تعد مرحلة الشباب العمرية من أهم مراحل الإنسان، إذ تتميز عن غيرها من المراحل العمرية بتفجير طاقات الفرد، والاندفاع بحماسة نحو مستقبل يملؤه الأمل والإيمان بالقدرة على التغيير والتطوير. كما يتميز الشباب بـ الطوباوية، ما يجعله دائم النقد قولاً وفعلاً، ومستعداً للتضحية. هذه السمات وغيرها؛ تجعل قدرة الشباب على التأثير في المجتمع والنهوض به ممكنةً، خاصةً عند إضافة سمة جوهرية أخرى، هي الصفة الاجتماعية، إذ ينزع الشباب عامةً الى الانتماء للجماعات والمجموعات، لأن قدرة الفرد على العمل الجماعي في هذه المرحلة أكثر كفاءةً من باقي المراحل العمرية، والعمل الجماعي من أهم الميزات والعوامل التي تساعد على تطور الشخصية الفردية من جهة، والمجتمعية من جهة أخرى.
في المجتمعات التي تمر بظروف استثنائية (المجتمعات التي ترزح تحت الاحتلال)، تزداد الحاجة إلى الشباب، فهم الأكفأ والأقدر على قيادة حركات التحرر، الشواهد في التاريخ على ذلك كثيرة، نستحضر منها حرب التحرير الجزائرية، حين كانت الفئة الشبابية هي الغالبة في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، حتى على مستوى الصف القيادي الأول.
لم يختلف حال الثورة الفلسطينية عن نظيرتها الجزائرية، فالشباب هم من فجروها وقادوها في بداياتها، حين كان ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة ومحمود عباس وغيرهم كثر من قيادات الثورة الفلسطينية شباباً، رغم ما يبدو عليه الحال اليوم بعد وفاة بعضهم، وشيخوخة الآخر، لذا غابت عنهم اليوم الديناميكية والمرونة والحماسة للتغيير والتحرر، رغم استمرار تصدرهم المشهد السياسي الفلسطيني، وبالتالي ماتت أو شاخت الفصائل التي يقودونها، نتيجة غياب الشباب عن قيادة هذه الفصائل. والحال يسري أيضاً على الفصائل من خارج منظمة التحرير الفلسطينية (حركة حماس والجهاد الإسلامي).
الوضع الفلسطيني الراهن يفتقر إلى المستوعبات التي تمكن الشباب من تحقيق ذاتهم أولاً، ومن لعب دورٍ قياديٍ في عملية التحرر والتحرير ثانياً
وعلى اعتبار الفصائل ليست غاية بذاتها وإنما وسائل للتغيير والتحرير، كان من الأجدى أن يكون الشباب على سلم الأولويات، لكن للأسف تعاملت الفصائل الفلسطينية مع الشباب كأدوات تنفيذية، وبمنهج وصائي، أي دون مشاركتهم في اتخاذ القرار. لذلك نجدها؛ أي الفصائل، عاجزة عن اتخاذ قراراتٍ جوهريةٍ، إذ يغيب العنفوان والحماسة عن قرارات القيادات الهرمة، ويحل محله ما يعتبرونه حكمةً وتأنياً.
لذلك فمن غير المستغرب عزوف الشباب الفلسطيني عن الالتحاق بالفصائل الفلسطينية، نتيجة دورها السلبي في استيعاب طاقاتهم، بل ازداد هذا العزوف وضوحاً بعد انتهاء الانتفاضة الشعبية الثانية، التي لعبت الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح دوراً رئيسياً بإنهائها، عندما وقعت قيادة الحركة مع الاحتلال الصهيوني في 8 فبراير/شباط 2005 اتفاق الهدنة، دون معارضةٍ واضحةٍ وفاعلةٍ من باقي الفصائل.
نتيجة عدم فاعلية الدور الفصائلي، الذي شكل في الوعي الفلسطيني أداة العمل السياسي والنضالي، وقع الشباب الفلسطيني بحالة من التخبط وغياب البوصلة، وتحول الحماس إلى إحباط، وانقلبت سمة الشباب الاجتماعية إلى انعزالية، كما توجه قسم من الشباب إلى العمل مع المنظمات غير الحكومية NGOs، التي لعب معظمها دوراً تخريبياً مقصوداً؛ في معظم الأحيان، خاصةً من خلال دورها الاقتصادي والتربوي السياسي غير المباشر.
