تزامناً مع الذكرى الستين لاندلاع أزمة الكاريبي أو الصواريخ الكوبية (14 أكتوبر/ تشرين الأول 1962 و20 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه)، يعيش العالم هواجس احتمال نشوب حرب نووية مدمرة على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا المتواصل منذ 24 فبراير/ شباط الماضي.
وتصاعدت المخاوف من خطر الحرب النووية بعد تلويح أكثر من مسؤول روسي باستخدام الأسلحة النووية للدفاع عن الأراضي الأوكرانية التي ضمتها موسكو الشهر الماضي، وسط دعوات لتوجيه ضربات نووية تكتيكية بعد نكسات الجيش الروسي في ساحة المعارك منذ بداية الشهر الماضي في إيزيوم ولاحقاً في ليمان وخيرسون.
وبعد تراجع نسبي في حدة المخاوف أثارت تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأسبوع الماضي وتفسيراتها في الصحافة العالمية عاصفة جديدة، بعدما دعا إلى توجيه ضربة وقائية لروسيا لمنعها من استخدام الأسلحة النووية. وانتهزت موسكو تصريحات زيلينسكي ورأت أنها "دعوة واضحة لبدء حرب عالمية ثالثة".
واستقبل العالم التهديدات الروسية على محمل الجدّ، على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يقترب فيها الكوكب من حافة حرب نووية، غير أنه تمّ تجنب كل الحالات السابقة بصفقات اعتبرها الجانبان، الأميركي والسوفييتي، نصراً لهما.
في المقابل يمكن النظر إلى التهديدات باستخدام سلاح الردع النووي على أنه مؤشر إلى ضعف روسي، وفي الوقت ذاته فإن خيار "النووي" غير مستبعد لتجنب الهزيمة، ولذلك تظهر دورياً دعوات من هنا وهناك لعدم "إذلال" روسيا وإلحاق هزيمة مريرة بجيشها.
الخوف من حرب نووية
بدأت روسيا باكراً وبشكل غير مباشر التلويح باستخدام أو نشر أسلحة نووية في مناطق قريبة من حلف شمال الأطلسي، خصوصاً في جيب كاليننغراد على بحر البلطيق.
وأعلن حليفها الأقرب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو استعداد بلاده لنشر أسلحة نووية على أراضيها، بعد إعلان فنلندا والسويد نيتهما الانضمام إلى حلف الأطلسي.
وبعد النكسات الميدانية الكبيرة على أرض المعركة مع أوكرانيا، تعالت الأصوات لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية لمنع مزيد من الخسائر بعد إقرار الجيش الروسي بما وصفه "الانسحاب إلى مواقع أكثر فائدة"، وثبت لاحقاً أنها انسحابات اضطرارية بسبب نجاح تكتيكات الجيش الأوكراني والأسلحة الحديثة التي حصل عليها، والإرادة القتالية للأوكرانيين والتي أدت إلى تحرير مناطق في خاركيف واستكملتها لاحقاً ببلدة ليمان وأجزاء من خيرسون.
كييف طرحت الخطر النووي بعد الردّ البارد للأطلسي على توقيع زيلينسكي طلب الانضمام للحلف
وعلى الرغم من أن الكرملين خفّض من احتمال استخدام السلاح النووي، إلا أن الرئيس فلاديمير بوتين لمح إلى قدرات بلاده النووية في خطابين، الأول حين دعا إلى التعبئة العامة الجزئية في 21 سبتمبر/أيلول الماضي وأشار حينها إلى أن بلاده تملك قدرات نووية أكثر تطوراً في بعض مكوناتها من القدرات الغربية.
أما الخطاب الثاني فتمحور حول إعلانه في 30 سبتمبر الماضي، استعداد بلاده الدفاع بكل الوسائل المتاحة عن المناطق الأوكرانية التي ضمتها روسيا (لوغانسك، دونيتسك، زابوريجيا، خيرسون).
وبناء على تطورات الحرب على أوكرانيا، يكشف التلويح بالقدرات النووية عن حاجة روسيا إلى وضع حد للحرب، أو على الأقل تجميدها لفترة مؤقتة حتى تستطيع تجميع قدراتها، ووقف الهجمات المضادة للقوات الأوكرانية، بعد ثبوت عجز الجيش الروسي وفقدان فعاليته القتالية في مواجهة الجيش الأوكراني على الأرض، وتجنب انهيار ثالث في جبهة خيرسون، بعد نكستي إيزيوم وليمان.
