قبل 10 سنوات من اليوم، عمد الشاب التونسي محمد البوعزيزي، إلى إحراق نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد التي يقطن فيها غضباً من إحراق العربة التي يعتاش منها وتعرضه للإهانة بعد صفعه من قبل شرطية. يومها، لم يكن أحد يتخيل أن هذه الحادثة ستكون شرارة لاحتجاجات تعم الولاية قبل أن تتحوّل إلى ثورة شعبية عارمة في تونس تطيح بالرئيس زين العابدين بن علي، وتتمدد إلى أكثر من دولة عربية بدت كقطع الدومينو التي تشتعل الواحدة تلو الأخرى بالاحتجاجات والثورات، من مصر إلى اليمن وليبيا وسورية، بعدما فاضت قدرة شعوب هذه الدول على تحمّل ظلم الحكام، وكان لكل منها "البوعزيزي" الخاص بها.
منذ ذلك التاريخ أي 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، تغيّر وجه المنطقة على نحو جذري، بعدما فرضت الثورات، والتي إن اتخذ كل منها مساراً مغايراً وتحوّل بعضها إلى العنف والصراع المسلح، تحوّلات مستمرة بمفاعيلها حتى اليوم، وسط محاولات لم تنطفئ لإخماد الثورات ومفاعيلها منعاً لتكرار ما حققته في سنوات قليلة من إنهاء حكم أبرز الرؤساء الذين حكموا بلادهم لعقود طويلة.
وأطاحت الثورات الرئيس التونسي زين العابدين بن علي (هرب إلى السعودية في 14 يناير/كانون الثاني 2011 وتوفي فيها في 19 سبتمبر/أيلول 2019)، والرئيس المصري محمد حسني مبارك (تنحى في 11 فبراير/شباط 2011، وتوفي في 25 فبراير/شباط 2020)، والزعيم الليبي معمر القذافي الذي قتل في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، بينما قاوم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح لمدة عام كامل قبل أن يتنازل عن الحكم بموجب المبادرة الخليجية في 27 فبراير/شباط 2012 ثم ليقتل على أيدي الحوثيين في 4 ديسمبر/كانون الأول 2017 بعد أن تحالف معهم للانقلاب على الدولة ومهد الطريق أمامهم للسيطرة على اليمن والتسبب في حرب مدمرة يدفع ثمنها اليمنيون إلى اليوم، في حين لا يزال بشار الأسد في السلطة.
واستفادت النخب الحاكمة في البلدان التي شهدت الموجة الأولى من الثورات من تشتت القوى الفاعلة على الأرض وعدم وضوح الرؤى لديها وطرح البرامج وإدراكها لكيفية إدارة الصراع مع السلطات، فاستطاعت إجهاض التغيير الشامل وإفراغه من مضمونه والانقلاب على المكتسبات عبر تحويل بلدانها إلى ساحات للقمع والتدمير والقتل والحروب الأهلية والغرق في أزمات اقتصادية واجتماعية. لكن الموجة الثانية من الانتفاضات، التي شملت السودان والجزائر والعراق، ونسبياً لبنان، أثبتت فشل جميع مساعي سحق محاولات التغيير الديمقراطي المدني من جهة، وقدرة الشعوب على التعلم جزئياً من أخطاء الموجة الأولى عبر رفع درجة تنظيم قوى الحراك لنفسها والانفتاح على عدم رفض الدخول في مفاوضات مع النخب المهيمنة على الحكم من أجل تحقيق التحوّل الديمقراطي ولو تدريجياً، من جهة أخرى.
وإذا كانت محاولة تقييم عقد من الربيع العربي تبدو جائرة ومتسرعة بالنسبة للبعض، لأن عشر سنوات غير كافية لحكم منصف على مسار الثورات، إلا أن ذلك لا يمنع من التوقف لطرح الأسئلة حول وضع بلدان الربيع العربي في ما يتعلق بالتحوّل الديمقراطي وما تحقق بعد هذه المدة وما ثبت العجز عن تبديله؟ وما هي الأسباب التي كانت وراء تعثر التغيير على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إذ لا تزال مطالب عدة غير محققة، وتتجسد جميعها في أبرز شعارات الثورات العربية "عيش... حرية... عدالة اجتماعية". وسواء شملت الأسباب دور النظم الحاكمة والثورات المضادة، الذي لا يمكن تجاوزه، أو الدور الخارجي الذي أدته بعض الدول، أو الإخفاقات التي واكبت أداء القوى المؤيدة للتغيير في بعض البلدان. ولماذا نجحت تجارب البعض وتعثر البعض الآخر؟ وما هي الدروس المستفادة لا سيما في ما يتعلق بدور الحركات المهنية والعمالية في إنجاح وتحصين الثورات العربية؟ وكيف يؤثر موقف الجيش الوطني على مسار الحياد سواء عندما يختار الوقوف على الحياد أو التدخل؟
تتباين التجارب والمسارات في البلدان العربية التي شهدت ثورات
ويكشف الواقع الحالي في البلدان العربية تباين التجارب والمسارات والمصير. مع ذلك يوجد إجماع على أن تونس هي الوحيدة من بين بلدان الربيع العربي في موجته الأولى التي استطاعت الصمود والبناء على المكتسبات التي تحققت منذ سقوط زين العابدين بن علي، مستفيدة من عوامل عدة، خصوصاً في ما يتعلق بالتوازنات السياسية التي رست منذ الثورة، من دون أن يكون الخطر بعيداً عنها في ظل ما تشهده أخيراً من تحريض على الانقلاب على المؤسسات الدستورية واستدعاء الجيش للتدخل.
لكن الوضع ليس نفسه في سورية التي استطاع بشار الأسد تحويلها إلى بلد مدمر وساحة مفتوحة للقتل اليومي، وتشريد وتهجير الملايين من سكانها، من دون أن يتردد في التنازل عن سيادة البلاد لقوى خارجية، في مقدمتها روسيا وإيران، اللتين أغرقتا البلد بالمليشيات واستطاعتا قلب المعادلة العسكرية على مدى السنوات الماضية لصالح النظام. وحدث ذلك وسط استفادة قصوى من تشتت المعارضة وارتهانها للخارج ومن ثم عسكرة الثورة وفوضى السلاح بين الفصائل، فضلاً عن بروز الجماعات المتشددة التي كانت إلى جانب النظام العائق الأكبر أمام استكمال الثورة.
