حرب روسيا على أوكرانيا أبعدت موسكو عن منطقة الشرق الأوسط. وبدلاً من أن تنهض بدور الدولة العظمى في الحرب الإسرائيلية على غزة، ها هي تتبنى خطاباً متأرجحاً. وأقصى ما فعلته بعد أكثر من شهر على الحدث، هو أنها مارست حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، ضد مشروع القرار الأميركي المنحاز إلى إسرائيل.
قبل الحرب على أوكرانيا كانت السياسة الروسية الخارجية حاضرة في كل الأزمات الدولية. وكان من بين أولويات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة دور روسيا، خصوصاً في العالم العربي. وخلفية ذلك هي الصلات التاريخية المركبة على جملة مصالح حيوية استراتيجية.
وشكلت تدخلات روسيا العسكرية في كل من سورية وليبيا والسودان في العقد الحالي، ترجمة لاستراتيجية تقوم على عدم ترك الولايات المتحدة وأوروبا تتفرّدان بهذه المنطقة. وأخذت تنافسهما على الموقع الاستراتيجي، وعينها على الثروات والموقع الاستراتيجي، تحديداً في سورية.
روسيا تمارس نوعاً من الحياد فيما يخص الضربات الإسرائيلية على الإيرانيين في سورية
ولم تجد روسيا أمامها أبواباً مغلقة في العالم العربي، بل على العكس. هناك من رحب بها، وفتح لها الطريق واسعاً، من منظور المصالح المشتركة في النفط والغاز، أو على سبيل حفظ التوازن مع الولايات المتحدة، التي لم تغير من طرق تعاملها مع الحلفاء التقليديين، رغم التطورات الكبيرة.
تراجع حضور روسيا دولياً
منذ ما قبل اندلاع الحرب على غزة، كانت هناك مؤشرات واضحة على تراجع حضور روسيا دولياً. أمر عزاه مراقبون إلى انشغالها بالحرب على أوكرانيا من جهة، ومن جهة أخرى عمل الولايات المتحدة الدؤوب على محاصرتها وإضعافها من أجل ليّ ذراعها في أوكرانيا، والحد من نفوذها الدولي في الملفات الأساسية، بعد أن بدأت تتقارب سريعاً مع الصين من أجل الوقوف بوجه الأحادية القطبية.
ويعد موقف روسيا من إسرائيل على درجة عالية من الحساسية والتعقيد، لكنه لم يتأثر بعلاقات موسكو مع دول المنطقة الأخرى، خصوصاً إيران. ورغم أن روسيا وإيران على درجة عالية من التعاون، فإن موسكو تمارس نوعاً من الحياد، فيما يخص الضربات العسكرية الإسرائيلية المتتالية للوجود العسكري الإيراني في سورية.
حصل أن تعرضت قواعد الاشتباك بين موسكو وتل أبيب في سورية للاهتزاز في أكثر من مرة، وكاد الطرفان يتجهان للصدام، غير أنهما وجدا إمكانية لامتصاص الصدمات وطي صفحة الخلافات، وتعزيز التعاون الأمني، على نحو يراعي جملة من الخطوط الحمراء، وهي عدم التعرض للقوات الروسية، أو مهاجمة أهداف تعود إلى النظام السوري. ومع أن تل أبيب لا تحترم ذلك حرفياً، كما هو الحال في القصف المتكرر لمطاري حلب ودمشق، فإن موسكو لم تغير من قواعد الاشتباك.
ومن أجل ترسيخ التفاهمات حول الوضع في سورية، زار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو موسكو عدة مرات في عام 2020، ومن بعد ذلك لم يحصل احتكاك بين الطرفين، وصارت القاعدة الثابتة هي أن تتصرف تل أبيب وفق تقديراتها، وبما يناسب مصالحها وأمنها.
المواقف الروسية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي ليس بينها ما يرقى إلى مستوى الحدث، أو يتفاعل معه. بل إن أغلبها تكرار لمواقف قديمة بلهجة خافتة أو تبريرية.
