كانت دول البلطيق الثلاث، إستونيا، لاتفيا، وليتوانيا، أول من أحسّ بالصدمة عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/آذار 2014، بل أعادها السلوك الروسي عدة عقود إلى الوراء، نحو التاريخ الأسود الذي عاشته شعوب هذه المنطقة في عام 1940، حينما احتل الاتحاد السوفييتي، وضمّ ثلاث دول مستقلة، بينما كان المجتمع الدولي ينظر في الاتجاه الآخر.
وبقيت هذه البلدان خاضعة للسيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لموسكو حتى انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وأيقظ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، مخاوف هذه الدول من احتمال تعرضها للهجوم أيضاً، في حال نجاح روسيا في حربها على أوكرانيا.
وعلى الرغم من أنها في وضع مختلف، وتشكل عضويتها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي حماية لها، فإن مخاوفها الأمنية متأصلة في الجغرافيا، فهي تقع على حدود روسيا، وتتاخم لاتفيا وليتوانيا حليف روسيا الوثيق بيلاروسيا، ومن هنا يختلف حال دول البلطيق عن وضع بلجيكا، على سبيل المثال، العضو في الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فالجغرافيا والتاريخ جعلا نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاراً مباشراً لهم، وبالتالي إن بلدان البلطيق أكثر يقظة في ما يتعلق بأفعال موسكو. ولذا، فإن أول ردود الفعل صدرت من الدول الثلاث.
معركة أوكرانيا من أجل أوروبا
وزير خارجية ليتوانيا، غابرييليوس لاندسبرجيس، اعتبر أن "المعركة من أجل أوكرانيا هي معركة لأوروبا"، وحذّر من أنه "إذا لم يُوقَف بوتين هناك، فسيذهب إلى أبعد من ذلك".
وأصدرت وزيرة الدولة بوزارة الدفاع في لاتفيا جانيس غاريسنس، تحذيراً مماثلاً، قائلة: "تقيس روسيا دائماً القوة العسكرية، ولكن أيضاً إرادة الدول للقتال. وبمجرد أن يروا ضعفاً، سيستغلون هذا الضعف".
وقال المدير العام لجهاز الاستخبارات الخارجية في إستونيا، ميك ماران إن بلاده "تراقب الوضع من كثب"، وبالتالي إن هذه الدول أول من اتخذ خطوات ملموسة لدعم سيادة أوكرانيا، ودعت إلى فرض إجراءات عقابية ضد روسيا وبيلاروسيا، وأرسلت مساعدات عسكرية وإنسانية إلى أوكرانيا، وحثت الأطلسي على اتخاذ تدابير لضمان أمن الدول الأعضاء، ولا سيما تلك التي تحدّ روسيا.
سارعت دول البلطيق لدعم أوكرانيا سياسياً وعسكرياً
وفي 23 فبراير الماضي وصل وزراء خارجية دول البلطيق الثلاث إلى أوكرانيا في زيارة استغرقت يومين. وفي الساعات الأولى من بدء الغزو عندما ضربت الصواريخ الروسية الأولى أوكرانيا، كانوا لا يزالون في كييف وأصدروا بياناً قوياً تعهدوا فيه ببذل "كل ما هو ممكن" لمساعدة الأوكرانيين.
وفي الأيام التي تلت، ركزت الجهود الدبلوماسية لدول البلطيق على الضغط على شركائهم الأوروبيين لفصل روسيا عن نظام "سويفت"، وفرض عقوبات أخرى، ومنح أوكرانيا وضع مرشح إلى الاتحاد الأوروبي.
وقامت كل من لاتفيا وليتوانيا بتسليم أوكرانيا صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات، بينما أرسلت إستونيا صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات، وواصلت دول البلطيق تزويد أوكرانيا بالذخيرة والأدوية والمعدات الشخصية وغيرها من الإمدادات.