واللافت أن خطاب بوتين يوم ضم المناطق (30 سبتمبر الماضي) بعث رسالة واضحة لوقف الحرب فوراً والتفاوض مع مراعاة الأوضاع الجديدة وهي ضم دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا.
ويبدو أن الكرملين كان مقتنعاً بأن التلويح بالخيار النووي يمكن أن يجبر زيلينسكي على بدء التفاوض وفق الشروط الروسية، ومن جهة أخرى يدفع الولايات المتحدة والبلدان الداعمة لأوكرانيا إلى وقف تزويدها بالأسلحة تجنباً للانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
وكشفت الردود التالية ووقائع الميدان أن خيار "الترهيب" لم ينجح، فأوكرانيا زادت من هجماتها في المناطق التي ضمتها روسيا، والغرب أعلن مواصلة دعمه لكييف واستمرار تزويدها بالأسلحة.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، عاد موضوع خطر الحرب النووية إلى الواجهة بقوة مرة أخرى بعدما هدأت المخاوف قليلاً إثر تصريحات روسية مطمئنة، وتأكيد وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عدم ملاحظة أي مؤشرات إلى إعداد روسيا لضربة نووية للأراضي الأوكرانية، على الرغم من الإشارة إلى أن المخاطر أعلى مما كانت عليه قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
وبدا أن زيلينسكي ووزير دفاعه أوليكسي ريزنيكوف صبّا الزيت على الجمر عمداً أو من دون قصد، والأسبوع الماضي دعا زيلينسكي حلف الأطلسي إلى تنفيذ ضربات وقائية ضد روسيا، من أجل استبعاد احتمال استخدام الأسلحة النووية من قبل القوات المسلحة الروسية.
وفسرت وسائل الإعلام الأوكرانية تصريحات زيلينسكي على أنها اقتراح باستخدام الأسلحة النووية ضد روسيا، على الرغم من أن التصريحات كانت واضحة وهي عدم جواز انتظار الضربات النووية للردّ، وعدم تكرار ما حدث قبل بداية الحرب في 24 فبراير، حين دعت أوكرانيا العالم إلى فرض عقوبات على بوتين وتوضيح ماذا ينتظره في حال شن الحرب.
واللافت أن تأويلات الإعلام الأوكراني تتعارض مع أقوال زيلينسكي في نفس المقابلة عبر الفيديو مع معهد "لوي" الأسترالي، في إنه لا يؤمن أن بوتين سيستخدم الأسلحة النووية، لذلك فإن دعوته لضربة استباقية تبدو، في سياق المقابلة بأكملها، خارج التسلسل المنطقي.
وأوضح المتحدث باسم زيلينسكي، سيرغي نيكيفوروف، عبر "فيسبوك"، الجمعة الماضي كلام الرئيس الأوكراني، بقوله: "لقد تماديتم قليلاً في الهستيريا النووية والآن تسمعون ضربات نووية حتى في مكان لا توجد فيه. الرئيس تكلم عن الفترة حتى 24 فبراير، حين كان ينبغي اتخاذ إجراءات وقائية لعدم السماح لروسيا بإشعال حرب. أذكر بأن الاجراءات الوحيدة التي كانت مطلوبة يومها هي العقوبات".
ومن غير المستبعد أن الجانب الأوكراني عمد إلى إعادة طرح الخطر النووي بعد الردّ البارد للأطلسي على توقيع زيلينسكي طلب الانضمام للحلف، رداً على ضم بوتين مناطق أوكرانية، وفي محاولة لتحفيز السياسيين الأميركيين والاتحاد الأوروبي على عدم خفض الدعم العسكري لأوكرانيا وربما طلباً لزيادة الدعم.
وفي مقابلة مع مجلة "فوربس"، وجّه وزير الدفاع ريزنيكوف رسائل متناقضة، ففي محاولة للتخفيف من قدرات روسيا النووية وبالتالي مخاوف الأوروبيين قال الوزير الأوكراني إن "شركاء أوكرانيا يجب ألا يخافوا من الأسلحة النووية الروسية".
