جرى الاجتماع بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في جدة، بعد منتصف ليل الثلاثاء الماضي، وهو أمر لافت بالنسبة إلى مراقبين، كون البروتوكولات تترجم في كثير من الأحيان طبيعة العلاقات، وتعكس درجة حرارتها، سلباً أم إيجاباً.
ولوحظ في اليوم الثاني أن خبر اللقاء في وسائل الإعلام السعودية جاء بلغة جافة موجزة ومتحفظة إلى حد كبير، على غير عادة خطاب الاحتفاء التقليدي. كما خلا من التفاصيل حول القضايا التي جرى بحثها، واكتفى بالقول إن اللقاء تناول التطورات الإقليمية والدولية.
من جانبه، لم يستفض الطرف الأميركي في الحديث عن اجتماع وصفه أحد مساعدي بلينكن بـ"المفتوح والصريح". واكتفى بالقول: "كانت هناك درجة جيدة من التقارب بشأن المبادرات المحتملة، حيث نتشارك نفس المصالح، مع الاعتراف أيضاً بمواضع الخلافات".
لم يكن اجتماع ولي العهد السعودي مع الوزير الأميركي مؤكداً حتى هبوط طائرة الأخير في مطار جدة مساء الثلاثاء الماضي. ورغم أن الطرف الأميركي تحدث عن احتمال كبير لعقده، لم يؤكد المسؤولون السعوديون ذلك، وسط حديث عن خلافات حيال العديد من الملفات الثنائية والإقليمية والدولية.
انزعاج أميركي من استقبال بن سلمان مادورو
ومن الإشارات التي نظر إليها الجانب الأميركي بانزعاج هي أن بن سلمان كان قد استقبل قبل يوم من ذلك أحد خصوم واشنطن، الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، واستعرضا خلال اللقاء "العلاقات الثنائية بين البلدين الصديقين، وآفاق التعاون وفرص تعزيزه في مختلف المجالات"، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس). وهذا أمر لم يكن وارداً قبل أن تبتعد الرياض خطوات عن واشنطن.
يبدو أن نتائج زيارة بلينكن إلى السعودية اقتصرت على مواصلة التنسيق في مجال الدفاع
زيارة الوزير الأميركي إلى السعودية جاءت عشية تطور مهم في المنطقة، وهو التقارب السعودي الإيراني، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في اتفاق رعته الصين في مارس/ آذار الماضي، بعد قطيعة استمرّت سبع سنوات. وقد وصل بلينكن إلى جدة في نفس اليوم الذي استأنفت فيه السفارة الإيرانية أعمالها.
وحصلت الزيارة بعد أسابيع قليلة من زيارة أجراها إلى المملكة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في 7 مايو/ أيار الماضي، وبعد أكثر من عام على زيارة أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن في يوليو/تموز 2022، تبين أنها فشلت في تحقيق أهدافها، وخاصة على صعيد خفض إنتاج النفط، واتخاذ السعودية خطوات تطبيع مع إسرائيل.
ومنذ ذلك الوقت، حصلت عدة تطورات زادت من تباعد المسافة بين البلدين اللذين ارتبطا بعلاقات تحالف متينة لأكثر من نصف قرن، منها على الصعيد الثنائي، والآخر على مستوى العلاقات الدولية للسعودية، وخاصة التنامي السريع لعلاقات الرياض وبكين، التي توجت بالقمم الثلاث التي استضافتها السعودية، في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بين الصين وكل من السعودية ومجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية.
مرحلة شديدة التعقيد بين واشنطن والرياض
العلاقات بين واشنطن والرياض تمر بمرحلة شديدة التعقيد، منذ التصريحات التي أطلقها بايدن خلال حملته الرئاسية الانتخابية، والتي هاجم فيها السعودية على خلفية انتهاك حقوق الإنسان، وخاصة ملف الإعلامي جمال خاشقجي، الذي قتل في القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
نقطة الخلاف التي زادت من شقة التباعد هي أسعار النفط الخام، بعد الاتفاق الذي حصل بين السعودية وروسيا داخل "أوبك بلس" على خفض إنتاج النفط، بعد حرب روسيا على أوكرانيا، ما حرم واشنطن من استخدام الأسعار المنخفضة لتقليل إيرادات موسكو من صادرات النفط والضغط عليها في الملف الأوكراني.
وقد وافقت هذه الخطوة التوجهات الروسية وعارضت التوجهات الأميركية. وتجدد الاتفاق قبل يومين من زيارة بلينكن، حيث تعهدت الرياض داخل "أوبك بلس" بتنفيذ خفض طوعي إضافي في إنتاجها من النفط الخام مقداره مليون برميل يومياً، ابتداء من يوليو المقبل وعلى مدار العام المقبل.
بايدن يعيد ضبط العلاقات مع السعودية
وعلى الرغم من أن بايدن بدأ خطوات تراجعية عن تصريحاته السابقة بفرض عقوبات على الرياض، فعمل على "إعادة ضبط" للعلاقات مع السعودية بعد أن وصل إلى البيت الأبيض، إلا أن الرياض كانت قد بدأت تدريجياً السير على طريق يختلف عن الذي سارت عليه العلاقات التقليدية بين البلدين، وفتحت قنوات تعاون كبيرة مع خصمي الولايات المتحدة اللدودين، روسيا والصين، في وقت تمر فيه علاقات الدول الثلاث بتوتر كبير.
يبدو ظاهرياً أن العلاقات بين واشنطن والرياض تعاني من فتور شديد، وصل إلى مرحلة متقدمة من التوتر استدعت المراجعة من جانب واشنطن، كما صرح بذلك الرئيس الأميركي، حينما لم يلق استجابة سعودية لطلبه رفع إنتاج النفط من أجل تعويض النفط الروسي الذي خرج من الأسواق بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية.