أما في ليبيا، فتشارف الثورة على دخول عامها العاشر، من دون أن تحقق لليبيين ما كانوا يصبون إليه إبان انتفاضتهم على نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. فاليوم بات قرارهم بيد أطراف خارجية تؤثر في مفاصل البلاد المنقسمة بين حكومتين وبرلمانين، وبعثة أممية تسيطر على مشاهد البحث عن الحلول من دون أن تتمكن جهودها حتى الآن من لملمة شتات هذه السنين، عبر عدة مسارات ما تزال تسير في حقول من ألغام الأزمة المتراكمة، وقعقعة سلاح يسمع صوتها في أرجاء البلاد، بعد أن صمت وتراجع همُّ حدود طرابلس الجنوبية، من دون أن يكون الليبيون قادرين على تقييم موضوعي لأسباب تعثر ثورتهم بعيداً عن حالة الاصطفاف المهيمنة.
وفي اليمن، تعرضت ثورة الشباب السلمية لعدد من الإرهاصات التي أدت إلى فشلها في تحقيق الأهداف التي رفعتها عشية 11 فبراير/شباط 2011. ومع تفتت مؤسسات الدولة خلال الحرب وتشرذم اليمن بشكل عام بين جماعات مسلحة والدور السلبي للقوات المسلحة والانقسام الذي ضربها منذ الأيام الأولى لتشكل ساحات الثورة، باتت الانتفاضة الشعبية مجرد ذكرى وشعارات صعبة التحقيق. وتقف الثورة في قفص الاتهام بأنها السبب في ما آلت إليه الأوضاع داخل البلاد من حرب مدمرة وخلق واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم، كونها أتاحت لجماعة "أنصار الله" (الحوثيين) الظهور إلى العلن للمرة الأولى، وذلك عندما انخرطت في صفوفها للمطالبة بإسقاط نظام علي عبدالله صالح، لتسيطر الجماعة على أجزاء واسعة من محافظة صعدة عام 2011، قبل أن تتحالف مع صالح في العام 2014 لإسقاط صنعاء وعدد من المحافظات.
أما في مصر، فالمتأمل لحال البلاد بعد عشر سنوات من الثورة، قد يرى أن الوضع أصبح أسوأ مما كان عليه قبل الثورة عندما خرج المتظاهرون إلى ميدان التحرير وانتشروا في ميادين أخرى بمصر في أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني، رافعين شعار "عيش... حرية... عدالة اجتماعية" ومطالبين بتحقيقه.
بالأساس قامت الثورة ضد وحشية الشرطة التي تجسدت أبشع صورها في جريمة قتل الشاب خالد سعيد تعذيباً على يد أفراد من الشرطة في الإسكندرية، ولحقت بذلك أمور اجتماعية أخرى. وبالفعل فإنه بعد سقوط حسني مبارك، تراجعت الشرطة لفترة عن ممارساتها القديمة وخصوصاً بعد الهجمات المتعددة على أقسام الشرطة، وحالة الغضب الشعبي الواسعة منها.
لكن سقوط رأس النظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وتنحيه عن الحكم في 11 فبراير/شباط 2011، لم يشمل نظام حكمه بالكامل، إذ إن إعلان نائب الرئيس المخلوع عمر سليمان عن تخلي مبارك عن منصبه وأنه كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة محمد حسين طنطاوي بإدارة شؤون البلاد، فتح الباب من جديد لعودة النظام القديم تدريجياً.
حاول المجلس العسكري بعد تسلمه الحكم بكل الوسائل أن يقضي على ثورة يناير، وذلك بالتعاون مع ذيول النظام السابق، وقنوات رجال الأعمال ممن لهم مصالح مع النظام، إضافة إلى إعلام السلطة، وبدأت حملة تشويه واسعة للثورة بكل الطرق. بالإضافة إلى ذلك وعن طريق زرع الفتنة بين الشعب والقوى السياسية المختلفة، شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة بين شباب الثورة الذين امتلأت بهم السجون بتهم مختلفة، وتم التنكيل بهم وإهانتهم، وكأنهم يعاقبون على هتاف "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
على الرغم من ذلك نجحت ميادين الثورة في إفشال خطة المجلس العسكري لوضع رئيس عسكري منتم للنظام السابق وهو الفريق أحمد شفيق، وأتت الميادين بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر وهو الرئيس الراحل محمد مرسي. لم يرقْ للعسكر انتخاب رئيس مدني من خارج المؤسسة العسكرية، فأخذوا على عاتقهم الاستمرار في خطة إفشال الثورة بمساعدة حلفاء لهم في الخليج، التي رأت في خلع مبارك خطراً وجودياً يهدد نظامها.
عملت ما تسمى بـ"الدولة العميقة" على إفشال حكم الرئيس المنتخب بشتى الطرق ولم يمر عام على حكم الرئيس محمد مرسي حتى اتخذ القرار بالانقلاب عليه من قبل وزير الدفاع آنذاك الفريق أول عبد الفتاح السيسي. وفي الثالث من يوليو/ تموز 2013 أعلن الانقلاب عزل الرئيس مرسي وتنصيب رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً للبلاد حتى انتخاب السيسي.
وبعد نحو سبع سنوات من حكم السيسي سجلت مصر أعلى معدل عالمي في حالات الإعدام التي تنفذ ضد معارضي النظام، وأصبحت سياسة الإعدام هي الحاكمة لكل شيء في مصر بداية من الإنسان وحقوقه، وصولاً إلى إعدام السياسة نفسها، فيما زج بالآلاف في السجون فأصبحت الصورة كالتالي: "ثورة فانقلاب فوضع أسوأ مما كان قبل الثورة".
