ردّ روسي متدرّج على نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا

31 يوليو 2024
من عرض عسكري في موسكو، 18 إبريل 2012 (كيريل كودريافتسك/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تحذير بوتين من نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا**: بوتين يحذر من نشر صواريخ أميركية طويلة المدى في ألمانيا، مشيراً إلى أن ذلك قد يشعل أزمة صواريخ مشابهة للحرب الباردة.

- **تصعيد روسي وتطوير صواريخ جديدة**: روسيا ستبدأ في إنتاج صواريخ متوسطة وقصيرة المدى كرد فعل على خطط واشنطن، رغم التحديات الناتجة عن العقوبات.

- **خلفية معاهدة القوى النووية متوسطة المدى**: المعاهدة أبرمت في 1987 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وانسحبت منها الولايات المتحدة في 2019، متهمة روسيا بانتهاكها.

حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الأحد الماضي، الولايات المتحدة من أن روسيا ستتوقف عن تنفيذ وقف اختياري من جانب واحد لنشر أسلحة هجومية متوسطة وقصيرة المدى في حال ظهور صواريخ أميركية طويلة المدى في ألمانيا. وتكشف تصريحات بوتين عن جدية في التعامل بحزم مع قرار الولايات المتحدة نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا والتي يمكنها الوصول إلى أهداف بعيدة في عمق روسيا. ومع إشارته إلى أن تصرفات واشنطن وقرارها المتعلق في نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا تخاطر بإشعال أزمة صواريخ على غرار الحرب الباردة، على خلفية خطط لنشر أنظمة صواريخ أميركية طويلة المدى عالية الدقة على أراضي ألمانيا اعتباراً من عام 2026، أكد بوتين أن بلاده "ستكون في حلّ من الوقف الأحادي المفترض سابقاً لنشر الأسلحة الهجومية المتوسطة والقصيرة المدى، بما في ذلك زيادة قدرات القوات الساحلية لبحريتنا". وعزا بوتين قراره إلى أنه "ستكون هناك مرافق مهمة للحكومة الروسية والإدارة العسكرية ومراكز إدارية وصناعية وبنى تحتية دفاعية". وأضاف أن "زمن الرحلة لمثل هذه الصواريخ إلى أهداف على أراضينا، والتي قد تكون مجهزة في المستقبل برؤوس حربية نووية، سيكون حوالي عشر دقائق".

تدرج الرد على نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا 

ومع تصريحات بوتين التي أطلقها في يوم البحرية أثناء استعراض عسكري في مدينة سانت بطرسبرغ، مسقط رأسه، بدا أن روسيا حسمت أمرها أكثر لتبنّي خطوات إضافية رداً على مخططات واشنطن وقرارها نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا التي كشف الطرفان عنها في العاشر من يوليو/ تموز الحالي أثناء قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في واشنطن. وكان بوتين قد قال، في اجتماع مع أعضاء مجلس الأمن الروسي في 28 يونيو/ حزيران الماضي، إنه يجب على بلاده البدء في إنتاج صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وتبني قرارات بشأن أماكن نشر هذه الصواريخ الهجومية، رداً على إنتاج الولايات المتحدة صواريخ متوسطة وقصيرة المدى وتسليمها إلى أوروبا وعزمها نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا.

الكرملين يراهن عبر الحديث عن إنتاج وتطوير صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى على تأجيج الخوف من التصعيد وسباق التسلح في أوروبا

