مع دخول حرب الإبادة على غزّة شهرها الرابع، يزداد الوضع الإنساني فيها فظاعةً، لتتحوّل غزّة إلى ما يشبه الجحيم، وهي تحت قصفٍ وحصارٍ قد يكونان الأكثر همجيّةً وكثافةً في التّاريخ الحديث. فقد ألقت آلة الحرب الصهيونية؛ حتّى بداية يناير/كانون الثاني، ما يعادل ثلاثة قنابل نوويةً، من الحجم الذي ألقته أميركا على هيروشيما، دمّرت فيها ما يقارب من نصف مباني القطاع، وتسببت بأكثر من ألف شهيدٍ وجريحٍ ومفقودٍ في كلّ يوم، نصفهم من الأطفال. ناهيك عن المجاعة التي طاولت نصف السكان، الذين نزح أكثر من 80% منهم. ثمنٌ مروّعٌ يدفعه شعب غزّة، في مقابل الإنجازات التي تتحقق بصموده وقتاله اليومي، منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. لكن، ما هي العوامل التي تتحكّم بمسار الحرب؟ وكيف يمكن لهذا الجنون أن يتوقّف؟
الداخل الصهيوني.. ضغوطٌ وانقساماتٌ
تقوم شرعية الاستعمار الصهيوني في فلسطين على مبرّر بناء دولةٍ تجمع وتحمي يهود العالم، وهو ما يمثّل عقدًا ضمنيًّا بين المستوطنين ودولتهم. من زاويةٍ أخرى، لا تستطيع "إسرائيل" فرض وجودها كقوةٍ استعماريةٍ، توسعيةٍ وعنصريةٍ، إلّا بقوة الرّدع والتّفوّق العسكري على محيطٍ يرفضها بطبيعة الحال، ذلك كلّه انهار في 7 أكتوبر. لذلك، يخوض الاحتلال "حربًا وجوديةً" بالنّسبة له، كما جاء على لسان بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه. استعادة الردع وترميم العقد الاجتماعي، هو ما يفسر بربرية الحملة العسكرية على غزّة.
اتفق المسؤولون الصّهاينة في أعقاب الضّربة على جملةٍ من الأهداف: استعادة الأسرى أحياءً، القضاء على حركة حماس، وضمان عدم تشكيل غزّة أيّ تهديدٍ مستقبلًا. لكن إجراءات الاحتلال العسكريّة، إضافةً إلى تسريبات وتصريحات كبار مسؤوليه تثبت قيامه بتطهيرٍ عرقيٍ، ونيّته إعادة احتلال واستيطان غزّة. أمّا الآن، وبعد شهورٍ من القتال الضّاري، يؤكّد خبراءٌ عسكريون كثر، حتّى من داخل "إسرائيل"، استحالة تحقيق أيٍّ من تلك الأهداف. ما سيعني هزيمةً استراتيجيّةً صهيونيةً، وتحوّلًا نوعيًّا في المنطقة وفي مسار الصّراع معه.
لم يشهد العالم حالة فرزٍ واستقطابٍ بهذه الحدّة، وهي حالةٌ تعمل على إنتاج وعيٍ عالميٍ أكثر جذريةً في مواجهة هذه المنظومة الفاسدة
بالإضافة إلى التحدّيات العسكريّة والاستراتيجيّة، يواجه الاحتلال عوامل ضاغطةً أخرى تؤثّر على مسار الحرب، أكبرها الضّغط الذي يواجهه قادته، الذين يستميتون لتحقيق أيّ إنجازٍ، يعوّض الفشل الكبير في عملية أكتوبر، ولا سيّما وأنّهم بعد انتهاء الحرب، سيواجهون عاصفةً من المساءلة والمحاكمة، التي ستنهي حياتهم السياسية والمهنية إلى الأبد. هذا العامل تحديدًا يدفعهم إلى الذهاب إلى أبعد مدىً ممكنٍ في هذه الحرب، أملًا في تخفيف تبعات الفشل على مستقبلهم. كذلك؛ يتسبب ضغط هذا العامل بصراعاتٍ بين أقطاب الحكومة والعسكر، تتسرب فضائحها إلى الإعلام، إذ وصل عدم الثّقة بينهم إلى حدّ إخضاع القيادات لأجهزة كشف الكذب في مناسباتٍ عدّةٍ.
عاملٌ آخر هو الضّغط الشّعبي، الذي يأتي من ناحيتين: النّازحين الذين يقدّر عددهم بنحو نصف مليون شخصٍ، من مناطق غلاف غزّة ومن الشّمال. هؤلاء يضغطون بشدّةٍ من أجل تسريع إنهاء تهديد المقاومة على الجبهتين الفلسطينيّة واللبنانيّة. النّاحية الأخرى هي قضيّة الرّهائن، الذين يتعرّضون لما يتعرّض له أهل غزّة من قصفٍ، وقد فشل الجيش في تحريرهم بالقوّة. في هذا السّياق، بدأت تعلو أصواتٌ تطالب بوقف الحرب، والتّوصّل إلى صفقةٍ ترضخ فيها "إسرائيل" لمطالب المقاومة: وقف الحرب، انسحاب الجيش، وكلّ أسرانا في مقابل كلّ أسراكم.
