المعطيات في إدلب وما حولها، أو ما يعرف بـ"منطقة خفض التصعيد الرابعة"، شمال غرب سورية، باتت عصية على الفهم، رغم الهدوء النسبي الذي تشهده منذ إبرام وقف إطلاق النار في بداية مارس/ آذار من العام الماضي.
وعلى الرغم من عمليات التصعيد بين الفينة والأخرى، والتي يريد من خلالها الروس والنظام إيصال رسائل للمعارضة وتركيا الداعمة لها، لا سيما القصف الذي تعرضت له بلدة بسنقول الحيوية والواقعة على الطريق الدولي حلب – اللاذقية "أم 4"، أمس وأمس الأول، ما قرئ على أنه تجدد للرغبة في السيطرة على الطريق والوصول إليه كهدف روسي استراتيجي، يأتي سحب القوات من عمق المناطق المسيطر عليها من قبل النظام وحلفائه في إدلب ومحيطها، باتجاه جبهات البادية، الأمر الذي يبدد الاحتمال الأول، الذي من المفترض أن يطبقه عمل عسكري واسع يحتاج لمجهود كبير من القوات والعتاد.
أكد ناجي المصطفى أن فصائل المعارضة مستعدة لكافة الاحتمالات
وجدد الطيران الحربي الروسي، أمس الأربعاء، قصفه لمنطقة حرش بسنقول في ريف إدلب، قرب الطريق الدولي "أم 4"، ما أسفر عن أضرار مادية ضمن الأراضي الزراعية. وكان الطيران الروسي قد شن، مساء أمس الأول، غارتين بقنابل عنقودية على المنطقة ذاتها، ما أدى إلى إصابة عنصرين من فصائل المعارضة، يتبعان لـ"الجبهة الوطنية للتحرير"، إحدى أهم الفصائل المقاتلة في إدلب ومحيطها، وذلك خلال دورية قرب الطريق.
وتعد بسنقول حيوية على الطريق الدولي، لكونها تتوسط الجزء الذي يمر في إدلب، ويقسمها إلى نصفين، شمالي وجنوبي، الأمر الذي يثير مخاوف من تجدد رغبة روسيا والنظام للسيطرة على الطريق، ولا سيما بعد فشل موسكو بفتح ثلاثة معابر بين مناطق سيطرة النظام من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، شمال غربي سورية، في كل من حلب وإدلب. وكانت روسيا تهدف من وراء محاولة فتح المعابر التخفيف من الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها النظام، نتيجة نقص العملات الأجنبية في البنوك العاملة في مناطق سيطرته، والتي تعد رئيسية في التعامل المالي داخل مناطق سيطرة المعارضة، ما يعني أن فتح المعابر قد ينعش الحركة الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام، من خلال التبادل التجاري، ودخول القطع الأجنبي.
والرغبة بالوصول إلى الطريق الدولي كانت مطلباً روسياً أمام الضامن التركي للمعارضة، بهدف إعادة فتحه أمام الحركة التجارية والطبيعية، الأمر الذي لا تزال أنقرة ترفضه بالمطلق، قبل أن يتم حل مشكلة إدلب بالكامل على طاولة التفاوض، ومن ضمنها مسألة السيطرة على الطريق الدولي حلب – دمشق "أم 5"، المار من إدلب، الذي سيطر عليه النظام، بدعم روسي وإيراني. وأمام ذلك، عززت تركيا وجودها العسكري على خطوط التماس في إدلب، ونظمت صفوف المعارضة المتحالفة معها، لا سيما في الجنوب وعلى حدود جبل الزاوية، استعداداً للسيناريوهات المقبلة، والاحتمالات التي من بينها شن هجوم جديد للنظام والروس، كانا يلوحان به مراراً بعد توقف المعارك.
وقال المتحدث باسم "الجبهة الوطنية للتحرير"، النقيب ناجي المصطفى، إن "الروس والنظام لم يتوقفا عن خرق وقف إطلاق النار منذ إبرامه، سواء بالقصف المدفعي أو الجوي". وأشار، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن القصف الأخير الذي طاول مناطق قرب مدينة جسر الشغور ومواقع على الطريق الدولي حلب – اللاذقية يندرج ضمن الخروقات المتكررة والمستمرة. وحول القراءة لهذا التصعيد على صعيد الاحتمالات، أشار المصطفى إلى أن "الروس والنظام دائماً كانا غير ملتزمين بأي تفاهمات وأي اتفاقيات". ولم يستبعد احتمال عودة التفكير بالوصول إلى طريق "أم 4"، لافتاً إلى أن ذلك "من ضمن الأطماع الرئيسية للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين". غير أن المتحدث العسكري أكد أن "فصائل المعارضة مستعدة لكافة الاحتمالات، والإجراءات الاحترازية متواصلة من قبلها على طول خطوط التماس والاشتباك".