عدا أن موسكو، باستثناء مشروع القرار الذي قدمته إلى مجلس الأمن، أو الدعوة إلى مؤتمر دولي، لم تطرح أي مبادرة ذات وزن، أو تتحرك دبلوماسياً باتجاه المنطقة، في حين أن جولات وزير خارجيتها سيرغي لافروف كانت متواترة إلى الدول العربية، من أجل قضايا تخص روسيا.
ومن اللافت أن زيارة وفد حركة حماس إلى موسكو في 27 أكتوبر الماضي، لم تخرج بنتائج ذات قيمة. وقد استبقته الخارجية الروسية بالإعلان عن مقتل ما لا يقل عن 20 مواطناً روسياً ـ إسرائيلياً مزدوجي الجنسية، واحتجاز اثنين رهائن خلال هجوم حركة حماس.
وخلال اللقاء بين نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مع الوفد، الذي ترأسه عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، طلبت موسكو من وفد الحركة ضرورة "الإفراج الفوري عن الرهائن الأجانب في قطاع غزة"، وتطرقت إلى "المسائل المرتبطة بإجلاء الرعايا الروس والأجانب الآخرين من القطاع الفلسطيني".
وفي إشارة لا تخلو من دلالة واضحة، أكد مصدر دبلوماسي روسي لوكالات الأنباء المحلية، أن اللقاء مع وفد "حماس"، تمحور حول الرهائن الذين احتجزتهم الحركة، في الوقت الذي أكد فيه المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن جدول زيارة وفد حماس إلى موسكو "لا يشمل أي اتصالات مع الكرملين".
وقال إن "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يثير التوتر في المنطقة بأكملها". ولخص موقف موسكو بأنها ترى أنه من الضروري مواصلة الاتصالات مع جميع أطراف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بمن فيهم إسرائيل، من دون أي إشارة تضامن مع غزة، أو انتقاد لإسرائيل.
لهجة موسكو اتسمت بالمهادنة، ولم تكن صارمة بل تبريرية في ما يخص الاحتجاج الرسمي الإسرائيلي على استقبال روسيا وفد "حماس"
ولاحظ أكثر من مراقب أن لهجة موسكو اتسمت بالمهادنة، ولم تكن صارمة بل تبريرية في ما يخص الاحتجاج الرسمي الإسرائيلي على استقبال روسيا وفد "حماس"، واكتفت بالقول إنها تتواصل مع طرفي النزاع، وتدعو "حماس" للإفراج عن الرهائن الأجانب. ويرى بعض الخبراء وراء الليونة في لهجة موسكو نزوعاً لتأدية دور الوسيط، في الوقت الذي لم تعلن فيه أي نتائج سياسية للزيارة.
وصدرت إشارات عن دبلوماسيين ومحللين روس بأن بوغدانوف قد يتوجه قريباً إلى إسرائيل حاملاً "بعض الأفكار"، التي تبلورت خلال المحادثات مع "حماس"، أو ربما اقتراحات محددة من جانب الحركة. ورغم أن دوراً روسياً فاعلاً في هذه الحرب مرفوض من الولايات المتحدة، فإن موسكو تحاول أن تستغل الظرف، تحديداً ورقة الرهائن، في محاولة لكسر جدار العزلة المضروب حولها من الغرب، ومع ذلك لم تتحرك.
وانعكس ضعف الموقف الروسي أكثر في الأمم المتحدة، من خلال مشروع القرار الروسي، الذي دعا إلى وقف إنساني لإطلاق النار، وتقديم مساعدات إلى غزة من دون عوائق. ويبدو أن موسكو لم تحضر له جيداً، بدليل أنه نال موافقة أربع دول فقط، واعترضت عليه الولايات المتحدة وبريطانيا، فيما امتنعت تسع دول عن التصويت.
وفي محاولة للتعويض عن التذبذب، بدت روسيا متشددة في اللهجة حيال مشروع القرار الأميركي إلى مجلس الأمن، واستخدمت "الفيتو" لإسقاطه، بدعوى أنه "بمثابة ترخيص من مجلس الأمن لمواصلة الهجوم الإسرائيلي". وبررت معارضة تمريره، في الغيرة على "مصداقية مجلس الأمن"، على حد تعبير مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا.