دول البلطيق انضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في عام 2004. ومن الناحية النظرية، توفر هذه العضوية حماية بحسب المادة الخامسة من معاهدة واشنطن لميثاق الأطلسي الخاص بالدفاع المشترك، التي تنص على أن "الاعتداء على أحد أعضاء الأطلسي يعتبر اعتداءً على جميع أعضاء الحلف".
وهنا يجدر التوقف أمام مسألة مهمة، وهي أن حصول دول البلطيق على عضوية الحلف والاتحاد الأوروبي كسر القيد التاريخي المضروب عليها، فهي لم تكن في نظر البعض أوروبية، وتشكل حزاماً بين روسيا وأوروبا، وتقع ضمن دائرة المجال الأمني لروسيا، ولذلك نُظر إلى عضويتها في الأطلسي والاتحاد الأوروبي كنوع من إقصاء روسيا ورد فعل قوي على الادعاءات الروسية بوجود "منطقة اهتمام خاصة" في الفضاء السوفييتي السابق، وهذا يجعل من أوروبا الشرقية منطقة ذات سيادة منقوصة.
غالباً ما يجري النظر إلى مواقف دول البلطيق الحادة تجاه روسيا، على أنها نابعة من المشاعر المناهضة للهيمنة السوفييتية في البلطيق التي دامت 50 عاماً تقريباً.
وتلعب الذاكرة ودروس الماضي دوراً مهماً في السياسة الخارجية للدول الثلاث، التي كانت تنظر بعدم الارتياح إلى التقارب الروسي الغربي في الماضي والمشاريع المشتركة بين الشرق والغرب، مثل خط "نورد ستريم" لتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا، ولكنها احتفظت بعلاقات براغماتية مع روسيا التي بقيت شريكاً تجارياً مهماً لها، ومثل كل الدول الصغرى تطمح دول البلطيق إلى نظام دولي قائم على احترام القواعد.
ومن هذا المنظور، إن إصرار إستونيا ولاتفيا وليتوانيا على الرد الغربي القوي بعد ضمّ القرم، نابع من أنه إذا لم يُطبَّق القانون الدولي، فإنه يفقد قدرته على الحماية.
وعلى الرغم من أنه جرى ضم دول البلطيق إلى الاتحاد السوفييتي بالقوة في عام 1940، ومع أن هذه الدول غير سلافية وغير أرثوذكسية، فإن انضمامها إلى حلف الأطلسي عام 2004 أزعج بوتين، إلا أنه لم يردّ بالطريقة نفسها في حالة أوكرانيا.
وعلى الرغم من الاختلافات، أثار هجوم روسيا على أوكرانيا مخاوف عميقة في دول البلطيق، بعد أن تبين أن تصعيد موسكو غير المسبوق للعنف، يشكك في الفرضية القائلة إن بوتين لاعب عقلاني يشارك في حساب التكلفة والعائد التقليدي، وثمة سوابق، في السنوات القليلة الماضية، انتهكت فيها موسكو مراراً وتكراراً المجال الجوي لبلدان في شمال أوروبا، مثل دول البلطيق، وكذلك الدول غير الأعضاء في الأطلسي، مثل فنلندا والسويد. وتبين أن الهدف التكتيكي الفوري للطيارين الروس الذين يقومون بمثل هذه المناورات، اختبار جاهزية الدفاعات الجوية لتلك البلدان.
ارتفاع منسوب العسكرة في البلطيق
وترجمت المخاوف نفسها خلال الأسابيع الماضية، بارتفاع أعداد متطوعي الحرس الوطني ذكوراً وإناثاً إلى أعداد غير مسبوقة في لاتفيا، والأهم من ذلك، الوجود المتقدم لحلف الأطلسي في بولندا ودول البلطيق، الذي بدأ في عام 2016 بعد عامين من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ويتجاوز عدد القوات الأطلسية 100 ألف جندي.
وأوضح الأطلسي أن "هذه المجموعات القتالية، بقيادة بريطانيا وكندا وألمانيا والولايات المتحدة على التوالي، متعددة الجنسيات ومستعدة للقتال، ما يدل على قوة الرابطة عبر الأطلسي".
وجود هؤلاء الجنود يرسل رسالة واضحة بأن الهجوم على عضو واحد في الأطلسي سيعتبر هجوماً على الحلف بأكمله، وضاعف حلفاء دول البلطيق بالفعل جهودهم لإظهار التضامن، وإعادة تأكيد عزمهم على الدفاع عن دول البلطيق، إذا لزم الأمر. وأعلنت كل من الولايات المتحدة وكندا بالفعل زيادة وجودهما العسكري في لاتفيا.
وفي يومي 7 و8 مارس الحاليين، زار العاصمة ريغا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ ووزير الخارجية الهولندي فوبكه هوكسترا ووزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد. وهدف تلك الزيارات طمأنة السكان المحليين وإرسال إشارة قوية إلى موسكو.
البيئة الأمنية للبلطيق تغيرت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا
ومع أن دول البلطيق لا تواجه أي خطر مباشر في هذا الوقت، فقد تغيرت بيئتها الأمنية جذرياً منذ 24 فبراير. وكما أشار وزير خارجية لاتفيا إدغارز رينكيفيتش أخيراً، فإن الستار الحديدي الجديد يعود مرة أخرى إلى أوروبا، بينما تجد لاتفيا نفسها هذه المرة في الجانب الآمن.
ويفيد التقرير الصادر عن أكاديمية الدفاع الوطني بأن "نفوذ روسيا في لاتفيا محدود"، ولكنها تقف على خط المواجهة. وبدأت رفع مستوى الوعي العام حول احتمال أن تشنّ روسيا هجوماً عسكرياً، ونشرت على نطاق واسع كتيِّبات صغيرة لشعبها حول كيفية التصرف في مثل هذا الحدث.
دعاية موسكو المزعزعة للاستقرار وحملات التضليل الإعلامية، التي تستهدف دول البلطيق الثلاث، تعمل منذ أكثر من عقد. وجميع هذه البلدان تعيش على أرضها أقليات روسية تشكل 24.8 في المائة من سكان إستونيا، 26.9 في المائة من لاتفيا، وحوالى 5.8 في المائة من ليتوانيا.
ومعظم هذه المجموعات مندمجة جيداً إلى حد ما، ولم تبرز مشاكل حتى الآن، لكن هؤلاء يواصلون التمسك بجذورهم الروسية ولغتهم وروابطهم العائلية أو التجارية.
وتتلقى جميع الأقليات الروسية في البلطيق تقريباً معلوماتها اليومية بالكامل من خلال وسائل الإعلام التي ترعاها الدولة الروسية، والتي تصف بشكل غير صحيح البلدان الثلاثة بأنها "دول فاشلة"، تعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية ضخمة، لا تصلح لتكون بمثابة أوطان مناسبة للروس الذين يعيشون هناك، لأسباب ليس أقلها أن أغلب أهل البلطيق لديهم مشاعر مناهضة لروسيا بشكل صارخ.
علاوة على ذلك، غالباً ما تكون علاقة الأقلية الروسية بأغلبية سكان البلطيق متوترة بسبب المظالم التاريخية المتبادلة، وعلى نحو خاص الاحتلال السوفييتي، وما ترتب عن تفكك الاتحاد السوفييتي.
ومع ذلك، يبدو من الضروري لكل النخب السياسية في بلدان البلطيق الحفاظ على الوحدة التي أظهروها خلال الأسابيع الأولى لغزو أوكرانيا، ومواجهة الانقسامات الداخلية من خلال التركيز على أفضل طريقة لمساعدة أوكرانيا.
ومن المرجح أن يتحول العيش بجوار روسيا المعزولة والعدوانية إلى مشروع طويل الأمد. سيتطلب ذلك بالطبع الاستعداد العسكري، ودعم الحلفاء في أوروبا والأطلسي.