قواسم مشتركة
يرى مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (فرع تونس)، الوزير السابق مهدي مبروك، في حديث لـ"العربي الجديد"، وجود قواسم مشتركة عدة بين الثورات العربية، لعل أهمها طموحات الناس وتحديداً فئات الشباب والطبقات الوسطى في الحرية والكرامة، بما ينهي حالة الاستبداد التي تعود إلى عقود بدأت في بعض البلدان مع دولة الاستقلال. ويشير إلى أنّ الأجيال الشابة لم تدرك في طفولتها مجد الاستقلال ولا نير الاستعمار، ولذلك لم ترضَ بالعيش على سردية التحرر الوطني فحسب، بل إنّها تتطلع إلى الحرية والكرامة. وبرأيه، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تفتح نوافذ على قيم ملحّة لم يعد من الممكن منع جاذبيتها، ومنها الحرية في معانيها المتعددة: حريات سياسية، حريات شخصية، حريات ثقافية، فضلاً عن قيمة الكرامة: كرامة الجسد، كرامة الذات البشرية، كرامة المواطنة.
وعلى الرغم من أهمية هذه القواسم المشتركة، فإن مآلات التجارب الثورية كانت مختلفة من بلد إلى آخر. ويلفت مبروك إلى أنه يمكن عموماً رصد ثلاثة مآلات: أولاً هناك بلدان مضت خطوات مهمة في ترسيخ انتقالها نحو الديمقراطية، وإن كان بارتباك عسير ناجم عن إخفاقات النخب الحاكمة (والمعارضة)، فضلاً عن ثقل الميراث. وربما شكّلت تونس النموذج الوحيد. ثانياً، هناك بلدان ارتدّت ثوراتها إلى حرب أهلية على غرار ليبيا وسورية واليمن. ثالثاً، هناك بلدان تمكّنت فيها الثورة المضادة من الارتداد والانتكاس. وبرأيه تمثّل مصر الحالة النموذجية لهذا المآل، إذ تمكنت طغمة عسكرية حاكمة من سحق أي شكل من أشكال المعارضة سواء كانت يسارية أو عروبية أو ليبرالية، بعدما عمد النظام إلى التنكيل بالجميع بمن في ذلك جماعة "الإخوان المسلمين" والناشطون والسياسيون.
ويُرجع مبروك هذه المآلات إلى أربعة أسباب. أولها يعود إلى التراث النضالي للنخب الحقوقية والعمومية، وما راكمته من مكاسب وقدرة على بناء التوافقات والتحالفات (المجتمع المدني، الظاهرة الحزبية حتى ولو كانت صورية، الدستور...). أما السبب الثاني، فمرده إلى طبيعة النخب التي وصلت إلى الحكم وقدرتها على بناء صفقات تاريخية مع خصومها وإبداء مرونة لازمة للتفاوض خصوصاً أثناء الأزمات، مع أهمية تفتت البنى التقليدية (العرش، القبيلة) أو صلابتها. ويرتبط السبب الثالث بطبيعة النخب العسكرية وعقيدة الجيش وأدواره ومكانته من البناء السياسي للدولة الوطنية، في حين أن السبب الرابع يرجع إلى نوعية الارتباطات الإقليمية والدولية بين النخب الحاكمة والحلفاء و"الخصوم".
الأنظمة التي كانت معادية للثورات رسمت استراتيجيات عدة، أهمها الضغط الاقتصادي والتشويه الإعلامي
ووفقاً لمبروك، فإن الأنظمة التي كانت معادية للثورات العربية وسعت إلى إجهاض التجربة رسمت استراتيجيات عدة متحوّلة، لعل أهمها الضغط الاقتصادي من خلال سحب الاستثمارات، ورفض تقديم المساعدات، والتشويه الإعلامي من خلال آلة إعلامية ترذل الثورة وتصورها كارثة ووبالاً. ويضاف إلى ذلك تحريك بيادق سياسية تحرض على الثورة وتتربص بمن كان وراءها، وصناعة الحنين إلى الاستبداد، وبرز ذلك على نحو خاص بـ"التدخل العسكري السافر في الثورة الليبية من خلال تسليح خليفة حفتر والمرتزقة الذين تمولهم بعض القوى الإقليمية التي أصبحت مكشوفة مثل فاغنر ومليشيات الجنجويد، والذين هم خنجر مغروس في خاصرة هذه الثورة"، وفق مبروك.
ويخلص مدير المركز العربي - فرع تونس للقول إن هذه القوى الإقليمية ستظل تعمل جاهدة من أجل إفشال الثورات وتخريب أي توافقات وطنية ممكنة تُخرج الثورات التي فشلت من حالة الحرب الأهلية إلى حالة البناء الوطني المشترك. وبرأيه، فإن الحرب الدائرة في اليمن هي أبرز دليل على إجهاض أي توافقات وطنية ممكنة من أجل استدامة الحرب الأهلية. ويشير إلى أنه أمام تواصل الحراكات العربية، كما هو الحال في الجزائر والسودان، التي كانت كل المؤشرات تشي بموجة ثانية من الثورات العربية، فإن تلك القوى قد غيّرت نسبياً من تكتيكها، إما باحتواء تلك الثورات واستباق اندلاعها من خلال إصلاحات دستورية أو انتخابات أو تنحية الحكام، أو دفع العسكر إلى القيام بثورات/انقلابات كما هو في الحالة السودانية التي كانت فيها القوى اليسارية حليفة للعسكر الذي سارع تحت دعمها إلى الهرولة نحو التطبيع المخزي مع الكيان الصهيوني، وفق قوله.
