فرنسا تعلن حرباً إعلامية مفتوحة ضد الولايات المتحدة وبريطانيا، تقودها شخصيات رسمية في الخارجية والاقتصاد والدفاع. ولأول مرة في تاريخ العلاقات مع الولايات المتحدة، نشهد ردود فعل ذات منسوب عالٍ من التوتر، ونبرة نقدية صريحة وعالية على ألسنة مسؤولين فرنسيين، تدعو إلى طي صفحة الخصوصية مع واشنطن. ووصل الغضب الفرنسي حد رفض وزير الخارجية جان ـ إيف لودريان الاجتماع، يوم الأربعاء الماضي، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بنظيريه الأميركي والبريطاني، أنتوني بلينكن وليزا تروس. ولم يحصل اللقاء بين الوزيرين الفرنسي والأميركي إلا بعد مكالمة الرئيس الأميركي جو بايدن مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليقول له، حسب بيان وزارة الخارجية الفرنسية، إن العودة بالعلاقات الثنائية ستتطلب "وقتاً وأفعالاً" للخروج من الأزمة بين الدولتين واستعادة الثقة بينهما، رغم أن بايدن اعترف بـ"مسؤولية الولايات المتحدة عن الأزمة"، حسب الرواية الفرنسية.
باريس: على الاتحاد الأوروبي أن يبني استقلاله الاستراتيجي
وما لم يقله لودريان صرح به، أول من أمس الخميس، وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، الذي فتح النار على واشنطن بلا تحفظ، داعياً الأوروبيين إلى "فتح أعينهم". وقال: "الدرس الأول الذي نتعلمه من هذه الحلقة هو أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يبني استقلاله الاستراتيجي. الحلقة الأفغانية وحلقة الغواصات، تظهران أنه لم يعد بإمكاننا الاعتماد على الولايات المتحدة لضمان حمايتنا الاستراتيجية". واعتبر "لدى الولايات المتحدة اهتمام استراتيجي واحد فقط، الصين، واحتواء صعود قوتها". وأشار إلى أن الرئيسين السابق دونالد ترمب والحالي جو بايدن "يعتقدان أن حلفاءهما يجب أن يكونوا طيّعين. نحن نعتقد أننا يجب أن نكون مستقلين. لم يعد بإمكاننا الاعتماد إلا على أنفسنا". وفي حديث إلى صحيفة "لوموند"، أول من أمس الخميس، نددت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي بـ"السلوك الفظ" للولايات المتحدة، وقالت: هذا لم يفاجئنا، ودرجت عليه واشنطن منذ زمن طويل. وتحدثت عن محطات مهمة، منها تراجع الولايات المتحدة عن معاقبة رئيس النظام السوري بشار الأسد بعد مجزرة الغوطة في أغسطس/ آب 2013، وأفغانستان، والتركيز على الصين. ورأت الوزيرة أن أوروبا مدعوة اليوم لتجاوز حدود الاتحاد الحالية، معتبرة أن أوروبا تتمتع بفرصة فريدة لتأكيد نفسها كقوة استراتيجية، ونحن "لدينا الخيار، فإما أن تواجه أوروبا ذلك، أو تختفي".
ومن الواضح حتى الآن، وحسب قراءات خبراء متخصصين في شؤون تجارة الأسلحة، أن الغواصات الأميركية الثماني لن تنزل إلى المياه الأسترالية قبل عام 2040، في حين أنه كان من المقرر أن تدخل أول غواصة فرنسية "سوفرين" في الخدمة الفعلية في أستراليا في غضون بضعة أشهر، على أن تتبعها أربع أخرى. ورغم أن باريس تعيش شعوراً بالمرارة بسبب الطريقة التي جرى من خلالها ترتيب الصفقة بين واشنطن وكانبيرا، إلا أن هناك جواً من الطمأنينة وعدم الذعر من التحالف الثلاثي (الولايات المتحدة، أستراليا، بريطانيا)، والصفقة الأميركية الأسترالية، ومصدر ذلك أولاً هو عدم الخوف على مستقبل الصناعات العسكرية الفرنسية التي تأتي في المرتبة الثالثة عالمياً، بعد الولايات المتحدة وروسيا، وتحوز على نسبة 8 في المائة من السوق العالمي. وذكر تقرير معهد "استوكهولم" للسلاح للعام الماضي، أن فرنسا سجلت أعلى مستوى تصدير لها منذ عام 1990 على خلفية صفقات شكلت نسبة 26 في المائة من الصادرات. وكشف التقرير أن سوق الأسلحة الفرنسية ارتفع 72 في المائة خلال السنوات الخمس الأخيرة مقارنة بالفترة بين عامي 2010 و2014. وأضاف أن تسليم طائرات "رافال" القتالية شكّل حوالي ربع إجمالي صادرات الأسلحة الفرنسية.