وأضاف: "بالنسبة للحالة الفنية للأسلحة النووية الروسية، فقد انتهت قدرتها النووية بالكامل في عام 1997. ومتى كانت آخر مرة اختبروا فيها سلاحاً نووياً؟ في أواخر التسعينيات في كازاخستان".
وشكك في قدرة روسيا أيضاً على استخدام النووي متسائلاً: "أين سيطبقونه؟ على خط المواجهة لتدمير الأوكرانيين، ولكن أيضاً لتدمير وحداتهم الخاصة؟ البحر الأسود؟". وفي المقابلة ذاتها ريزنيكوف إلى أن "هناك ثلاث دول في الأطلسي يمكن أن تتأثر بأي ضربة نووية (تركيا، بلغاريا، رومانيا)".
من جهتها، لم تفوّت موسكو فرصة الرد على " تصريحات كييف النووية"، وحذر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الجمعة الماضي من خطورة تصريحات زيلينسكي.
وقال إن "تصريحات زيلينسكي ليست أكثر من دعوة لبدء حرب عالمية". واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا بأنهما "توجهان بحكم الأمر الواقع أنشطة كييف"، وبالتالي يجب محاسبتهما على تصريحات زيلينسكي.
أما نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الرئيس السابق دميتري ميدفيديف، وعلى الرغم من تلويحه أكثر من مرة باستخدام السلاح النووي للدفاع عن مصالح بلاده، فقد قال: "يجب على الأطباء النفسيين الحجر على هذا الأحمق (يقصد زيلينسكي) وقائياً". وقالت وزارة الخارجية الروسية إن "الغرب يؤجج حرباً نووية، زيلينسكي غير المتوازن تحول إلى وحش يمكن أن يدمر الكوكب".
بايدن يخشى النووي
والأسبوع الماضي أيضاً، اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن التهديدات الروسية باستخدام الأسلحة النووية في النزاع في أوكرانيا تُعرّض البشرية لخطر حرب "نهاية العالم" للمرّة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبيّة في حقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991). وأشار إلى أنه "يوجد للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية تهديد مباشر باستخدام أسلحة نووية إذا استمرت الأمور على المسار الذي تسير عليه الآن".
وشدّد بايدن على أن بوتين "لا يمزح عندما يتحدث عن استخدام محتمل لأسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة بيولوجية أو كيميائية، لأنّ جيشه ضعيف الأداء إلى حدّ كبير". وتابع "لا أعتقد أنّ هناك أي شيء مثل القدرة على (استخدام) سلاح نووي تكتيكي بسهولة من دون أن ينتهي الأمر بالتسبّب بهرمجدون (معركة نهاية العالم)".
ومساء الثلاثاء الماضي، أبدى بايدن اعتقاده في حديثٍ لمحطة "سي أن أن"، بأن بوتين لن يستخدم سلاحاً نووياً تكتيكياً في الحرب مع أوكرانيا. ورداً على سؤال من المذيع جيك تابر عما إذا كان يعتقد أن بوتين يمكنه في الواقع استخدام سلاح نووي تكتيكي، قال بايدن: "حسناً، لا أعتقد أنه سيفعل ذلك".
إذا استخدمت روسيا النووي فإنّ الغرب سيُسقط الخطوط الحمراء على تسليح الجيش الأوكراني
وكثيراً ما تتم المقارنة بين الأزمة الحالية وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، للتهويل من خطر احتمال إقدام روسيا على استخدام أسلحة نووية، إذا شعرت بالتهديد أو أنها قد تتعرض لهزيمة في أوكرانيا.
وتستند المقارنة إلى أن الغرب يشن حرباً بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، بتقديم دعم عسكري هائل للجيش الأوكراني، ظهرت نتائجه على الأرض بعد الهجوم المعاكس الذي بدأت به القوات الأوكرانية في سبتمبر الماضي.
وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى مواجهة بين روسيا والغرب في مرحلة ما، واستخدام بوتين أسلحة قد يكون من ضمنها النووي تجنباً للهزيمة. ويجب الإشارة إلى أن المسؤولين الروس حذروا في السنوات الماضية من أن استهداف أوكرانيا للبنى التحتية الروسية بصواريخ يمكن أن ينشرها حلف الأطلسي في جارته السوفييتية السابقة، سيدفع روسيا إلى الرد باستهداف "مراكز القرار" والدول الداعمة وعدم الاقتصار على ضرب الأراضي الأوكرانية.