حينها، جدّد بوتين تحميل الولايات المتحدة مسؤولية الانسحاب من اتفاقية معاهدة الأسلحة النووية القصيرة والمتوسطة المدى في عام 2019 بحجج "مختلقة"، وأشار إلى أن واشنطن أعلنت عزمها على إنتاج مثل هذه الصواريخ. وأعاد بوتين التذكير بأن بلاده تعهدت في 2019 طوعياً بعدم إنتاج صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وعدم نشر أي من هذه الصواريخ حتى تنشر الولايات المتحدة هذه الأنظمة في بعض مناطق العالم. وبرّر قراره باستئناف الإنتاج وبحث أماكن لنشر للصواريخ، بأن "الولايات المتحدة لا تنتج فقط هذه الأنظمة الصاروخية، لكنها جلبتها بالفعل إلى أوروبا لإجراء مناورات، إلى الدنمارك، وأُعلن أخيراً عن وجودها في الفيليبين، ومن غير المعروف ما إذا كانوا (الأميركيون) قد أخرجوا هذه الصواريخ من هناك أم لا".

وفي الشهر الماضي، قالت وزارة الخارجية الروسية إن الولايات المتحدة نشرت في خريف العام الماضي، وفي مايو/ أيار الماضي، منصة إطلاق أرضية لصواريخ متوسطة وقصيرة المدى من نظام الصواريخ الحاوية أم كا 70، خلال تدريبات عسكرية في بورنهولم في الدنمارك. وفي السادس من مايو 2024، قالت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، نظراً لأن الولايات المتحدة "اتخذت بشكل علني وواضح طريق نشر أنظمة صاروخية مماثلة في مناطق مختلفة من العالم"، فإن روسيا "ستكثف التطوير وستبدأ في إنتاج" أنظمة مماثلة.

وأشار بيان وزارة الخارجية الروسية، حينها، إلى نشر منظومتين صاروخيتين أثناء المناورات، وذكرت أنه على الرغم من أن الهدف المعلن "حماية الملاحة البحرية وتأمينها"، فإن خصائص البطاريات المستخدمة للإطلاق تسمح بإطلاق صواريخ Raytheon Standard SM-3  وSM-6 متعددة الأغراض وصواريخ كروز توماهوك. وذكرت الوزارة أنه رغم أن مدى الأول أقل من القيود المنصوص عليها في معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، لكن الولايات المتحدة تعمل على زيادة مداه، فيما يخضع توماهوك لبنود اتفاقية الحدّ من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى لأن مداه 1.8 ألف كيلومتر.

ونفت وزارة الدفاع الدنماركية، في 29 يونيو الماضي، في بيان، نشر أي صواريخ متوسطة المدى على أراضيها في جزيرة بورنهولم في بحر البلطيق. وذكرت وزارة الدفاع الدنماركية أن الأنظمة الصاروخية التي تم التدريب عليها في بورنهولم ليست كما صورها بوتين ومسافتها أقصر بكثير (لا تدخل في مجال معاهدة حظر الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى 500-5500 كيلومتر)، وأوضحت أنها استخدمت في مناورات هدفها تأمين الحماية البحرية للجزيرة الدنماركية الواقعة في بحر البلطيق.

في المقابل، قال المحلل عسكري في أكاديمية الدفاع الدنماركية أندرياس بوك نيلسن، في تصريحات لمحطة "دي آر" الدنماركية، تعليقاً على بيان وزارة الدفاع، إن الأميركيين تدربوا أخيراً على بعض الأنظمة القادرة على إطلاق صواريخ متوسطة المدى من بعض المنصات على الأرض خلال مناورات في جزيرة بورنهولم في مايو الماضي.

وتأجج التصعيد بين موسكو وواشنطن بعد الكشف عن اتفاق بين الولايات المتحدة وبرلين على نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا في عام 2026، "ذات مدى أطول بكثير" من تلك المنتشرة حالياً في جميع أنحاء أوروبا. وأوضح بيان صدر عن الطرفين أن عمليات نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا الدورية ستكون بمثابة تحضير "لنشر دائم لهذه القدرات في المستقبل"، وأن الأسلحة ستشمل في النهاية صواريخ إس إم 6 غير النووية وصواريخ توماهوك كروز وأسلحة فرط صوتية متطورة. وتأتي تصريحات بوتين حول نشر الأسلحة في إطار تدرج الرد الروسي على نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا. ففي 11 يوليو الحالي، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إن بلاده تستعد لاتخاذ تدابير عسكرية مضادة رداً على النشر الأميركي المخطط لصواريخ بعيدة المدى في ألمانيا، ووصف الخطوة الأميركية بأنها "مدمرة للأمن الإقليمي والاستقرار الاستراتيجي".