وأمام هذه الوقائع، يعتبر مبروك أنه يتعين على التونسيين تحديداً أن يستغلوا الذكرى العاشرة للثورة من أجل الخروج من سردية الثورة إلى سردية ترسيخ البناء الديمقراطي في شقيه السياسي والاقتصادي. ويضيف: "نحن بصدد استقبال جيل لم يعش قمع بن علي ولا انتصار الثورة، وهو غير معني بالتغني بها بل بقطف ثمارها رخاءً اقتصادياً ورفاهاً اجتماعياً وجودة في الخدمات، وذلك هو معنى الكرامة الحقيقي". ويشير إلى أن تحقيق ذلك يتطلب إعادة بناء تصميم نظام الحكم وبناء صفقة تاريخية جديدة بين الدولة والمجتمع، مع ما يتطلبه ذلك من الانتباه إلى أهمية المطالب الملحّة للشباب والمناطق، إلى جانب صياغة أساليب معارضة جيدة وبناء ثقافة سياسية أرقى من بؤس الأداء الحالي للنخب، خطاباً وممارسة.
عسر التحول
في توصيفه لمسار الحراكات العربية، يرى مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، وزير الخارجية التونسي الأسبق رفيق عبد السلام، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن عشر سنوات غير كافية لكي نعطي حكماً نهائياً على الثورات، لأن مسار الثورات مركّب ومتعرج ويتراوح بين المد والجزر، مضيفاً "إذا قيّمنا الثورة التونسية نستطيع أن نقول إنها تواجه عسر التحوّل، ولكنها مع ذلك تتقدم". وباعتقاده، فإن الثورة التونسية نجحت في التحوّل إلى مشروع البناء المؤسساتي والدستوري في إطار يحفظ مكتسب الحريات الفردية والسياسية، ولكن المنجز الاقتصادي الاجتماعي لا يزال ضعيفاً بالنظر إلى ارتفاع سقف الطموحات ومستوى المطالب الاجتماعية، خصوصاً في المناطق المحرومة وبين الفئات الضعيفة. ويستدرك: مع ذلك صمدت التجربة التونسية في حماية المكتسبات السياسية في ظل محيط إقليمي معادٍ لروح التحرر وفي ظل ارتفاع الموجة الشعبوية وقوى الثورة المضادة داخلياً وخارجياً.
الثورة التونسية نجحت في التحوّل إلى مشروع البناء المؤسساتي والدستوري في إطار يحفظ مكتسب الحريات
ويعتبر عبد السلام أن كل الصعوبات التي تعانيها تونس حالياً هي ضريبة طبيعية للتغيير، بل يمكن القول إنها ديناميكية طبيعية في مرحلة ما بعد الثورات، لأن مهمة البناء أصعب بكثير من مهمة التقويض والهدم. ويتوقف عند حقيقة أن الموجة الأولى من الثورات العربية تتفاوت لجهة خصوصيات الأوضاع الداخلية وحجم التأثير الخارجي، مشيراً إلى أن تونس استفادت مثلاً من التجانس المجتمعي وغياب الانقسامات الطائفية والدينية، ثم الطابع الحيادي للمؤسسة العسكرية وامتناعها عن التورط في دخول الحياة السياسية، كما أن الجوار الأوروبي لتونس كان عاملاً مساعداً أو في الحد الأدنى لم يكن معوقاً للتحوّل الديمقراطي لأن الأوروبيين أدركوا أن ضريبة سقوط الثورة في تونس ستكون كلفتها كبيرة على ملفي الأمن والهجرة، خصوصاً مع وجود أزمة مفتوحة في ليبيا.
في المقابل، يشرح مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية كيف اختلف الوضع في مصر، عندما اضطر الجيش إلى مسايرة الموجة الشعبية في ثورة 25 يناير 2011، لكنه ظل ممسكاً بخيوط اللعبة من وراء حجاب، وكان ذلك يجري تحت عنوان خدعة كبيرة اسمها ثورة الجيش والشعب، يضاف إلى ذلك حجم التدخل الخليجي الهائل بقوة المال والإعلام في الساحة المصرية، بما ساهم إلى حد كبير في تخريب الثورة وتأجيج الصراعات الداخلية، مع عجز القوى المدنية عن عقد تحالفات صلبة ومساومات عقلانية بسبب غلبة الإيديولوجي على السياسي. ومن وجهة نظره، فإن كل ذلك هيأ الفرصة للجيش للانقضاض على الإسلاميين أولاً ثم بقية القوى السياسية وإعادة مصر إلى ما دون حقبة الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وبينما يتحدث عبد السلام عن أن معمر القذافي دمّر كل مكونات الحياة المدنية في ليبيا وعسكر الحياة السياسية، يلفت إلى أنه في سورية واليمن أدت الانقسامات الطائفية والدينية والقبلية، مع الطبيعة العسكرية والفردية للحكم، دوراً كبيراً في إرباك مسار الثورة، وكان ذلك مصحوباً بتدخلات إقليمية ودولية واسعة، خصوصاً من المحور الخليجي الذي جعل إسقاط الثورات العربية مسألة حياة أو موت. ويعتبر أن الثورات المضادة كان لها بالغ الأثر على المشهد السياسي في بلدان الربيع العربي، وكانت تتغذى من صعوبات التحوّل، مثلما كانت تراكم مكاسبها تناسباً مع تعسر عملية التغيير وارتفاع المطالب السياسية والاجتماعية، أما القوى الإقليمية فقد أعادت ترتيب صفوفها بعد تحول ما كان يسمى بمحور الاعتدال العربي إلى محور مضاد للثورات العربية، وقد صمم هذا المحور على تخريب هذه الثورات وإسقاطها بكل السبل.
وبرأيه، فإن أهم الاستراتيجيات التي تم استخدامها من قبل مشغلي الثورات المضادة هي تعميق الانقسامات الداخلية، وتحويلها إلى حالة الاستقطاب الحاد، كما هو الأمر في مصر وإلى حد ما في تونس، مع استخدام قوة المال ثم الضخ بالسلاح في الحالات التي تحوّل فيها النزاع إلى حالة عسكرية كما هو في اليمن وسورية وليبيا. يضاف إلى ذلك استخدام الإعلام للتحريض وبث الفتنة وإثارة النقمة على الثورة والقوى الجديدة التي تقدمت إلى المشهد السياسي بعد الإطاحة بالأنظمة. ووفقاً لعبد السلام، فإن السردية الأساسية التي عملت قوى الثورة المضادة إلى بنائها هي أن الشعوب العربية كانت تعيش عصرها الذهبي في مرحلة مبارك وبن علي والقذافي وعلي عبد الله صالح وأن سبب الخراب هو الإطاحة بهم وليس الثورات المضادة التي سممت الأجواء السياسية وأثارت الفتن والصراعات.
