أكبر ضربة تلقتها إسرائيل منذ تأسيسها. هذا هو الاستنتاج الذي أجمع عليه الإسرائيليون في كافة المواقع، وعلى جميع المستويات. وعلى حد تعبير الصحافي الإسرائيلي المخضرم، كاتب العمود في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم بارنيع أنّ "هذا أسوأ يوم أستطيع أن أتذكره من الناحية العسكرية في تاريخ إسرائيل، بما في ذلك الخطأ الفادح في يوم حرب كيبور (حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973)، التي كانت فظيعة".
ما جرى وضع دولة إسرائيل أمام حدث وجودي، والمجتمع الإسرائيلي في خطر حقيقي، في ظل صدمة عميقة وارتباك وتخبط عام حيال الوقوف بوجه تطورات المرحلة الصعبة، وتداعياتها اللاحقة المتوسطة المدى. 50 سنة على فشل المخابرات الإسرائيلية في حرب أكتوبر 1973، والذي قام حسب الرئيس المصري الراحل أنور السادات على ما سماه بـ"الخداع الاستراتيجي"، وهو الخطة التي وضعها قبل أكثر من عام من المعركة، وتقوم على سلسلة من الإجراءات للتمويه وعمليات الاستعداد وتضليل العدو. السؤال الذي لم يجد إجابة حتى الآن هو كيف تمكّن مقاتلو "حماس" عسكرياً من اقتحام الحدود في وقت تعيش إسرائيل على الأمن، وتصدر أدواته إلى الخارج، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا.
حجم الهجوم
حجم الهجوم كبير، ولم يكن من الصعب ملاحظة التحضيرات، وحصل من خلال إحداث 7 فتحات في الجدار العازل الذي يبلغ طوله حوالي 60 كيلومتراً، وهناك أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة مزودة بأجهزة رصد مربوطة بغرف عمليات محلية ومركزية في وزارتي الدفاع والداخلية والأركان، بالإضافة إلى طائرات من دون طيار وعملاء وجواسيس يرسلون تقارير من داخل قطاع غزة.
البعض يقول إن الهجوم حصل في يوم عيد ديني مثله مثل هجوم عام 1973، وتنسحب عليه نفس أسباب الفشل والنجاح. وهذا صحيح، ولكن الهجوم ليس وليد اللحظة، بل تم تحضيره جيداً، وجرى حساب احتمالات كثيرة بما في ذلك الفشل، ورد إسرائيل سريعاً عن طريق عملية واسعة.
الواضح حتى الآن هو أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي تطورتا عسكرياً وأمنياً بشكل كبير
ما هو متداول ويتردد على كل لسان في إسرائيل وخارجها، ينسب نجاح عملية الاقتحام إلى فشل للمخابرات الداخلية، ومخابرات الجيش، التي كانت ترى الخطر من الخلايا في الضفة الغربية المحتلة، ولذا جرى نقل وحدات الجيش الأساسية إلى هناك، حتى أنه في صباح الهجوم، السبت الماضي، لم يكن هناك العدد الكافي من جنود الجيش للتعامل معه، ولكن القتال تواصل على مدى 48 ساعة داخل المستوطنات الحدودية وبعض قواعد الجيش، واستمرت عمليات أسر الجنود ونقلهم إلى غزة.
التفسير الذي يتداوله بعض المحللين هو حصول انهيار لجبهة غزة، والسبب الرئيسي هو عامل المباغتة، وقوة الضربة الأولى التي أربكت المسؤولين، مثلما حصل في أكتوبر 1973، وبعض الإسرائيليين يلقي قسطاً من المسؤولية على الأجهزة الأميركية. ويرى هؤلاء أن التعاون الأمني الإسرائيلي الأميركي لم يكن على درجة جيدة، ثم أن الأجهزة الأميركية مشغولة بحرب أوكرانيا.
الواضح حتى الآن هو أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي تطورتا عسكرياً وأمنياً بشكل كبير، وتعكس العملية قدرات عالية في التدريب، الاستخبارات، السرية والتكتم الشديد، والتخطيط للعملية الكبيرة والمعقدة، التي جرى التحضير لها لمدة زمنية طويلة، على مدى عامين على الأقل.