والأمر الثاني هو أن فسخ العقد من طرف كانبيرا تترتب عليه غرامات جزائية كبيرة، تتكفّل أستراليا من خلالها بجبر الضرر المادي الذي لحق بـ"مجموعة نافال"، التي لن تخسر المبلغ الإجمالي الذي تجاوز 90 مليار دولار، بسبب التضخم وارتفاع أسعار المواد الأولية منذ توقيع الصفقة عام 2016. ويأتي في الدرجة الثالثة أن فرنسا غير قلقة من مسألة تصريف الغواصات، وهناك أكثر من مشتر بديل، وفي حين يجري تداول اسم الهند بقوة في وسائل الإعلام، فهناك دول أخرى مهتمة بالأمر، ومنها أطراف في الشرق الأوسط، يغريها امتلاك هذا السلاح الاستراتيجي في ظل سباق التسلح الذي تعرفه المنطقة الآن. وتجد باريس نفسها اليوم متحررة من قوانين حظر بيع السلاح إلى بعض الدول، بعدما خرقت واشنطن ولندن ميثاق المجموعة الثلاثية (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا). وقوّض ترامب هذا التحالف الثلاثي، لكن باريس ولندن كافحتا خلال ولايته على الرغم من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لإبقاء واشنطن بجانبهما في معظم الملفات.
وتقوم المجموعة الثلاثية في مجلس الأمن بمناقشة كل الملفات قبل طرحها للبحث، ويعتبر دورها أساسياً لبناء جبهة موحدة لاحقاً في سياق المفاوضات بمواجهة روسيا والصين، قبل السعي لضم الدول العشر غير الدائمة العضوية إلى موقفها. ويرى عدد من الخبراء أن الأزمة تتعلق بالمفهوم التقليدي للتحالف المنبثق من الحرب الباردة، والذي لا يزال على حاله تقريباً، وهناك من يتوقع أن "تتفاقم هذه الخلافات مستقبلاً، في دليل على وجوب تخطي هذا المفهوم القديم للأمن الدولي". وحتى لو أتاح نقاش صريح بين ماكرون وبايدن تهدئة التوتر على المدى القريب، ليس من المستبعد أن تضر الأزمة الفرنسية - الأميركية بسير عمل مجلس الأمن الدولي والنهج الغربي بالأساس، حسب برتران بادي، خبير العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس، والذي يعتقد أن فرنسا ستتعرض لإغراءات من طرف بكين وموسكو لجرها إلى الصف الآخر، إلا أنه من المرجح أن تتوجه فرنسا الواقعة بين المعسكرين الأميركي - البريطاني من جهة والروسي - الصيني من جهة أخرى، إلى الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن بحثاً عن دعم في الملفات الحساسة. وبين هؤلاء الأعضاء حالياً الهند، التي تحاول فرنسا منذ وقت طويل تطوير شراكة استراتيجية معها.
إلى ذلك، تتكشف كل يوم تفاصيل جديدة بشأن صفقة الغواصات بين واشنطن وكانبيرا. ونشرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية تقريراً مطولاً، يكشف أن التحالف الثلاثي "أوكوس" وصفقة الغواصات تمت هندستهما خلال قمة الدول السبع، التي انعقدت في بريطانيا في يونيو/ حزيران الماضي، وأدى فيها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون دوراً أساسياً، من وراء ظهر ماكرون الذي حضر القمة. وهذا ما يفسر شعور باريس بالمرارة تجاه لندن التي وصفتها بـ"الانتهازية". وأضافت الصحيفة أن رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون زار العاصمة الفرنسية باريس بعد قمة السبع، ولم يفصح عن نية بلاده فسخ العقد. وفي نهاية الشهر الماضي التقى، عبر الفيديو، وزيرا الخارجية والدفاع الفرنسيان لودريان وبارلي مع نظيريهما الأستراليين، ماريز باين وبيتر داتون. وكان اللقاء تحت بند "تعزيز العلاقات بين البلدين"، وصدر عنه بيان مشترك، جاء فيه "التزم الجانبان بتعميق التعاون في صناعة الدفاع وتعزيز تفوقهما في المنطقة". وأضاف "شدّد الوزراء على أهمية برنامج الغواصات في المستقبل".
فرنسا الثالثة عالمياً في مبيعات الأسلحة في العام الماضي
وفي معلومات لصحيفة "غارديان" البريطانية، فإن رئيس الوزراء الأسترالي وقع تحت بعض الضغوط الداخلية من قبل لوبي ياباني كان متحمساً لتكليف اليابان بالصفقة، وعلى رأس هؤلاء وزير الدفاع الحالي نوبوو كيشي، الذي ربطته علاقات متينة مع رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي، فيما تمثّل عنصر الضغط الثاني بتأخر باريس في الوفاء بالجدول الزمني للصفقة، والذي ترافق مع ارتفاع في التكاليف بسبب التضخم. وأدى هذا الواقع إلى أن يضع موريسون "خطة ب"، لا تضع اليابان في الحساب، وتبحث عن شريك آخر. وكانت قمة السبع الفرصة التي جرى فيها التفاهم بين الثلاثي الأميركي الأسترالي البريطاني، وبعد أيام قليلة التقى موريسون بالرئيس الفرنسي في باريس. وكانت المخاوف بشأن صفقة الغواصات موضوعاً رئيسياً في المباحثات. وفي حديثه للصحافيين بعد ذلك بوقت قصير، لم يستبعد موريسون التخلي عن المشروع، رغم أنه تم الوصول إلى المرحلة التعاقدية الأخيرة، لكنه ترك الانطباع بأنه تم حل النقاط الشائكة. وقال موريسون إنه يقدر أن الرئيس الفرنسي "يقوم بدور نشط للغاية" في حل المشكلات المتعلقة بالعقد، وأضاف: "أنا والرئيس ماكرون لدينا علاقة منفتحة للغاية وشفافة للغاية وودية للغاية، ويمكننا التحدث بصراحة بعضنا مع بعض حول هذه القضايا". وأصرّ موريسون على أنه كان "واضحاً للغاية" خلال تلك المحادثات مع ماكرون بشأن وجود "مشكلات حقيقية للغاية" حول ما إذا كانت الغواصات التقليدية مناسبة للبيئة الاستراتيجية المتغيرة في المحيطين الهندي والهادئ. وكان رد ماكرون أن الغواصات الفرنسية الصنع "ستعزز موقف أستراليا وتساهم في سيادة أستراليا واستقلالها الاستراتيجي".
إحدى نتائج ذلك الاجتماع أن تقوم فرنسا بمحاولة طمأنة أستراليا بأن المشروع لن يتأخر، وكانت سترسل إلى كانبيرا رسالة تؤكد التزامها بالجداول الزمنية. وحسب مصدر بالحكومة الأسترالية، فإن الرسالة وصلت لكنها تأخرت، "إذا لم يتمكنوا من تسليم رسالة في الوقت المناسب، فكيف يمكنهم إرسال 12 غواصة في الوقت المحدد؟". ووفق مصادر مطلعة، فإن الحكومة الأسترالية كانت تتبع الخيارين بالتوازي، ولم تمنعها من ذلك الموافقة النهائية على اتفاقية "أوكوس"، وبقيت تريد الحصول على أفضل صفقة ممكنة مع فرنسا في حال سقوط الخيار الأميركي الذي كسب الجولة في نهاية المطاف.