مع ذلك، يرى أن تجدد الثورة لا يزال يشكل هاجس الحكام في البلدان التي شهدت ثورات، لأنهم يدركون أنهم يقفون على أرض مهتزة ورخوة، وأن الاستقرار الذي فرضوه بقوة القمع والعنف هو استقرار هشّ ولا يملك مقومات الاستمرار، كما أنهم يدركون جيداً أن مطلب التغيير وإصلاح أوضاع الحكم ومسائل الفساد والفقر ما زالت قائمة، وإن تم كبتها مؤقتاً بقوة العنف والقمع، وفق قوله.
التجربة اليمنية
ولعل ما جرى في اليمن يصلح كنموذج لأحد أسوأ مسارات تحول الثورات خصوصاً بعد اجتماع عدة عوامل مع بعضها البعض لإفشالها.
ويتحدث خبراء وناشطون سياسيون لـ"العربي الجديد"، عن جملة من الأسباب وراء فشل "الربيع العربي" في اليمن، على رأسها الدور السلبي للقوات المسلحة، والانقسام الذي ضرب المؤسسة العسكرية منذ الأيام الأولى لتشكل ساحات الثورة. وفي نظر هؤلاء، لم يحمِ الجيش الثورة بشكل تام ولم يقف أيضاً على الحياد، بل اشترك بشكل كبير في إجهاضها عبر الاستخدام العنيف للقوة ضد كل مكونات الثورة، في كل مراحلها، وختم ذلك بالتحالف مع قوى استغلت الثورة للتسلق على ظهرها والسيطرة على كل مخرجات الثورة لصالحها وتفصيله على الكيفية التي تريد، في إشارة إلى وحدات الفرقة الأولى مدرع وعدد من وحدات الجيش التي كان يشرف عليها الجنرال علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع حينذاك، والذي أصبح الآن نائباً لرئيس الجمهورية.
تعرّضت ثورة الشباب السلمية في اليمن لعدد من الإرهاصات التي أدت إلى فشلها في تحقيق الأهداف التي رفعتها
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الحديدة اليمنية، نبيل الشرجبي، أن انقسام المؤسسة العسكرية إبان الثورة كان له أثر سلبي على حيوية الساحات وأداء الثوار الذين زادت خشيتهم من الانزلاق إلى حرب أهلية، فتركوا ساعتها أمور الثورة للآخرين. ويضيف الشرجبي في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "قد يكون دور المؤسسة العسكرية أحد أسباب الإخفاقات، لكن السبب الأبرز هو غياب البرنامج الوطني الشامل والحقيقي لدى قيادات الثورة والنخب التي كانت تتصدرها". ويعتبر أن تلك النخب الثورية، اكتفت برفع شعارات عامة، والمطالبة بإزاحة رأس النظام السابق من دون الغوص في جوهر الأزمة وخلخلة هياكله الاجتماعية والتنظيمية أو خلخلة توازناته وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، وهو ما وظّفه النظام السابق في كثير من تحالفاته لاحقاً، وتمكّن من حرف المسار الثوري بالبلاد إلى صراع حزبي وسياسي بين "المؤتمر الشعبي العام" و"التجمع اليمني للإصلاح".
واستغل النظام السابق غياب القيادة الموحدة للثورة واختلافها أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً، كما عاب على قوى الثورة تغليب الثقافة والمصلحة الحزبية وإزاحة الشباب الذين كانوا روح الساحات من أي دور مستقبلي، عندما قفزت الأحزاب السياسية لحصد الثمار. ووفقاً للشرجبي، فإن ضرب النظام السابق للثورة وقيامه بإلصاق تهمة "الأسلمة" عليها، كما فعل كثير من الأنظمة، جعل قطاعاً عريضاً في الداخل والخارج ينزوي بعيداً عنها أو ينقلب عليها بشكل تام، للاصطفاف ضدها في نظام صالح.
بصيص أمل في ليبيا
أما في ليبيا، وعلى الرغم من الحرب التي تغرق فيها وانتشار المليشيات والتدخل الدولي والعربي فيها، يرفض الناشط السياسي الليبي مالك هراسة القول إن الثورة "أخفقت"، بل لا يزال يرى بصيص أمل في نهاية النفق المظلم الذي سارت فيه ثورة بلاده. ويعزو هراسة، في حديث لـ"العربي الجديد"، الإخفاقات التي مرت بها الثورة إلى غياب مناخ سياسي صحي، فـ"نظام القذافي صحّر البلاد سياسياً، فلا أحزاب ولا مؤسسات كان بإمكانها بعد الثورة استيعاب الثوار وبلورة أهداف ثورتهم"، مضيفاً أن "إرث وثقل أربعين عاماً لم يكن سهلاً التخلص منه، فالثوار نتاج منظومة تعليم وتثقيف جماهيرية القذافي، والعقول الليبية التي جاءت من الخارج لقيادة المشهد نُظر إليها بعين الريبة، وبالتالي فتعثرها شيء طبيعي".
نظام القذافي صحّر البلاد سياسياً، فلا أحزاب ولا مؤسسات كان بإمكانها بعد الثورة استيعاب الثوار وبلورة أهدافها
وعلى الرغم من المصاعب التي مرت وتمر بها البلاد، يرى هراسة أنها ضريبة ضرورية للتخلص من إرث ثقافة الاستبداد التي حكمت البلاد طيلة عقود، مضيفاً "إفقار القذافي البلاد من أي مكونات سياسية توازى مع سياساته الخارجية العدمية التي خلّفت للبلاد أعداء كانوا السبب في استمرار مرافقة السلاح لمسار الثورة". وبرأيه فإنه "لو تعامل النظام مع الخارج بثقافة المصالح لما تعاملوا معنا بثقافة الأطماع وسلحوا كل الأطراف، سواء الإمارات وحلفاؤها لصالح خليفة حفتر، أو تركيا ومن معها في جانب قوى حكومة الوفاق".