وبدت موسكو كأنها لا تريد أن تخوض في هذا الشأن، وتترك للحدث أن يأخذ مجراه، وتصرفت مثل أي دولة تقف على الحياد، فأيدت وقفاً فورياً لإطلاق النار، كما كررت مساندة حل الدولتين، من دون أن يترافق ذلك بأي تحرك دبلوماسي، على غرار ما فعلت بعض الدول الكبرى.
وذهب بوتين بعيداً في انسحاب روسيا من الانخراط المباشر في النزاع الراهن، حين قال إنه "لا يمكن مساعدة فلسطين، إلا من خلال قتال أولئك الذين يقفون وراء هذه المأساة"، ويقصد من ذلك حلفاء أوكرانيا. وأكد أن روسيا تقوم بذلك في أوكرانيا.
تحميل المسؤولية للأميركيين
وفي إطار تحديد المسؤولية، ألقى الرئيس الروسي باللوم في الأزمة الحالية، على إخفاق الدبلوماسية الأميركية. وقال بوتين: "النخب الحاكمة في الولايات المتحدة، ومن يدورون في فلكها، يقفون وراء قتل الفلسطينيين في غزة، وخلف الأحداث في أوكرانيا والعراق وسورية. وهدف هؤلاء استمرار الفوضى في الشرق الأوسط".
وأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيار، أن الولايات المتحدة، من طرفها، تربط بين الوضعين في أوكرانيا وغزة، واعتبرت أن تلبية احتياجات الأمن القومي الأساسية للولايات المتحدة، تحتم دعم إسرائيل والدفاع عن أوكرانيا.
منعت روسيا هبوط الطائرات الآتية من إيران في مطار اللاذقية
يبقى أن احتمال تطور الموقف على نحو يتجاوز العمليات الإسرائيلية المعهودة على سورية، غير وارد، وفي ظل الحرب على غزة أرسلت إسرائيل عدة إشارات إلى روسيا، حول تجميد العمل جزئياً بقواعد الاشتباك في الأجواء السورية.
وكشفت وكالة "بلومبيرغ" أنه منذ 7 أكتوبر، لم تخطر إسرائيل روسيا بجميع الهجمات الجويّة على الأراضي السورية، ونقلت عن مصادر مطلعة أن تل أبيب غيّرت من سياستها بشأن الغارات الجوية على سورية.
وترتب على ذلك توجيه ضربات أخرجت مطاري دمشق وحلب الدوليين من الخدمة، كما سقط 14 عسكرياً سورياً بينهم ضباط، عقب هجمات إسرائيلية استهدفت مواقع عسكرية للنظام السوري في درعا، رداً على إطلاق قذائف صاروخية من الجولان المحتل.
وبدلاً من أن يصدر عن موسكو رد فعل تجاه الهجمات الإسرائيلية، فإنها منعت هبوط الطائرات الآتية من إيران في مطار اللاذقية، تجنباً لمهاجمته من قبل إسرائيل.
ومنذ بدء الحرب على غزة، تحوّلت الأراضي السورية في الجنوب والشرق، إلى ساحة لتبادل الرسائل بين إيران ومليشياتها من جهة، وبين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، ذلك أن مجموعات تابعة لحزب الله اللبناني تبادلت القصف مع القوات الإسرائيلية على جبهة الجولان مرات عديدة، فيما تتبادل إيران عبر مليشياتها القصف مع القوات الأميركية شرقاً.
إزاء ذلك تقف روسيا متفرجة على ما يحصل من تطورات لا تقترب من قواتها أو من الخطوط الحمر للنظام السوري، ومن الواضح أن مرد هذه الحالة هو مزيج من العجز، وعدم القدرة على إيجاد نقطة التوازن، وكل ذلك من بين نتائج ذات مدلول بارز، من تأثيرات حرب روسيا على أوكرانيا.