يختلف تقييم المضمون الذي أتت به المقابلة التلفزيونية الأخيرة لزعيم جبهة النصرة ومؤسسها، أبو محمد الجولاني، بحسب زاوية التناول والمعيار الذي يتم وضعه للتقييم. لكن إن وجب إطلاق حكم عام لجوهر ما صدر عن الحوار، وفق الآمال التي كان يعقدها البعض على ما يمكن أن يصدر من مقابلة فضائية "الجزيرة"، أمكن اعتبار أنه لا نقلة نوعية في أدبيات التنظيم العسكري الأقوى حالياً في سورية لناحية تقديم خطاب جديد يستوعب جميع الأطراف في جبهة واحدة لإسقاط النظام ووضع ملامح مشروع ولو أولي لما قد تكون عليه "سورية الجديدة"، ديمقراطياً وتعددياً وتنوعاً، تتسع لجميع المكونات المذهبية والعرقية. ذلك أن ما صدر عن الرجل من تمسك بسرديّة دينية مذهبية "قاعدية" تجاه العلويين والدروز "الخارجين عن الإسلام"، بحسب ادعاء الجولاني، والمسيحيين وفرض الجزية عليهم "إذا أنشأنا الدولة الإسلامية"، لا يؤدي إلا لزيادة مخاوف، محقة في جزء كبير منها، داخلياً وخارجياً.
لكن في الـ"إذا" التي تخللت مرات ثلاث عبارة "إذا أقمنا دولة إسلامية"، يكمن الوجه الآخر من الميدالية، أو الصفحة الثانية من الخطاب الذي أتى على شاكلة مقابلة تلفزيونية غير نقديّة بتاتاً.
يمكن انطلاق التقييم تحديداً من النقطة المركزية التي دار حولها سجال سبق بثّ المقابلة، تتعلّق بعلاقة جبهة النصرة بتنظيم القاعدة وما قيل عن احتمال إعلان الرجل الانفصال عن التنظيم الأم ليتحرر من موجبات تشدُّد ديني، ما من شأنه، لو حصل، أن يسهّل التعاطي الداخلي السوري والخارجي مع "جبهة نصرة جديدة معتدلة" في إطار أوسع من المعارضة السورية المسلحة. لكن ما حصل هو أن الجولاني أحبط التوقعات التي كانت تفيد باحتمال إعلان فك الارتباط وبالتالي انتصار تيار أبو ماريا القحطاني، الداعي إلى حصول هذه الخطوة على حساب تيار أبو قتادة الفلسطيني "الأرثوذكسي"، لناحية بقاء "النصرة" مجرد فرع سوري لتنظيم "قاعدة الجهاد". وكأن الجولاني أصرّ على إحباط رواية الانفصال، فكرّر لمرات عدة ذكر "الدكتور أيمن حفظه الله"، في إشارة إلى زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، والتشديد على أن "التعليمات التي تصلنا" (من قيادة القاعدة)، تنص على ألا نحوّل بلاد الشام "حتى الآن" إلى منطلق لمهاجمة المصالح الغربية، تاركاً باب التهديد مفتوحاً.
بتثبيت الجولاني لعضوية جبهة النصرة في "نادي تنظيمات القاعدة"، يصبح أسهل فهم، لا تبرير، المواقف التي أطلقها الجولاني في مقابلته ـ خطابه. وإن كان منطقياً أن الكلام الوارد على لسان الجولاني نال رضى فئة سورية باتت تفضّل أي بديل عن نظام الأسد، فإنّه لم يؤدِّ، بالنسبة لكثيرين، من الحريصين على الثورة وإسقاط نظام الأسد، إلا لتعزيز رواية النظام وحلفائه، بما أن "النُصَيريين العلويين والدروز، خارجين عن الإسلام"، وبما أن الرجل وجبهته يريدان "إعادتهما" إلى الإسلام، ولأن المسيحيين "حتى الآن لم نفرض عليهم الجزية"، وهي جميعها أدبيات من شأنها لدى كثيرين أن تعزّز رواية النظام عن ادّعاء "حماية للأقليات" في وجه مَن يريد إما استئصالهم أو التعاطي معهم كأهل ذمّة...
اقرأ أيضاً: الجولاني يتوعد حزب الله بعد سقوط بشار الأسد
حتى ما يرى فيه البعض مؤشرات "تهدئة" إزاء "الأقليات"، فإنها جاءت في سياق الوعيد، من خلال تشديد الرجل على أن جبهة النصرة "لا تقاتل سوى من يقاتلها حتى الآن". ولا تتضمن "حتى الآن" سوى إبقاء لورقة الانتقال إلى المرحلة الثانية المحتملة، حيث تتغيّر المسلكيات "إذا أقمنا الدولة الإسلامية"، وعندها يبقى تخمين شكل التصرف مع مكونات دينية أصيلة في المجتمع السوري لها ما لجماعة الجولاني من حقوق وواجبات.
في المقابل، يرى آخرون أن الجولاني ظهر كرجل سياسي هادئ في مقابلته على عكس رموز تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وهنا يبدو كل تفصيل مهمّاً، حتى انتقاء المصطلحات. فما يسميه تنظيم "داعش" "حزب اللات"، يقول عنه الجولاني "حزب الله" أي اسمه الأصلي. هو حزب، أوضح الجولاني، أنه لن يقاتله في الداخل اللبناني بل في سورية، كونه "سيسقط في لبنان فور سقوط نظام الأسد"، في هذه الإشارة إبطال لجزء من سرديّة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله تخويفاً من "وحش النصرة" و"داعش" في إطار الحرب الإعلامية التبريرية لمشاركة الحزب كطرف أصيل في حرب النظام السوري. وظلّ الموقف من "تنظيم الدولة" (لا تزال النصرة ترفض استخدام مصطلح داعش)، "ناعماً"، وإن كان الجولاني تحدث بصريح العبارة عن أن "جماعة الدولة" مثلما دأب على تسميتهم، "طعنتنا من الخلف في القلمون بينما نحارب حزب الله"، من دون أن يخرج عن الرجل كلام أوضح ضد "داعش"، حتى حين قرر محاوره أحمد منصور أن يطرح سؤالاً "تحليلياً" عن رأي الجولاني بسبب هذا السلوك لـ"داعش"، فاكتفى الجولاني بالردّ أن "هذه هي سياستهم" من دون إضافة.
في الرسائل الخارجية، ظلّ كلام الجولاني سلبياً تجاه جميع الدول تقريباً، على الرغم من تشديده على أن "جبهة النصرة لا تكفّر المسلمين". سمّى حصراً الولايات المتحدة و"التحالف الدولي" و"أوروبا" عموماً على اعتبار أن "كل الغرب يسعى للإبقاء على نظام الأسد". وفي الإصرار المثالي للجولاني على أن جبهته لا تتلقى دعماً من أحد على الإطلاق، إقفال نظري على الأقل للباب أمام الحديث مع أي طرف، وهو ما يستحيل في حسابات إسقاط النظام، المدعوم من كتلة إقليمية ودولية وازنة. كما أن السلبية التي لمّح فيها إلى الائتلاف السوري مثلاً، بحديثه السلبي عن "المعارضين في الخارج"، فهي بدورها إشارة غير مطمئنة بالنسبة للساعين وراء جعل الجهود السياسية والعسكرية المعارِضة تصبّ في خانة واحدة، هي الانتقال إلى مرحلة ما بعد الأسد.
على صعيد آخر، يتوقف أحد أبرز المتخصصين السوريين بشؤون الفصائل الجهادية، أحمد أبا زيد، في تعليق نشره على صفحته في "فايسبوك"، مليّاً عند تناول الجولاني علاقات "النصرة" مع الفصائل الأخرى في "جيش الفتح" بشيء تراوح ما بين التسييس والعمالة والتوجيه، "وهذه تهم ومزايدات خطيرة في ظل تحالف النصرة مع هذه الفصائل بالذات وحاجتها إليها"، على حد تعبير أبا زيد. أصلاً، فإنّ كلام الجولاني عن جيش الفتح، على الرغم من مساحته القصيرة في المقابلة التي دامت قرابة الساعة، كان كافياً للتقليل من أهمية وحجم التحالف الذي يجمع حالياً النصرة مع فصائل سورية معارضة أخرى في إدلب والقلمون، وذلك في توصيف الرجل للتحالف على أنه مرحلي جزئي تحكمه الشورى ولا ينطبق عليه لقب التحالف حتى.
اقرأ أيضاً: فصول من استيعاب و"سَورَنَة النصرة" في سورية