غير أن السياسي الليبي المستقل سليمان البيوضي يرى أن الثورة "فعل انتهى بالذهاب إلى صناديق الاقتراع" لانتخاب المؤتمر الوطني العام (أول برلمان ليبي بعد الثورة انتخب منتصف عام 2012)، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد" أن محطة صياغة الإعلان الدستوري هي أولى محطات الثورة، لكنها "لم تكن في مستوى الحدث الذي مرت به ليبيا، وبدأ انتهاكه مبكراً حتى فَقَدت قيمتها اليوم بشكل نهائي". وبدت أولى معالم هذا الانتهاك بثقافة قسمت المجتمع وقتها إلى "علمانيين ومسلمين"، ما جعل أولى محطة ديمقراطية لا تعي أهمية "الفصل في طريقة التماشي مع الحياة السياسية حزبية أم فردية"، وفق قوله.
وفيما يرى البيوضي أن تسليح الثورة "خيار حكمته الأحداث"، إلا أنه يعتبر أنه تم تسييسه لاحقاً واستخدامه لـ"تصفية الحسابات"، وأيضاً استخدمه الإسلاميون الراديكاليون كأداة لفرض آرائهم والتحوّل تدريجياً لممارسة الإرهاب والسيطرة على أجزاء من ليبيا.
وبسبب تفرعات وتداخلات أزمة البلاد حتى أضحت أزمة مركّبة أمنية وسياسية، يحمّل البيوضي المسؤولية "للذين استخدموا اللعب على العواطف ورفعوا الشعارات الفضفاضة لتقسيم المجتمع دينياً وعرقياً من أجل الاستحواذ على السلطة". وعن السلاح واستخدامه والمآلات التي وصلت إليها ليبيا بسببه، يقول إنها مسألة "أكثر تعقيداً، إذ خرجت الأمور عن الوضع الطبيعي لتتحول إلى أزمة أمنية كبرى تتقاطع فيها السياسة مع الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود".
وعلى الرغم من كل ذلك، يؤكد البيوضي أن الحديث عن امتداد الثورة لما يحصل الآن "هو إجحاف في حقها"، فالثورة "فعل انتهى بالذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم 7 يوليو/تموز 2012"، في إشارة إلى أول انتخابات في البلاد ما بعد. وبحسب تقديره، فما يحصل الآن باسم الثورة "مزايدات واستخدام رخيص لتبرير منطق الإقصاء والتخوين، يتحمله من استخدموا قيمها ومبادئها لتحقيق مآربهم فشوهوها ويسعون لتكبيلها بتركها مقترنة بالفوضى والفساد".
سورية: نار تحت الرماد
وعلى غرار ليبيا، كانت العسكرة من مصير الثورة السورية بعدما دفع النظام وحلفاؤه نحو ذلك من دون أن يتردد باستخدام كل الوسائل للحفاظ على هيمنته بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية ضد شعبه.
وعن تقييم مسار الثورة في سورية، يرى كبير المفاوضين السابق في وفد المعارضة السورية إلى مفاوضات جنيف محمد صبرا، أن السؤال عن نجاح أو فشل الثورة قد لا يكون دقيقاً، لأن الثورة سياق تاريخي تراكمي وليست حدثاً معزولاً يحقق نتائجه بشكل آني ومباشر، موضحاً في حديث لـ"العربي الجديد" أن الثورة هي فعل مجتمعي يهدف في الدرجة الأولى إلى إحداث عملية تغيير جذري عميق في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومعيار نجاح أي ثورة وفشلها هو القدرة على إحداث هذا التغيير، أما بناء البديل الذي يضمن تثبيت هذه المتغيرات وتحولها إلى منظومة حقوقية وقانونية وبنية إدارية، فهو ليس من مهمة الثورة، وإنما من مهمة القوى السياسية والفكرية في المجتمع.
ويضيف صبرا: "للأسف ما يحدث في الحالة السورية، هو أن الثورة هشمت النظام القائم، وعملياً هي أسقطته وإن بقيت بعض رموزه الدالة عليه، ولا سيما في السنوات الأولى من الثورة، لكن القوى السياسية التي ادّعت أنها تمثّل الثورة لم تتصرف على أساس هذه النتائج، بل إنها تصرفت من موقف المعارض السياسي، الذي لا يجد وجوده الموضوعي إلا من خلال تناقض برنامجه مع برنامج السلطة، أي أن المعارضة لا تهدف لإسقاط النظام بل إنها تعمل على إسقاط السلطة والحلول محلها".
ويرى صبرا أن "المشكلة الأكبر التي واجهت الثورة أن القوى السياسية التي زعمت أنها تمثلها تصرفت كمعارضة في زمن الثورة، الأمر الذي حوّل الثورة من فعل مجتمعي عميق إلى مجرد تمرد على السلطة، ولذلك فإننا نقيس النجاح والفشل بقدرة هذا التمرد على الإطاحة بالسلطة أو عدمها". ويضيف إلى ذلك العامل الدولي "الذي ساهم في تحويل الثورة إلى حركة تمرد من جهة، وأيضاً توفير أسباب لبقاء النظام وذلك للوصول إلى معادلة لا غالب ولا مغلوب، وهو ما تحاول بعض الجهات الدولية والإقليمية تثبيته عبر التسويات السياسية التي تطرحها في الوقت الراهن".
النظام السوري لم يستطع تجاوز أزماته السياسية، وبقي مهزوماً دولياً ومعدماً اقتصادياً وفاقد الشرعية داخلياً
أما الباحث السياسي رضوان زيادة، فيرى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المعارضة فشلت في تنظيم نفسها في الوقت الذي كان فيه حلفاء النظام، وتحديداً روسيا وإيران، أكثر التزاماً في تقديم الدعم العسكري للنظام من أصدقاء المعارضة الذين تشتتوا في دعم الثورة بسبب اختلاف مصالحهم الإقليمية التي كان لها الأولوية على دعم الثورة. ولفت إلى أن الولايات المتحدة قررت الانسحاب كلياً من الملف السوري، الأمر الذي جعل روسيا تتفرد بالحل عسكرياً منذ العام 2015 وسياسياً أيضاً. ويشير زيادة إلى أن "بناء مؤسسات معارضة من الصفر كما كان حال المعارضة السورية مسألة صعبة للغاية، ولم تفلح بها المعارضة السياسية لأسباب شخصية وثقافية وسياسية"، إلا أنه يرى في المقابل أن النظام "لم يستطع تجاوز أزماته السياسية، وبقي مهزوماً دولياً ومعدماً اقتصادياً وفاقد الشرعية داخلياً، وبالتالي فالنظام لم ينتصر والمعارضة لم تُهزم عملياً".
مسار الانتقال الديمقراطي
يرى مدير الديوان الرئاسي التونسي الأسبق، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، عدنان منصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن عشر سنوات حقبة لا تسمح بتحوّلات جذرية ولو كانت تلك التحوّلات ناجمة عن ثورة، لكن هذه الفترة مساحة هامة جداً بالنسبة لجيل انتظر الثورة وتوقع أن تنشأ عنها تحولات يحس بتأثيرها في حياته.
ويعتبر أن "ما حصل منذ الأسابيع الأولى للثورة، هو التحوّل من منطق الثورة إلى منطق الانتقال الديمقراطي، وهذا تمييز هام، لأن الثورة تعصف بالتوازنات القديمة، في حين أن الانتقال الديمقراطي هو تغيير في التوازنات لا يكون هدفه في النهاية سوى إعادة تركيز التوازنات القديمة تحت غطاء من الممارسات الديمقراطية". ويشير إلى أن النخب القديمة أدت دوراً أساسياً في التحوّل بالبلاد من منطق الثورة إلى منطق الانتقال الديمقراطي، لأنه كان لتلك النخب مصلحة في التكيف مع الوضع الناجم مع الثورة من دون تغيير عميق في الأسس التي كانت تقوم عليها الأشياء قبل اندلاعها. ويشرح أن هذه الأسس تتمثل في سيطرة النخب الاقتصادية القديمة التي أفسحت لها الدولة تاريخياً المجال لممارسة أنانيتها على حساب الفئات الضعيفة، فأغلقت أمامها كل إمكانيات الازدهار الاقتصادي. كما أنها تتمثل في سيطرة نخب إدارية ارتبط مصيرها بنموذج الدولة القديمة التي كان طموح الثورة أن تغير في طريقة إدارتها لشؤون الناس واحتياجاتهم بطريقة أكثر عدلاً. ويضيف "الثورة المضادة الحقيقية هي هذه القوى التي تجد منذ عشر سنوات الهياكل السياسية التي تسمح لها بتعطيل التغيير وإعادة الأمور إلى الوراء".
ويرى منصر أن هناك مأزقاً حقيقياً تعيشه الدولة في البلدان التي شهدت ثورات مثل تونس، وهو أنها تواجه طلبات تتقدم إليها في شكل احتجاجات عنيفة، وأن ذلك يتم في مجتمع أصبح بفعل الثورة يتمتع بمنسوب حريات سياسية مرتفع، فيما تلك الدولة ما زالت مصرة على اتّباع نفس النموذج الاقتصادي والاجتماعي غير العادل تجاه الفئات الضعيفة والمناطق المهمشة، معتبراً أن هذا الأمر لا يستقيم وغير قابل للاستمرار، فكلما واصلت الدولة الخضوع لمصالح الفئات الاقتصادية الأكثر حظاً والمتحكمة في قرارها الاقتصادي والاجتماعي، كانت الاحتجاجات قوية، لأن تلك السياسات لا تفعل سوى تعميق الإحساس بعدم اكتمال الثورة في معناها الاجتماعي.
ويتحدث عن الدعوات التي تنطلق من ظاهرة ضعف الدولة لتدعو إلى الإطاحة بالديمقراطية، معتبراً أنها دعوات استبداد لا تحل المشكلة الأساسية وهي المشكلة الاجتماعية، مضيفاً أن "المشكلة التي تظهر في المؤسسات ناتجة من عدم إنجاز الاستحقاقات الاجتماعية للثورة التي كانت المحددة في اندلاعها".
ويشير منصر إلى قناعة ترسخت في السنوات العشر الأخيرة، بأن الديمقراطية عندما لا تكون قادرة على الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية، تتحوّل إلى ديمقراطية واجهة، إلى ستار من الممارسات الشكلية الذي يخفي خلل التوازنات في عمق المجتمع، وهذا هو المسار الذي تتحوّل فيه الديمقراطية إلى فاسدة: الإبقاء على منسوب الظلم الاجتماعي مرتفعاً، ولكن في شكل أكثر قابلية للتسويق. ويلفت إلى أن هذا الأمر يؤدي إلى اليأس من الديمقراطية والانقضاض في نهاية المسار عليها، ويحصل ذلك حالياً في اتجاه سيئ عبر استفادة التيارات الشعبوية والمتطرفة التي لا تؤمن أصلاً بالديمقراطية، ولكنها تحشد الناس ضدها، وهي تحشدهم للإطاحة بالديمقراطية عبر جملة من الشعارات الفوضوية واليائسة ولكن الخالية من أي مضمون اجتماعي حقيقي"، مضيفاً "لقد وصلنا إلى الحد الذي أصبحت فيه الديمقراطية، بالشكل الذي تُمارس فيه اليوم، تنتج المنطق الذي يهدد بإسقاطها".