يبدو عامل السرية كبيراً جداً في التحضير وتحديد ساعة الصفر، وهناك معلومات تقول إنّ مجموعة صغيرة جداً من قيادتي "حماس" و"الجهاد"، كانت على اطلاع على الخطوط العريضة، وبقيت كافة تفاصيل العملية سرّية بين عدة أفراد من القيادات الميدانية، التي حددت ساعة الصفر.
في هذا الوقت نامت إسرائيل على معادلات شبه جاهزة عن غزة، ولم يكن في حسابها إمكانية تشكيلها تهديداً كبيراً في أي لحظة، طالما أنها تتحكم بها على صعيد حاجيات حياتها اليومية، مثل الكهرباء والوقود والمياه والمعابر والعمالة، وفي تقديرها أنّ حركة حماس غارقة في تفاصيل إدارة الوضع، غير أنها كانت تبني وضعاً موازياً، وتعمل وتخطط بصمت.
وثمة نظرية أخرى تقول إن إسرائيل ركزت في العامين الأخيرين على تهويد الضفة الغربية، ونقلت ثقلها العسكري والأمني والاستخباراتي إلى هناك، ولم يمر يوم منذ بداية العام الحالي من دون أن تقوم بعملية عسكرية، مثل اقتحام المسجد الأقصى والمخيمات والمدن وقتل وخطف الفلسطينيين، ولم تعد تولي اهتماماً كبيراً لجبهة غزة، التي لم تعد نشطة عسكرياً منذ آخر مواجهة كبيرة جرت في مايو/ أيار 2021.
تلك المواجهة كانت كبيرة وواسعة، حملت من جانب "حماس" اسم "سيف القدس"، ومن طرف إسرائيل "حارس الأسوار"، وكانت كافية لتشكل درساً بليغاً لجهة الأسلحة والتنظيم والتدريب والتناغم بين قوات "حماس" وجمهورها ما بين الضفة الغربية وغزة وفلسطين المحتلة عام 1948 التي شاركت فيها.
بدورها، كانت العمليات التي نفذتها "حماس" خلال العام الماضي في داخل إسرائيل لافتة جداً، وتنم عن جرأة كبيرة، وتخطيط ناجح، واستراتيجية عسكرية وسياسية، وليست عبارة عن عمليات عادية. لم تقرأ إسرائيل ذلك جيداً، ولم تفهم المؤشرات التي قدمت معطيات واضحة، عن إعادة تنظيم العمل المسلح داخل الضفة الغربية من قبل الفصائل كافة.
التوقيت المناسب لـ"حماس" و"الجهاد"
"حماس" و"الجهاد الإسلامي" اختارتا التوقيت وفرضتا الحرب على إسرائيل في لحظة يبدو أنها لم تكن مستعدة لها، واختارتا توقيتاً مناسباً جداً، في يوم الغفران الذي هو عيد ديني يسترخي فيه اليهود عدة أيام، ولكنه يوم مهم في الذاكرة الإسرائيلية، يرتبط بعبور قناة السويس وجبهة الجولان، ومن هنا له تأثير نفسي على إسرائيل كونه يذكرها بذلك اليوم، ثم إنّ الهجوم حصل في لحظة انقسام كبير في المجتمع الإسرائيلي منذ عدة أشهر شارك فيها الجيش بقوة، وهي تعود إلى سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الداخلية.
كشفت ردود الفعل العسكرية والسياسية على العملية، أن إسرائيل تعاني من حالة ارتباك كبيرة، وتبين أنها لا تملك خطة رد على الهجوم، وبدت بعد حوالي 48 ساعة على العمليات القتالية داخل المستوطنات وقواعد الجيش، أنها تريد فقط امتصاص نقمة الشارع من خلال إيقاع ضحايا بين الفلسطينيين بأضعاف أعداد القتلى والجرحى الإسرائيليين، وليس لديها سوى الخيار العسكري.