أخيرًا، العامل الاقتصادي؛ يتكبّد الاحتلال خسائر فادحةً نتيجة الحصار البحري الذي يفرضه اليمن، وتكاليف الحرب المرتفعة، وتعطّلٍ شبه شاملٍ للحركة الاقتصادية، بسبب استدعاء جنود الاحتياط. تقول التقديرات الاقتصادية أنّ كلفة هذه الحرب قد تجاوزت حتى الآن 40 مليار دولار. رغم هذا التحدي الهائل، تصرّ حكومة الاحتلال على التمادي في العدوان، لكن إلى متى يمكنها تحمّل هذه التداعيات؟ وإلى أيّ حدٍّ سيؤثّر على قرارها المتوقّع بتوسيع الحرب مع حزب الله؟
باختصارٍ، الاحتلال منقسمٌ على نفسه بين من يريد المضي في الحرب، ومن يشكّك في قدرته على تحقيق أهدافها، وذلك وسط ضغط عوامل موضوعيةٍ معقّدةٍ على صانع القرار. الأكيد، هو أنّ إصرار الائتلاف الحكومي المتطرّف في "إسرائيل" على استمرار الحملة العسكريّة، سيقود كيانهم إلى حرب استنزافٍ إقليميةٍ واسعةٍ، وهو ما يتناقض مع مصالح أميركا الإمبريالية.
الموقف الأميركي.. براغماتية منافقة
أميركا في موقفٍ معقّدٍ للغاية؛ ففي الوقت الذي تستعر فيه منافستها مع الصين، وتخوض حرب استنزافٍ بالوكالة ضدّ روسيا في أوكرانيا، تجد نفسها اليوم أمام ضربةٍ قويّةٍ لمصالحها في المنطقة. من جهةٍ؛ تريد أميركا حماية الاحتلال، الذي تعتبره ركيزةً أساسيةً لمشروعها الإمبريالي، ومن جهةٍ أخرى؛ لا تريد أن تجرّها حكومة الاحتلال إلى حربٍ إقليميةٍ مفتوحةٍ.
تريد أميركا من أداتها الاستعماريّة "إسرائيل"، القضاء على كلّ تهديدٍ لمصالحها في المنطقة، بما فيها حركات التحرّر، وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية التي باتت تهدّد استمرار الاحتلال. لذلك، تشارك واشنطن في الحرب على غزّة، وتسخّر كلّ إمكاناتها لدعم "إسرائيل". ضغطت واشنطن على حكومة الاحتلال من أجل الخروج بأهدافٍ وخطةٍ أكثر واقعيّةً للحرب، لكن الاحتلال عجز عن ذلك، كونه تحت تأثير صدمةٍ عنيفةٍ، وتمسّك بأهدافٍ وخطةٍ تنمّ عن تطرّفه وغطرسته. لذلك، لم يكن أمام أميركا سوى احتواء المشهد، والتّعامل مع تداعياته. فاحتضنت ابنتها المدلّلة، وأعطتها الوقت والدّعم الذي تحتاجه، مع العمل على ضبط إيقاع سلوكها الوحشي، والتّعامل مع تداعياته الخطيرة.
يمتاز نهج واشنطن بالبراغماتية، وهي تبرع في النّفاق والخداع، ولديها آلةٌ إعلاميةٌ ضخمةٌ سخّرتها لتزوير الواقع، ومحاصرة الرواية الفلسطينية، كما لمسنا جميعًا. منذ بداية الحرب، أخذت واشنطن على عاتقها تأمين استفراد الاحتلال بغزّة، عبر محاولة ردع أيّ تدخلٍ خارجيٍ لنصرة شعبنا، موظّفةً في ذلك ذيولها في المنطقة، تحت شعارٍ دبلوماسيٍ مخادعٍ، وهو "منع توسّع الحرب". كما قدّمت للاحتلال دعمًا عسكريًّا وغطاءً سياسيًّا وإعلاميًّا، وتغاضت عن ممارسته التطهير العرقي بحجّة "حقّ الدفاع عن النفس". لكن عندما صمد شعبنا، وانفضح مخطّط الاحتلال أعلنت عن رفضها التهجير. ثم بدأت الإدارة الأميركية في تصعيد ضغطها على نتنياهو وحكومته، مع تصاعد الضغوط الداخلية والدولية عليها، فطالبته في مناسباتٍ عدّةٍ بتخفيف كثافة الحرب، وحدّة الحصار، مع تأكيدها على ضرورة استمرار الحرب حتّى القضاء على المقاومة. بالإضافة إلى ذلك، عادت إلى الحديث عن "حلّ الدولتين"، بعد "القضاء على الإرهاب"، وذلك أملًا في تخدير الفلسطينيّين مرّةً أخرى، وإنقاذ مشروعها الاستعماري من الانهيار بالكامل في وعي شعبنا، وأيضًا في الوعي الثوري العالي الذي بدأ يتبلور.
يؤكّد خبراءٌ عسكريون كثر، حتّى من داخل "إسرائيل"، استحالة تحقيق أيٍّ من تلك الأهداف
لا تتّفق الإدارة الأميركية الحالية مع حكومة نتنياهو، وهي تعتقد أنّ تطرّفها يمثّل خطرًا على مشروعها الكولونيالي. كما تدرك أنّ وحشيّة الحرب، وطول أمدها سوف يضرّان بحظوظها في النجاح في الانتخابات الأميركية القادمة، ما يشكل ضغطًا هائلًا على الإدارة. هذا الموقف يضع واشنطن في ورطةٍ، وسباقٍ مع الزمن من أجل إنجاز المهمّة، الأمر الذي يجعلها توظّف إمكاناتها الاستخباريّة للبحث عن قادة المقاومة، ومن ثم اغتيالهم، بالتّزامن مع عملها المتخبّط في ترتيب وضع غزّة بعد الحرب، وكذلك مع سعيها المحموم إلى إقناع الاحتلال في الانتقال إلى ما تسمّيه بـ "المرحلة الثالثة" من الحرب، التي يفترض أن تكون أكثر تركيزًا وأقلّ كثافةً.
في ظلّ هذه المعطيات، ومع أخذ الموقف الإسرائيلي في الاعتبار، نحن نقترب من نقطة صدامٍ بين الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو، التي تريد جرّ أميركا إلى مستنقعها، وربّما تتطلّع أيضًا إلى إسقاط إدارتها، وعودة دونالد ترامب، الذي ترى فيه حليفًا أكثر توافقًا مع طموحاتها التوسعية.
عالميًّا.. تحالفٌ لا تضامنٌ
على صعيدٍ آخرٍ، وفي مشهدٍ تاريخي، تتصاعد الاحتجاجات العالميّة، وتتعالى هتافات الحرية لفلسطين التاريخية، وذلك في تحوّلٍ ثوريٍ ينبغي تعميقه والبناء عليه. كما وصلت المطالبة العالمية بوقف الإبادة حدّ وضع جنوب أفريقيا "إسرائيل" في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية. الأمر الذي رفضه الاحتلال، ودعمته في ذلك أميركا الإمبرياليّة، وألمانيا التي انفضح جوهرها النازي.
لقد وضعت المحكمة عالمنا أمام خيارين: إما أن تساهم في استمرار جريمة الإبادة الجماعية، أو أن ترفضها وتعمل على وقفها. خطوة جنوب أفريقيا، وانتشار الاحتجاجات وتصاعدها، وتطوّر الوعي الثوري لشعوب العالم، يضر بالمصالح الأميركية ويسيء لسمعتها. الأمر الذي يقلق صانع القرار الأميركي ويضغط عليه، والذي بدوره يضغط على نتنياهو الذي لا مفرّ أمامه سوى التماهي مع تطرّف شركائه، غير مكترثٍ بأحدٍ.
لم يشهد العالم حالة فرزٍ واستقطابٍ بهذه الحدّة، وهي حالةٌ تعمل على إنتاج وعيٍ عالميٍ أكثر جذريةً في مواجهة هذه المنظومة الفاسدة، وقيمها العنصرية، التي تستعبد البشر وتحتقر حياتهم. تتجلّى طبيعة الصراع الطبقية مع هذه المنظومة في الاصطفاف العالمي الحالي، إذ تتحالف مراكز رأس المال العالمي مع الصهيونية، وتشاركها في حرب الإبادة على غزّة، وذلك في مواجهة دول الجنوب. بات من الواضح أن نضال شعوب العالم ضدّ الفاشيّة في تحالفٍ موضوعيٍ وضروريٍ مع نضال الشعب الفلسطيني. كما أصبح الوضع العالمي مهيّأً لثورةٍ شاملةٍ على المنظومة الإمبريالية، وفي طليعة هذه الثورة مقاتلو المقاومة وشعب غزّة.
في النّهاية، وفي ظلّ كلّ ما سبق، يبدو أنّ لا شيء سيوقف العدوان سوى تفكيك الائتلاف الحاكم في "إسرائيل". الأمر الذي يمكن أن يتحقّق أساسًا بصمود شعبنا واستمرار مقاومتنا الباسلة، إلى جانب مساندة شعوب المنطقة والمقاومة في لبنان واليمن، وتصعيد الضّغط العالمي على الإدارة الأميركية. ذلك كلّه سيساهم في إشعال الخلاف بين نتنياهو وشركائه، وبينهم وبين واشنطن. المعركة مع قوى القهر ليست بالمال والسلاح، بل بالصمود والإرادة والعمل، وهي عناصرٌ متأصّلةٌ في المقاتل الفلسطيني.