تصعيد مدروس

في تصريحاته الأحد الماضي، أكد بوتين أن تطوير الأنظمة المناسبة للرّد على نشر الصواريخ الأميركية في ألمانيا "في مرحلته النهائية". ومن الواضح أنه ذهب خطوة إضافية نحو تحذير ألمانيا والبلدان الأوروبية من مغبة نشر هذه الصواريخ على أراضيها. ومع إعلانه للمرة الأولى عن مشاركة القوات المتمركزة على الساحل في الأساطيل الروسية، ربما تكون روسيا قد طورت منصات أرضية للإطلاق لصواريخ باستيون. ووفقاً للمعلومات المفتوحة، فإن هذه الصواريخ دخلت الخدمة في السفن الحربية الروسية في عام 2010 وهي قادرة على تدمير أهداف على مدى يصل إلى 800 كيلومتر بصاروخ مضاد للسفن من طراز بي 800. وسابقاً أشارت تقارير إلى أن روسيا استخدمت نسخة أرضية معدلة على الأرض في معارك سورية وأوكرانيا. كما يمكن للمنصات الأرضية في سانت بطرسبرغ أو مقاطعة كاليننغراد إطلاق صاروخ زيركون المضاد للسفن عالي الدقة وتصل سرعته إلى 9 ماخ (أكثر من 11 ألف كيلومتر في الساعة)، وهذا يعني أن نشر المنظومات الصاروخية الأرضية الجديدة على ساحل البلطيق يمكّن روسيا من إصابة معظم الأهداف في أوروبا، حيث سيتم نشر الصواريخ الأميركية، لتضاف إلى صواريخ إسكندر إم المنصوبة سابقاً في كاليننغراد.

تواجه روسيا مشكلات في زيادة الإنتاج بسبب العقوبات وفرض حظر على المنتجات الإلكترونية والشرائح مزدوجة الاستخدام

ومع توجه الطرفين الأميركي والروسي نحو أساليب الحرب الباردة، مع اختلال مبادئ الردع بسبب تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، من المرجح أن الكرملين يراهن عبر الحديث عن إنتاج وتطوير صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ونشرها بحيث تكون قادرة على إصابة معظم أراضي أوروبا على تأجيج الخوف من التصعيد وسباق التسلح في أوروبا، وزيادة الضغط الشعبي على الحكومات الغربية لوقف دعم أوكرانيا والحدّ من تقارب هذه الدول مع الولايات المتحدة عسكرياً لما ينطوي عليه ذلك من زيادة مخاطر الانزلاق إلى صراع نووي، لأن روسيا ذكرت سابقاً أن الصواريخ الأميركية التي تم التدرب عليها في الدنمارك والفيليبين أخيراً يمكنها حمل رؤوس نووية.

ويمكن فهم التصعيد في اللهجة الروسية نظراً لأن نشر أي منظومات صاروخية أميركية قادرة على إطلاق صواريخ توماهوك في جزيرة بورنهولم الدنماركية يثير غضب روسيا لقربها من شمال غرب البلاد ذات الكثافة السكانية العالية، ويؤدي إلى اختلال كبير في موازين القوى بشكل كبير لمصلحة "ناتو" وتحول بحر البلطيق إلى بحيرة مغلقة للحلف من جيبين صغيرين فقط لروسيا في الخليج الفنلندي (المطل على مقاطعة ليننغراد وتقع عليه ثاني أكبر مدينة روسية، سانت بطرسبرغ)، وجيب كاليننغراد المنعزل عن روسيا والمحاط ببولندا وليتوانيا.