وتبدو المقارنة بين أزمة أوكرانيا وأزمة الكاريبي صحيحة في جانب منها لإظهار خطورة الوضع، إلا أن العيب يكمن في عدم النظر إلى ما آلت إليه الأزمة؛ وعدم الأخذ بعين الاعتبار الخطوط الحمراء التي تضعها الدول الغربية لنفسها في دعمها العسكري لأوكرانيا.
كما أن موازين القوى العالمية والقوى التدميرية التي امتلكتها القوى النووية الكبرى في العقود الستة الماضية تجعل نتيجة أي حرب مدمرة على الجميع من دون استثناء.
وبدأت أزمة الصواريخ الكوبية في 14 أكتوبر 1962، بعدما اكتشفت طائرات تجسس أميركية بناء مواقع لمنصات صواريخ سوفييتية، وسفن سوفييتية تحمل صواريخ نووية متجهة إلى كوبا. وفرضت الولايات المتحدة حصاراً على كوبا لمنع وصول الصواريخ إليها، وبدأت محادثات دبلوماسية مع روسيا، انتهت بصفقة بين الجانبين بعد أن اقترح الزعيم السوفييتي آنذاك نيكيتا خروتشوف في 24 أكتوبر إزالة جميع الصواريخ من كوبا وإعادتها إلى الاتحاد السوفييتي إذا وافقت الإدارة الأميركية على فك الحصار عن كوبا، وإزالة صواريخ جوبيتر وتور الأميركية من تركيا.
ووافقت واشنطن على المطلب الثاني فقط، وفي 28 من الشهر ذاته وتنفيذاً لشروط الاتفاق، أُزيلت الصواريخ السوفييتية ووُضعت على السفن من أجل إرسالها إلى الاتحاد السوفييتي في الفترة ما بين 5 إلى 9 نوفمبر 1962، وانتهى الحظر البحري على كوبا بشكل رسمي يوم 20 نوفمبر من العام نفسه.
وبعد نحو أسبوعين حبس أثناءها العالم أنفاسه، اعتبر الاتحاد السوفييتي أنه انتصر بإزالة الصواريخ الأميركية من تركيا، بينما اعتبرت أميركا من جانبها أنها انتصرت بإفشال مخطط السوفييت لنشر صواريخ في كوبا.
بالعودة إلى الحالة الأوكرانية، حتى الآن تضبط الدول الغربية دعمها العسكري لأوكرانيا بعدم تقديم أسلحة لأوكرانيا يمكن أن تهدد العمق الروسي، والإبقاء على الحرب ضمن الحدود الأوكرانية.
وحتى الآن اقتصر الدعم الغربي على تقديم معلومات استخباراتية، وتزويد الجيش الأوكراني بصواريخ لا تطاول الأراضي الروسية، إضافة إلى وسائط الدفاع الجوي، والأسلحة المضادة للمدرعات، ووسائل الاتصال، ودعم أوكرانيا بدبابات ومركبات قتالية، وتدريب جنودها على استخدام هذه الأسلحة.
ولذلك من هذه الزاوية لا يمكن مقارنة الدعم العسكري لأوكرانيا بمحاولة الاتحاد السوفييتي نصب صواريخ نووية في كوبا على بعد 90 كيلومتراً فقط من الشواطئ الأميركية.
ومن المؤكد أن التهديدات الروسية يجب أن تؤخذ على محمل الجد، لأن التكوين الشخصي لبوتين قد يدفعه لاتخاذ قرار استخدام أسلحة نووية تكتيكية، لكن هذا القرار لا يخضع فقط لما يريده بوتين فالجنرالات الروس سيكون لهم رأي حاسم. ولا يضمن استخدام روسيا لأسلحة نووية تكتيكية عدم اتساع نطاق ردود الفعل الغربية، وعدم الانزلاق إلى حرب نووية لن تسلم منها روسيا.