استقطبت هذه المنظمات؛ الـ NGOs، الشباب الفلسطيني بما يشبه؛ إلى حد كبير، الحلم الأميركي، من خلال منح العاملين فيها رواتب أعلى بكثير من رواتب نظرائهم خارج هذه المنظمات، إضافة إلى تأمين منح وتأشيرات سفر إلى أوروبا، وغيرها من الميزات. وعلى الرغم من أن المستفيدين من هذه الميزات لا يشكلون نسبة تذكر من الشباب الفلسطيني، إلا أن العمل معها صار حلماً لعددٍ لا بأس به من الشباب. وكما هو الحال بالنسبة للحلم الأميركي، نجد أعداد المتحمسين له والمدافعين عنه أضعافاً مضاعفةً عن المستفيدين منه، أي أن منظمات الـ NGOs تسوق وتبيع حلماً للشباب الفلسطيني، والمستفيدين من هذه الميزات ليسوا بأكثر من مواد دعائية وإعلانية.
لكن شعور الفلسطيني بواقعه يعود سريعاً؛ وإن غاب أو خفُتَ لفترة؛ فممارسات الاحتلال تضع الشباب الفلسطيني بمواجهة أنفسهم وواقعهم، وهذا ما أعادهم إلى العمل النضالي، ولو أخذ طابع العمل الفردي، الذي بدأت بوادره وملامحه في عام 2015، بما عرف بانتفاضة السكاكين، التي أخذت عمليات الطعن والدهس خلالها طابعاً فردياً، هذا الطابع المستمر إلى يومنا هذا، مع تطور نمط هذه العمليات وصولاً إلى ما أطلق الاحتلال عليه مصطلح "الذئاب المنفردة"، وهم عبارة عن مقاومين وجهوا ضرباتٍ موجعةً للاحتلال، بمناطق مختلفة على امتداد الجغرافيا الفلسطينية.
إلا أنه وكما ذكرنا سابقاً؛ لا تنحصر ميزة الشباب في كفاءتهم وقدرتهم على العمل الجماعي فقط، إنما تمس حاجتهم لذلك أيضاً، أي الحاجة إلى الانضمام للجماعات والمجموعات، وهو ما حصل في فلسطين، على الرغم من كونها اليوم مجموعات صغيرة، وغير واضحة المعالم، لكنها أثبتت رغبتها بالتصدي والتصعيد، كما في هبة كل فلسطين في مايو/أيّار 2021، حين لعب الشباب دوراً رئيسياً فيها، وما زال دورهم في التصدي لاعتداءات الاحتلال مستمراً إلى اليوم، وأصبح هذا التصدي أحد الشعائر والطقوس الرمضانية الفلسطينية.
رغم العمل النضالي المتميز فردياً وجماعياً ضمن مجموعات جديدة محدودة العدد نسبياً، كعرين الأسود وكتيبة جنين، إلا أن هذا العمل يشوبه بعض العيوب المدمرة، أهمها غياب البعد السياسي من جهة، وغياب الرؤية التحررية الاستراتيجية من جهة أخرى، وهنا لا بد من المرور؛ ولو سريعاً، على الرؤيتين الفلسطينيتين الرئيسيتين للتحرر من الاحتلال، تتمثل الأولى بحل الدولتين، الذي يفرط بالقسم الأكبر من الجغرافيا والشعب الفلسطيني، في حين تتجسد الثانية في حل الدولة الفلسطينية الواحدة، وهو حل ليس بجديد، بل أعيد إحياؤه مؤخراً وتتبناه مجموعاتٌ صغيرةٌ عديدةٌ، تعجز حتى الآن عن العمل مع بعضها.
على اعتبار الفصائل ليست غاية بذاتها وإنما وسائل للتغيير والتحرير، كان من الأجدى أن يكون الشباب على سلم الأولويات
إن حاجة المجتمع الفلسطيني إلى الطاقات الشبابية تفوق حاجات المجتمعات الأخرى بسبب الظرف الاستثنائي لهذا المجتمع، كونه يرزح تحت احتلال استيطاني إحلالي أنشئ لخدمة مصالح القوى الإمبريالية العالمية، ومدعوم من قبلها، إلا أن الوضع الفلسطيني الراهن يفتقر إلى المستوعبات التي تمكن الشباب من تحقيق ذاتهم أولاً، ومن لعب دورٍ قياديٍ في عملية التحرر والتحرير ثانياً. هذه المستوعبات لا بد أن تكون ضمن إطلاق مرحلة ثانية جديدة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، بعد وفاة مرحلتها الأولى، أو وفاتها سريرياً في أحسن الأحوال.