ومع عودة ذكريات أزمة نشر صواريخ إس 20 من قبل الاتحاد السوفييتي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، والرد الأميركي بنشر صواريخ بريشتينغ في ألمانيا، ربما تراهن روسيا على زيادة الأصوات الأوروبية الداعية إلى اتفاق شامل يمنع الانزلاق إلى حرب نووية ووقف نشر الصواريخ الأميركية لما ينطوي عليه الأمر من تهديد لروسيا وأوروبا على حد سواء بسبب السياسات الأميركية، ولكن الأهم عدم زيادة وجود "ناتو" العسكري في أوروبا، علما أنها طالبت بعودة الأمور إلى ما كانت عليه في 1997 في رسالة الضمانات لـ"ناتو" والولايات المتحدة قبل نحو شهرين من إطلاقها الحرب على أوكرانيا.

ومن المؤكد أن إنتاج الصواريخ في روسيا متطور تاريخياً، ولكنها تواجه مشكلات في زيادة الإنتاج بسبب العقوبات وفرض حظر على المنتجات الإلكترونية والشرائح مزدوجة الاستخدام، ورغم وجود قاعدة تقنية وإمكانات بشرية لإنتاج صواريخ متقدمة، إلا أن الأمر يحتاج وقتاً للاستغناء عن التقنيات الغربية وتطوير الأدوات المحلية للإنتاج.

لمحة عن المعاهدة السابقة

أبرمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي معاهدة القوى النووية متوسطة المدى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1987. وبموجب الاتفاقية، التزم الطرفان بالحدّ من الأنظمة الباليستية قصيرة المدى (من 500 إلى ألف كيلومتر)، ومتوسطة المدى (من ألف إلى 5.5 آلاف كيلومتر)، وبعدم إنتاج مثل هذه الأسلحة في المستقبل.

وتحظر المعاهدة على الجانبين نشر منصات صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى تطلق من البر في أوروبا. وتُلزم المعاهدة الولايات المتحدة وروسيا بتفكيك الصواريخ النووية والتقليدية القصيرة والمتوسطة المدى، ملغية فئة كاملة من الصواريخ، يراوح مداها بين 500 و5 آلاف كيلومتر. وانسحبت الولايات المتحدة بقرار من الرئيس السابق دونالد ترامب من المعاهدة في الثاني من فبراير/ شباط 2019. وفي الثاني من أغسطس/ آب 2019 لم تعد معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى موجودة. وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسؤولية عن إنهاء الاتفاقية، وأعلنت وزارة الخارجية الروسية، في الثاني من أغسطس 2019، أن معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة انتهت اليوم بمبادرة من واشنطن ذاتها.

في المقابل، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن روسيا انتهكت المعاهدة "ولم تعد إلى الامتثال الكامل والتحقق من خلال تدمير نظام الصواريخ الذي يخالف بنود الاتفاقية واتهمتها بنشر منظومة صاروخية من طراز "9 إم 729" يتجاوز مداها 500 كيلومتر، ما يشكّل انتهاكاً للمعاهدة، ويمكّن روسيا من شنّ هجوم نووي على أوروبا في وقت وجيز. وأعلن بوتين في أغسطس 2019 أن بلاده ستعلّق العمل بمعاهدة الصواريخ المتوسطة وتطور صواريخ جديدة أسرع من الصوت، ومع تأكيده أن بلاده "يجب ألا تنجر إلى سباق تسلح جديد"، وافق الرئيس فلاديمر بوتين على مقترح وزير دفاعه آنذاك سيرغي شويغو تطوير صواريخ أرضية متوسطة المدى أسرع من الصوت، لكنه أكد أن روسيا لن تنشر أي صواريخ في أوروبا أو مناطق أخرى ما لم تفعل الولايات المتحدة ذلك.