وتأتي تلك التطورات على وقع لجوء النظام والمليشيات المساندة له لسحب الكثير من القوات من إدلب ومحيطها باتجاه البادية، الأمر الذي يشير إلى أن تجدد العمليات في إدلب ليس وارداً لدى النظام وحلفائه في المرحلة الحالية على الأقل. وقالت مصادر في المعارضة السورية، لـ"العربي الجديد"، إن النظام يواصل سحب مجموعات كبيرة من قواته من جبهات الشمال الغربي من سورية مع فصائل المعارضة إلى قلب البادية، مشيرة إلى أن "الفرقة الرابعة" التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام بشار الأسد، أرسلت أخيراً أرتالاً عسكرية من بلدة قلعة المضيق بريف حماة الشمالي الغربي، إلى تدمر وباديتها في ريف حمص الشرقي. وبيّنت المصادر، المواكبة عن كثب لكل تحركات قوات النظام في محافظة إدلب ومحيطها، أن الفرقة "25 مهام خاصة"، المدعومة من روسيا، أرسلت ثلاثة أرتال عسكرية من مناطق معرة النعمان، وخان شيخون، وكفرنبل في ريف إدلب الجنوبي، إلى طريق إثريا – خناصر، في أقصى ريف حلب الجنوبي، وإلى محيط منطقة كباجب وجبل البشري بريف دير الزور الجنوبي.
فاتح حسون: نظام الأسد، وحليفاه الروسي والإيراني، يسعون لتهجير سكان المناطق المحيطة بطريق أم 4
ووفق المصادر ذاتها، فقد سحب "الفيلق الخامس"، المدعوم من روسيا، ستة أرتال عسكرية من منطقة معرة النعمان وبلدة خان السبل وقرية بابيلا ومدينة سراقب، جنوب شرق إدلب، وأرسلها إلى بادية إثريا – خناصر، والرصافة بريف الرقة الجنوبي الغربي، وبادية الرهجان والسعن بريف حماة الشرقي، وبادية السخنة بريف حمص الشرقي. وأكدت المصادر أن "لواء القدس"، الذي يضم مسلحين فلسطينيين، أرسل رتلين عسكريين من ريفي حلب الجنوبي والغربي، إلى بادية إثريا – خناصر، وبادية دير الزور، بالتزامن مع إرسال رتلين آخرين من مليشيا "الدفاع الوطني" من سقيلبية بريف حماة الغربي إلى بادية تدمر والسعن. كما أرسل "الحرس الجمهوري" رتلاً من منطقة العيس بريف حلب الجنوبي، إلى بادية السخنة بريف حمص الشرقي. وأوضحت المصادر أنّ كل رتل يضم نحو 150 عنصراً وما بين 30 و40 آلية، مشيرة إلى أنها ضمت دبابات ومدافع ثقيلة وسيارات دفع رباعي مزودة برشاشات.
كل ذلك يخلط المعطيات بعضها ببعض، ما يجعل النتائج عصية على الفهم في ميزان التحليل الاستراتيجي العسكري. لكن المحلل العسكري والقيادي في المعارضة العميد فاتح حسون رأى، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من الواضح أن نظام الأسد، وحليفيه الروسي والإيراني على الأرض، يسعون لتهجير سكان المناطق المحيطة بطريق أم 4، في خرق واضح للاتفاق بين الرئيسين التركي (رجب طيب أردوغان) والروسي (فلاديمير بوتين) حول هذه المنطقة. ومن خلال قراءة سريعة لمجريات الأحداث خلال السنوات الماضية، التي تم خلالها تجربة جدية التعاطي الروسي مع الاتفاقيات والمعاهدات، سيتضح لنا أن الجانب الروسي غير جدي وغير ملتزم إلا في ما يتعلق بالاتفاقيات التي تضمن مصالحه وتحقق أهدافه".
ولا يعتقد حسون أن "القصف سيتوقف بشكل كلي في أي وقت قبل الوصول لحل شامل للملف السوري بمباركة جميع الدول، وهذا ما حدث أخيراً، وغالباً سيتكرر. ولا أعتقد أيضاً أن الروس سيتوقفون عن سياسة القضم المتبعة للاستيلاء على المزيد من المناطق، أو المكاسب السياسية بالحد الأدنى، إلا إذا واجهوا رفضاً جدياً من القوى الدولية الفاعلة. ولا يمكن أن نفصل بين الأطماع الروسية ورد فعلها على التلميحات الإيجابية الأميركية المتعلقة بهيئة تحرير الشام من خلال الصحافة. كل ذلك يمكن اعتباره عوامل قلق وتوتر تدفع الروس باتجاه تحصين ما يمكن تحصينه، وكسب ما يمكن كسبه، إلى حين الوصول لطاولة المفاوضات المتعلقة بحل شامل للملف السوري". وأضاف "أما سحب القوات باتجاه البادية فهو إيحاء بأن النظام وحلفاءه يحاربون الإرهاب، ويحتاجون مزيداً من المقاتلين لذلك، وهذا غير صحيح، فهم الذين يسمحون لداعش بالتمدد من أجل جر القوات الأميركية لصراع طويل في البادية".