وجاءت الزيارات المتواصلة من جانب المسؤولين الأميركيين إلى السعودية في سياق محاولة ضبط العلاقة حتى الآن. وتكررت خلال العام الماضي زيارات سوليفان ومدير الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" وليام بيرنز. ولا تخرج عن هذا السياق زيارة بلينكن التي استمرت ثلاثة أيام.
أرادت واشنطن أن تتجاوز زيارة وزير الخارجية العلاقات الثنائية إلى النطاق الأميركي الخليجي، ولذا اجتمع بلينكن مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، كما ترأّس مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان اجتماعاً للتحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش"، الذي تشكّل عام 2014، وبات يضم أكثر من 80 بلداً ومنظمة شريكة.
تفاؤل أميركي بتطورات إيجابية
رغم البرود والتوتر، بدا الجانب الأميركي متفائلاً بحصول تطورات إيجابية. وعشية رحلة بلينكن، قال المسؤول الأميركي الرفيع في الخارجية والمكلّف شؤون شبه الجزيرة العربية دانيال بنايم، في تصريح، إن "هناك عملاً كثيراً نريد فعله. تركيزنا منصب على برنامج عمل للدفع بالأمور قدماً"، ملخّصاً بذلك الروحية السائدة في واشنطن رغم التباينات الكثيرة مع الرياض.
ومن بين أهداف الزيارة، حسب التصريحات الأميركية، إعادة التفاهم مع الرياض بشأن أسعار النفط، والوصول إلى صيغة تفاهم بصدد تنامي العلاقات بين السعودية والصين وروسيا، وتحقيق تقدم في تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية وفق الصيغة التي طرحتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولم تتبنَّها السعودية.
حسب معطيات عديدة لم يترك المسؤولون السعوديون لبلينكن مجالاً للدخول في تفاصيل العلاقات بين بكين والرياض
وتدرك واشنطن أن العناوين الثلاثة صعبة للغاية، وأكثرها تعقيداً العلاقة مع الصين ورفع إنتاج النفط. كما أن قضية التطبيع غير سهلة في الظرف الراهن، بوجود حكومة مستوطنين في إسرائيل لا يمكن أن تستجيب لشروط الرياض في العودة إلى خطة السلام العربية التي طرحتها السعودية قبل أكثر من 20 سنة.
وعلى هذا الأساس، لم يبد بلينكن متفائلاً في حديثه أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك"، قبل يوم من رحلته باتجاه المنطقة، قائلاً إن "لواشنطن مصلحة حقيقية تتعلق بأمنها القومي في الدعوة لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والسعودية"، لكنه أشار إلى أن "ذلك لن يحدث بسرعة".
ولخصت باربرا ليف، المسؤولة الرفيعة في الخارجية الأميركية المكلّفة ملف الشرق الأوسط، خلال جلسة استماع أمام لجنة في الكونغرس أخيراً، نتائج محاولات التطبيع مع السعودية بوجود كثير من "التفاعل"، مشيرة إلى "انفتاح تدريجي" بين الإسرائيليين والسعوديين، ولا سيّما في المجالات الثقافية والرياضية.
لا نتائج مهمة لزيارة بلينكن إلى السعودية
يبدو أن زيارة بلينكن إلى السعودية لم تحقق نتائج مهمة، واقتصرت على المستوى العادي، ومن ذلك مواصلة التنسيق في مجال الدفاع، كون الرياض لا تزال تشتري أسلحة أميركية متطوّرة. كما أن هناك تعاوناً دبلوماسياً وثيقاً بين البلدين في إطار الجهود الرامية للتوصل إلى وقف إطلاق نار في النزاع الدائر منذ ثمانية أسابيع في السودان، إلّا أنها باءت بالفشل حتى الآن. ويبدو أن مصلحة واشنطن تكمن في أن المملكة لعبت دوراً محورياً في إجلاء آلاف الأجانب من السودان، بينهم مئات الأميركيين، إلى أراضيها.
تبدو واشنطن غير قلقة على المدى البعيد من تطور العلاقات بين الرياض وموسكو، عكس ما يحصل من نمو متسارع للتفاهمات والتعاون بين الرياض وبكين. وحسب خبراء أميركيين، فإن تشجيع السعودية على عدم تعزيز علاقاتها مع الصين ربما يكون الجانب الأكثر أهمية في زيارة بلينكن.
وكان يتعين على الوزير الأميركي أن يوضح لماذا لا تتوافق المصالح الصينية مع السعودية، وكيف سيعوق التقارب في العلاقات بطريقة استراتيجية مع بكين العلاقات الوثيقة مع واشنطن، وذلك من منطلق أن واشنطن لن تترك فراغاً لمنافسيها في المنطقة، إلا أن جو المحادثات لم يسمح له بذلك.
وحسب معطيات عديدة، لم يترك المسؤولون السعوديون لبلينكن مجالاً للدخول في تفاصيل العلاقات بين بكين والرياض، لأن ذلك من شؤون السيادة التي لا تخضع لإملاءات من أحد، وتخضع للمصالح، ومثال ذلك أن السعودية استضافت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الشهر الماضي في قمة جامعة الدول العربية في 19 مايو/أيار الماضي، ثم وزير الداخلية الروسي فلاديمير كولوكولتسيف بعد ذلك مباشرة.
ومن بين أبرز النتائج الصريحة لزيارة بلينكن إلى الرياض هي أن العلاقات السعودية الأميركية خرجت عن المسار القديم. وبينما تتعاقب زيارات المسؤولين الأميركيين إلى المملكة من أجل استمرار التحالف القديم، تتجه السعودية إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية.