على مدار الأشهر التسعة الماضية، نجح "التيار الصدري" بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر، في تحقيق اختراق واضح داخل مفاصل مهمة في المؤسسات الحكومية والأمنية العراقية، من خلال تسمية شخصيات تابعة له أو قريبة منه في هذه المؤسسات، على حساب إزاحة أسماء أخرى محسوبة على حزب "الدعوة الإسلامية" وزعيمه نوري المالكي. وهو ما يراه مسؤولون وسياسيون عراقيون في بغداد، مندرجاً ضمن حرب غير معلنة مستمرة منذ أشهر من قبل الصدريين على غريمهم السياسي نوري المالكي، لتفكيك ما يُطلق عليه "دولة المالكي العميقة"، على الرغم من أنّ الأخير نفى في أكثر من مناسبة تهمة امتلاكه دولة عميقة في مؤسسات الدولة، معتبراً أنها محاولة للإساءة إليه. ويعتبر مراقبون التراشق وعودة الاحتقان بين الصدريين ومعسكر المالكي (ائتلاف دولة القانون)، غير متعلق بسباق الانتخابات المقبلة فحسب، بل أيضاً في حراك الصدريين لإقصاء المحسوبين على المالكي وفريقه من المناصب المهمة.
وعلى الرغم من أنّ التفاهم السياسي الذي ولدت على إثره حكومة مصطفى الكاظمي، مطلع مايو/أيار الماضي، بكونها حكومة انتقالية مهمتها إجراء الانتخابات والتعامل مع الأزمتين المالية والصحية، اللتين ما زالتا تعصفان بالبلاد مخلّفتين خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، إلا أنّ التغييرات في المناصب الحكومية ضمن ما يعرف في العراق بـ"الدرجات الخاصة"، مثل وكلاء الوزراء، ورؤساء الهيئات والمديرين العامين، والمستشارين، ورؤساء الجامعات، والسفراء، وصولاً إلى قادة الفرق والوحدات الأمنية والعسكرية في وزارتي الدفاع والداخلية والأمن الوطني والمخابرات والاستخبارات، بلغ عددها العشرات خلال الأشهر الماضية. بعض من تم تغييرهم أحيلوا للتحقيق بتهم تتعلق بالفساد، وآخرون للتقاعد بسبب السن القانوني، فيما نُقل قسم آخر لمناصب جديدة ضمن مفاصل حكومية أقل أهمية.
كثير من المناصب التي طاولها التغيير باتت فعلياً بيد شخصيات تتبع التيار الصدري
في السياق، تحدث نائب عراقي ضمن تحالف "النصر"، الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، لـ"العربي الجديد"، عن "عمليات إقالة ونقل أو إحالة إلى التقاعد، وكذلك الإحالة إلى القضاء بتهم الفساد، بحق شخصيات محسوبة على المالكي خلال الأشهر الماضية، تشغل مناصبها منذ سنوات وبعضها منذ عام 2007، إذ تسلمت المناصب إبان حكومة المالكي الأولى".
ولفت النائب الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أنّ "التغييرات الأخيرة في مكتب القائد العام للقوات المسلحة ومكتب رئيس الوزراء والأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهيئة الإعلام والاتصالات، والبنك المركزي، وشبكة الإعلام العراقي، وكذلك هيئة الاستثمار ووكالة الاستخبارات بوزارة الداخلية (خلية الصقور)، واللواء الخاص بحماية المنطقة الخضراء، ووكالة وزارة الداخلية، فضلاً عن التغييرات في بعض القيادات الأمنية عقب التفجيرين في منطقة الباب الشرقي الشهر الماضي، خلقت توتراً بين المالكي والكاظمي". وأوضح أنّ "كثيراً ممن تمت تسميتهم في إطار التغييرات الجديدة، كبدلاء عن السابقين، هم إمّا صدريون أو قريبون من طروحاتهم، أو متنافرون حزبياً مع نوري المالكي".
وقال المتحدث نفسه إنّ "الكاظمي واقع تحت تأثير مقتدى الصدر، وبدا متجاوباً مع كثير من شروطه ومطالباته في الفترة الأخيرة، ولعل الصمت الحكومي على الاستعراض الأخير لاتباع الصدر، وقبل ذلك هجومهم على متظاهري الناصرية (ما تسبب بمقتل وجرح العشرات منهم)، يؤكد ذلك". ولفت إلى أنّ "كثيراً من المناصب التي طاولها التغيير باتت فعلياً بيد شخصيات تتبع التيار الصدري، أو أنها مرضي عنها من قبل مقتدى الصدر"، مشيراً إلى أنّ "عدداً من التغييرات الأخيرة في المناصب الأمنية تمت بدفع أو ضغط من الصدر على حكومة الكاظمي، وهو ما بات يزعج أيضا معسكر الفصائل الولائية (الموالية لإيران)، وتحديداً الأمين العام لمنظمة بدر، هادي العامري وزعيم مليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي".
وكان المالكي قد ردّ في لقاء سابق مع تلفزيون "آسيا" المحلي، على الاتهامات التي تلاحقه بتأسيس "دولة عميقة" في العراق، بوصف هذه الاتهامات بأنها "وهم". وأضاف أنّ "بعض القوى والشخصيات السياسية، تروّج لذلك من أجل الإساءة، ويختلقون أموراً مثل مسألة الدولة العميقة". وتابع: "لم نعمل لأن تكون لنا دولة عميقة ولا أملك دولة عميقة ولا يوجد شيء اسمه دولة عميقة".
حقي: الدولة العميقة تتمثّل بالنفوذ الإيراني، وما تفرضه طهران من قرارات
من جهته، أثار السياسي العراقي، إبراهيم الصميدعي، وهو أحد المرشحين السابقين للانتخابات البرلمانية، ملف الاشتباك السياسي الأخير بين الصدريين والمالكي، بالقول في حديث صحافي إنّ "الصدريين يسعون لتشكيل دولة عميقة لهم، وهم يستفيدون من كونهم الكتلة الكبرى في البرلمان". وتحدث عن أنّ "الصراع بين الطرفين يمتد لسنوات ماضية".
لكن عضو التيار المدني، أحمد حقي، يرى أن الحديث عما يجري بوصفه محاولة لتفكيك دولة عميقة تتبع المالكي وتأسيس أخرى تتبع الصدريين، "كلام غير دقيق"، معتبراً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الدولة العميقة تتمثّل بالنفوذ الإيراني، وما تفرضه طهران من قرارات بشأن الملفات الحساسة في البلاد، والنافذة على القوى الحاكمة. أمّا الصراع الحالي، فهو تنافس على المناصب الحزبية لمطامع مالية وأخرى تتعلق بالنفوذ والحسابات ذات الطابع الشخصي بين الزعامات السياسية لا أكثر".
وأضاف حقي أنّ "الكاظمي يسعى للحصول على دعم الصدر في الوقت الحالي، ويحرص على عدم الدخول بأي مواجهة سياسية معه، وهو ما يفسر جملة مواقف ليّنة من الحكومة تجاه انتهاكات اتباع الصدر ضدّ المتظاهرين على سبيل المثال. لذا، فإنّ مسألة استمرار حصول مقربين أو محسوبين على التيار الصدري على المناصب أمر طبيعي في ظلّ هذه المعادلة الحكومية الحالية".
الكاظمي ضعيف تجاه مشروع الدولة العميقة، لأنه لا يمتلك حزباً أو جهة سياسية
بدوره، قال عضو البرلمان العراقي عن الدورة السابقة، رزاق الحيدري، إنّ "القوى السياسية بمختلف توجهاتها، تسعى إلى الهيمنة على المفاصل المهمة في الدولة، وتتنافس على ذلك". وأوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "المتتبع للوضع العراقي، يرى بشكل واضح معنى الدولة العميقة، وما حدث من تغييرات في مفاصل مهمة بالدولة كان حزبياً فئوياً، ولم تغلب عليه مسألة المهنية، ولم يتم تبني مفهوم الدولة الخادمة أو الحكومة الخادمة". وأضاف أنّ "موقف رئيس الوزراء الحالي ضعيف تجاه مشروع الدولة العميقة، لأنه لا يمتلك حزباً أو جهة سياسية، لذا يكون مضطراً للسكوت عن محاولات بعض الجهات إعادة تشكيل الدولة العميقة، أو الهيمنة بطرق غير قانونية على مفاصل مهمة في الدولة".
وتابع الحيدري: "كل الجهات السياسية مهتمة بقضية الدولة العميقة، لأنها تريد الوصول إلى مفاصل الدولة، التي فيها نفوذ وأموال، لكن تحالف سائرون (التابع للتيار الصدري) له اليد الطولى في ذلك، لأنّ وجوده في البرلمان قوي، ولديه حركة مساندة في الشارع".
وفي الإطار ذاته، قال الخبير في الشأن العراقي، محمد التميمي، إنّ "الصراع على تفكيك بنيان المالكي في المؤسسات بدأ بعد وصول حميد الغزي، المحسوب على التيار الصدري، إلى منصب الأمين العام لمجلس الوزراء عام 2019، والذي تولى فعلياً مهمة تفكيك الكثير من مراكز قوة حزب الدعوة في الدولة العراقية بطرق مختلفة وتدريجية". وأضاف التميمي في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "قبل هذه الفترة، كان لخسارة حزب الدعوة منصب رئاسة الحكومة بعد حيدر العبادي، عقب احتكار للمنصب دام نحو 14 عاماً، وتولي عادل عبد المهدي القادم من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عام 2018 المنصب، أثر واضح أيضاً، إذ إنّ الأخير ساهم بوصول شخصيات محسوبة على فصائل مسلحة وأخرى ضمن المجلس الأعلى، بشكل سمح لاحقاً بإجراء تغييرات عديدة في مناصب أخرى خلال حكومة الكاظمي الحالية". وأيّد التميمي في الوقت نفسه الرأي الذي يقول إنّ "الصراع الحالي هو سباق للاستحواذ على المناصب في إطار المحاصصة الحزبية"، مشيراً إلى أنّ "الدولة العميقة في العراق مرتبطة فعلياً بالهيمنة الإيرانية على القرار السياسي والأمني العراقي، وليس بأي حزب أو كتلة أخرى".