إسرائيل تعاني من حالة ارتباك كبيرة، وتبين أنها لا تملك خطة رد على الهجوم
ومن بين أسباب الارتباك صعوبة وتعقيد الخيار العسكري البري في غزة، وحتى لو حصل لن يذهب نحو أهداف قصوى رغم الإفراط بالقوة، ولن تتجاوز أهدافه سقف ما حصل في المرات السابقة من حروب، من قتل أكبر عدد من المدنيين، وتدمير البنية التحتية، كما حصل في حرب عام 2008، مما يعني أنه علاج وقتي لا أكثر، من أجل امتصاص نقمة الشارع الإسرائيلي، ورفع المعنويات.
ومنذ الساعات الأولى للعملية جرى التفكير في احتمال أن العملية لن تقف عند حدود غزة، وثمة من بين المحللين الأميركيين من رأى في العملية فخاً إيرانياً لاستدراج إسرائيل إلى حرب يدخل فيها "حزب الله" على الخط، وهذا ما عبر عنه أحد قادة الحزب، الذي اعتبر أن العملية البرية على غزة خط أحمر، وهنا احتمال مشاركة الفصائل الفلسطينية من لبنان.
أسباب انفجار الوضع
هناك إجماع عام على أن الضغوط الإسرائيلية هي التي أدت إلى انفجار الوضع على هذا النحو، بعد أن طوت صفحة مسار اتفاق أوسلو، محتفظة بما ينفعها منها فقط، وهو التنسيق الأمني، ورمت ما ينفع الفلسطينيين، لذلك انتهى دور السلطة الفلسطينية، بالنسبة لإسرائيل، بعد عملية غزة.
العملية لم تنه دور القيادة الفلسطينية بالنسبة لإسرائيل فقط، بل لغيرها من دول العالم، لأن من يملك الأوراق الفلسطينية هو الفصائل المقاتلة وليس السلطة، وانتقلت الشعبية في الشارع الفلسطيني منذ زمن بعيد للفصائل المقاتلة، وأساسها هو أن الراية معقودة لمن يواجه الاحتلال.
ومن هنا فإن التأثير النفسي للعملية على الفلسطينيين كبير جداً، لا سيما وأنها حصلت بعد أسبوع من التوتر في المسجد الأقصى والممارسات الإسرائيلية، وفي خضم حرب اجتياحات إسرائيلية متواصلة منذ بداية العام الحالي في الضفة الغربية، وسقوط أعداد كبيرة من الشباب الفلسطينيين في مواجهة الجنود والمستوطنين.
العملية تطرح قواعد اشتباك جديدة، على أساس أنّ القوة العسكرية الكلاسيكية وحدها لم تعد قادرة على ضمان أمن أي بلد، ولم تعد هي الحاسمة في تحديد اتجاه الحرب، ويمكن لحرب العصابات أن تؤدي دوراً مهماً في زعزعة دولة مدججة بالسلاح، وتكبيدها خسائر كبيرة، وفي وسع مجموعة صغيرة أن تفجر صراعاً أكبر، يمكن أن يتطور إلى نزاع واسع تشارك فيه أطراف دولية.
من المبكر التنبؤ بالتأثيرات السياسية لهذه المواجهة ولكنها ستترك تداعيات إقليمية ودولية، ستشمل الشرق الأوسط برمته، وتنعكس على علاقات إسرائيل الجديدة مع المنطقة، خصوصاً عملية التطبيع التي بدأت مع بعض الدول العربية، بل ستخفف من الاهتمام الأميركي والأوروبي بأوكرانيا وستنقله إلى الشرق الأوسط، وستزيد من الاستقطاب الأميركي الإيراني في الخليج وسورية.
الواضح أنّ أصدقاء إسرائيل لم ينصحوها من عواقب الاستمرار في مخططات الاستيطان والتهويد والقتل، رغم الانتقادات أحياناً، وبدلاً من أن تقدم الولايات المتحدة مبادرة سياسية للحل، أرسلت حاملة الطائرات "جيرالد فورد" إلى إسرائيل، مما يعني المزيد من التصعيد في المدى المنظور.