وعلى الرغم من أنه ليس مرجحاً أن يكون هناك ردّ نووي غربي، ولكن المؤكد أن الغرب سيسقط الخطوط الحمراء على تسليح الجيش الأوكراني بأسلحة تقليدية أكثر تطوراً وقوة تدميرية وأبعد مدى، ومن الاحتمالات أيضاً أن يقوم حلف الأطلسي بعمليات خاطفة، على سبيل المثال تدمير أسطول البحر الأسود الروسي.
بمتابعة للتطورات منذ بداية الغزو والانتكاسات الأخيرة يبدو أن الهدف من تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي يكمن في إقناع الغرب بعقد صفقة معه لإنهاء الحرب في أوكرانيا مع مراعاة الشروط التي وضعها.
ولكن خطوة ضم الأراضي الاوكرانية أغلقت باب المفاوضات مع أوكرانيا، وهنا فالأرجح أن إثارة موضوع النووي يهدف إلى استحضار تجربة حل أزمة الكاريبي.
مع العلم أن سياسيين غربيين طالبوا بتوفير مخرج مشرف لبوتين من الحرب، وحذروا من إلحاق هزيمة مذلة بروسيا في أوكرانيا، من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر.
وتشي تصريحات المسؤولين الأميركيين بأن واشنطن لا ترى خطراً حقيقياً يحاكي ما كانت عليه الأوضاع أثناء أزمة الكاريبي، وأن الإدارة الأميركية لا ترى مؤشرات لمواجهة نووية مباشرة مع روسيا، وتنطلق من أن أوكرانيا ليست كوبا جديدة، وتتجاهل محاولات اصطناع "أزمة صواريخ جديدة"، لإدراكها أن بوتين لن يستخدم السلاح النووي لكنه يلوح به لأنه في موقف حرج للغاية ويبحث عن إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن بعدما طالت كثيراً.
بوتين في مأزق
في المقابل، فإن الحرب على أوكرانيا قطعت كثيراً من قنوات الاتصال الروسية مع الولايات المتحدة، ومن الصعوبة أن تفتح من جديد في ظروف المواجهة الحادة. ويجب الإشارة إلى أن العامل الحاسم في حل أزمة الكاريبي كان عبر استخدام قنوات سرية شارك فيها روبرت الشقيق الأصغر للرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وتبعها لاحقاً اتصالات على صعيد اجهزة الاستخبارات والدبلوماسيين.
ومن الواضح أن هذه القنوات والظروف غير متوفرة حالياً بعد موجات طرد الدبلوماسيين وتردي العلاقات إلى أدنى مستوى منذ انتهاء الحرب الباردة.
الحرب ستنتهي بصفقة على طاولة المفاوضات، ولكن تنازل بوتين يعني إبعاده عن المشهد السياسي
لا يرفض الغرب مساعدة بوتين في "الهبوط عن الشجرة" في المبدأ، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم تقديم بوتين ضمانات بوقف طموحاته الجيوسياسية التي تهدد أمن واستقرار الاتحاد الأوروبي، وبتقدير غالبية قادة دول الغرب هذا غير ممكن إلا بانكسار شوكة الآلة العسكرية الروسية في أوكرانيا من جهة، وعزل روسيا، وإضعافها اقتصادياً قدر الإمكان، من جهة أخرى.
ومن المؤكد أن الحرب ستنتهي بصفقة على طاولة المفاوضات، ولكن تنازل بوتين عن شروطه يعني اضعافه وإبعاده عن المشهد السياسي، تماماً كما حدث مع خروتشوف بعد أزمة الصواريخ الكوبية، وربما يكون المخرج "غير المذل" لبوتين هو الاتفاق على ألا يرشح نفسه في انتخابات 2024، ولكن سيناريو إبعاده سيكون مرجحا إذا ثقلت فاتورة الحرب على أوكرانيا.
قبل 60 عاماً فتحت أزمة الكاريبي المجال أمام توقيع اتفاقية حظر التجارب النووية عام 1963، ولكن خروتشوف دفع ثمن فشل تنفيذ مخططه في نشر الصواريخ الكوبية، والسؤال اليوم ما هو مصير بوتين الذي احتفل قبل أيام بعيد ميلاده السبعين قضى منها 23 عاماً في الحكم يبدو أن أحلكها ظلمة لم يأت بعد.