرضهم، ما يعني أننا أمام تهجيرٍ للفلسطينيين جزئيٍ أو كلّيٍ، ومن ثمّ تهجّر دولة الاحتلال قسرًا أو طوعًا الفلسطينيين من الضفّة الغربية. وسنبدأ فصلًا جديدًا من فصول النكبة المستمرة، ما لم يتحرك الفلسطينيون باتجاه وأد كلّ المشروعات الأميركية الصهيونية...