وبالنسبة لتونس، يتحدث منصر عن عامل هام رسّخ نوعاً من التميز وهو عراقة تجربة الدولة والوحدة المذهبية والعرقية ووجود نخبة قديمة فاعلة التأثير، وهو ما منح التجربة التونسية نوعاً من التفرد مقارنة بمحيطها. ويضيف أن هذا العامل أدى دوراً أساسياً في تنظيم عملية الانتقال الديمقراطي، عبر العودة إلى نوع من الفكر الدستوري العريق، فيما بقية التجارب سقطت في العنف والفوضى لأن هذه العوامل غير متوفرة ببساطة، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية المكثفة.
أولويات إتمام التحول
من جهته، يتحدث المدير التنفيذي لمركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان التونسي محمد عمران، لـ"العربي الجديد"، عن مسارات اتخذتها كل دولة على حدة من دول الانتفاضة الشعبية العربية الأولى والكبرى والتي أطلق عليها "الربيع العربي"، لافتاً إلى أن العامل المشترك في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية والمغرب، وهي الدول التي شهدت الموجة الأولى، هو الخروج من نفق الدكتاتورية إلى مساحة الديمقراطية، والقطع مع آليات القمع السابقة والقضاء على الفساد والتخلص من لوبياته المحيطة بالنظام الحاكم، من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطن بما يسمح له بالعيش بكرامة وأمان. وإذ يشير إلى أن الشعار الموحد في كل تلك الانتفاضات كان "عيش (خبز)، حرية، كرامة إنسانية"، يرى أن الشعوب كانت منتبهة بشكل عفوي إلى الأولويات، فوضعت الخبز على سلم أولويات الهتاف الشهير وهو ما لم يدركه السياسيون في ما بعد، فبقيت المشاكل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية هي الباب الكبير لعودة الثورة المضادة وانتصار أركان الدولة العميقة في العديد من المعارك، بما جعل هناك تباينا في قراءة تلك المؤشرات خلال السنوات العشر الماضية، ما بين فشل هنا أو تعثر هناك. ويضيف: "هي المشكلة نفسها في الموجة الثانية سواء الجزائر أو السودان والعراق، ولكن اختلف الأمر أكثر بالنسبة لشعوب الموجة الثانية لأن الثورة المضادة كانت واضحة المعالم لهم منذ البداية".
العامل المشترك في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية والمغرب هو الخروج من نفق الدكتاتورية إلى مساحة الديمقراطية
ويشرح عمران أن "لكل دولة خصوصياتها وثقافتها التي تجعل من كل تجربة مختلفة عن الأخرى، مع وجود عوامل عدة لا تتشابه فيها دول الانتفاضات العربية، فدرجات الديكتاتورية وآلياتها كانت متفاوتة حسب إدارة كل ديكتاتور لدولته، فهناك من كان الفرد الممثل لمؤسسة كبيرة، كما هو الحال في مصر وسيطرة المؤسسة العسكرية على منصب رئيس الجمهورية، وهناك من اعتمد على الجيش العائلي مثل سورية، أو اعتمد على الكتائب المسلحة مثل القذافي في ليبيا". ويضيف "هناك كذلك عامل الاستعمار الخارجي وتأثيره على السياسات والقطاعات الهامة مثل التعليم والصحة والثقافة، وكذلك السياسة الخارجية التي اختلفت بين دول الانتفاضات العربية حسب علاقتها مع مستعمرها القديم سواء كان فرنسا أو إيطاليا أو إنكلترا، وبقى العنصر الأكثر أهمية يتمثل في تركيبة السكان المحليين من حيث الدين والعرق والجنس، وهي العوامل الكبرى التي أثرت في مسار الثورة فيما بعد وتم استخدامها بحرفية عالية من قِبل الدولة العميقة والثورة المضادة".
ويلفت إلى أن "الثورة المضادة أثرت في التجارب، وهذا التأثير نجده واضحاً حتى في تونس، النموذج الوحيد الناجح من دول الموجة الأولى حتى الآن، ولكننا نجد أن الآليات كانت شبه واحدة من حيث السيطرة على الآلة الإعلامية ونشر خطاب أحادي دائماً ما يكون مع الأمن والاستقرار، واستحداث مصطلح هيبة الدولة مع التفاخر بثقافتنا المحافظة التي لا تتواءم مع ثقافة حقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها، وافتعال النعرات الدينية والطائفية والجهوية ومساندتها". ويتابع "كما استغلت الثورة المضادة حماقة السياسيين وتركيزهم على فرض خلفياتهم الأيديولوجية من خلال السعي إلى الحكم، من دون الانتباه لضرورة الحوار الوطني والتوافق على المبادئ الأساسية لإدارة المرحلة الانتقالية وتوفير شروط العدالة المناسبة لها بما يتلاءم مع مبادئ حقوق الإنسان، كذلك الاهتمام بالجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقيام بالإصلاحات الهيكلية الكبرى في قطاعات التعليم والصحة والداخلية والقضاء والخارجية والقطع بشكل نهائي مع السياسات المستبدة لأنظمتها الديكتاتورية السابقة، وهناك آلية فشل فيها الجميع حتى الآن (العدالة الانتقالية)".
ويقول عمران إنه "لم يكن من السهل على الحكام في منطقتنا أن يتقبلوا انتفاضات شعوبهم مطالبين بالحرية والمساواة، ومع الموجة الأولى باتوا مدركين أن الشعوب قادرة على قلب الموازين في أي وقت وهو ما يلزمه كثير من الحرص والانتباه والحزم في تطبيق الاستراتيجيات المتفق عليها في مواجهة الأصوات الحرة ووأد العملية الديمقراطية في مهدها"، معتبراً أن على الجميع التعلم أن التجربة، سواء في الموجة الأولى أو الثانية، أثبتت أنه لا يمكن أن تتبنى الدولة أيديولوجية بعينها أو أيديولوجية حزب معيّن، وبالتالي يجب أن يرتكز عمل السياسيين اليوم على الأولويات المهمة لإتمام العملية الديمقراطية والقضاء على احتمالات التعرض إلى الانتكاسات التي تعرضت إليها بعض دول الموجة الأولى أو الثانية.