حتى وقت قريب كان التعويل على صمود الهدوء النسبي الذي شهده لبنان منذ بدء موسم الصيف لا سيما مع تسجيل حركة سياحية نشطة جعلت الأزمات السياسية والمالية تخفت قليلاً فيما كانت الأنظار تتجه إلى شهر سبتمبر/أيلول المقبل على اعتبار أن العطلة التي دخلت فيها البلاد ستنتهي مع انتهاء موسم الاصطياف لتعود عاصفة الاستحقاقات.
علماً أن الخرق الأول للجمود السياسي الرئاسي، سيكون الشهر المقبل، من خلال عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، وبيده مبادرة الحوار الرئاسية، التي لا يعول المسؤولون على نجاحها. لكن هذا الهدوء لم يصمد حتى سبتمبر المقبل، إذ شهدت الساحة اللبنانية في الفترة الأخيرة سلسلة أحداث أمنية وترافقت مع خطاب تحريضي سياسي بشكل رئيسي، وإعلامي في بعض الحالات، ما يعزز المخاوف من أن تفضي حالة الفوضى المتصاعدة إلى انفجار أمني.
أعنف اشتباكات في مخيم عين الحلوة
وانطلق التوتر الأمني على وقع أحداث مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، جنوب لبنان، واشتباكات وُصِفت بالأعنف، أعقبه إطلاق سفارات دول خليجية تحذيرات وتنبيهات إلى مواطنيها ورعاياها على الأراضي اللبنانية. وفي 29 يوليو/ تموز الماضي، اندلعت اشتباكات في مخيم عين الحلوة استمرت لنحو أسبوع بين مسلحين من مجموعات فلسطينية متشددة، وقوات "الأمن الوطني" التابعة لحركة فتح. وأسفرت الاشتباكات عن سقوط 13 قتيلاً، وأكثر من 60 جريحاً، ونزوح مئات العائلات، إضافة إلى أضرار جسيمة في الممتلكات والمنازل.
وعقب ذلك، طالبت السعودية والبحرين، في بيانين، في 5 أغسطس/آب الحالي، مواطنيهما بمغادرة لبنان، وتجنب المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة، فيما دعت الكويت والإمارات وقطر وسلطنة عمان وألمانيا، في بيانات، مواطنيها إلى "التزام الحيطة والحذر" والابتعاد عن مناطق التوتر.
مروان شربل: لا يمكن عند كل استحقاق "تزييت" السلاح لحله
وعقب ذلك، توالت الأحداث الأمنية المتنقلة، أبرزها، جنوباً أيضاً في عين إبل، مع الكشف عن جريمة خطف وقتل مسؤول سابق في حزب "القوات اللبنانية" (يرأسه سمير جعجع)، إلياس الحصروني، التي سارعت أحزاب سياسية، على رأسها "القوات" و"الكتائب اللبنانية" (برئاسة النائب سامي الجميل) بصبغها سياسياً. مع العلم أن مارون الحصروني، شقيق الضحية، طلب عدم تسييس الجريمة وانتظار نتائج التحقيقات، قائلاً، في تصريح إعلامي، قبل 3 أيام، إن العائلة لا تتهم أي جهة، على أمل أن يُظهر التحقيق من هو الفاعل، مضيفاً: "لا أعتقد أن لما حصل طابعا سياسيا"، لافتاً إلى أن "هناك من يريد أن يصطاد بالماء العكر".
اشتباكات بين "حزب الله" وأهالي الكحالة
وبينما كانت قضية عين إبل تتفاعل سياسياً، سجلت يوم الأربعاء الماضي حادثة الكحالة في جبل لبنان، على طريق تربط بيروت بدمشق، مع انقلاب شاحنة تابعة إلى "حزب الله" محملة بالذخائر، وما تبعها من اشتباكات مسلحة بين الأهالي وعناصر حمايتها، أسفرت عن سقوط قتيلين، هما فادي بجاني والعنصر في "حزب الله" أحمد القصاص تحولت إلى مواجهة بين "حزب الله" وخصومه السياسيين ترجمت بتصريحات وبيانات عدة. كما ترافقت الحادثة مع توترات في مناطق عدة ولا سيما حيث نفوذ "القوات"، و"الكتائب"، و"حزب الله".
وعمدت قنوات إخبارية لبنانية إلى فتح الهواء مباشرة لمتابعة الحادثة من دون أن يخلو الخطاب الذي نقله بعضها من تحريض امتد لساعات وعكس حالة الاحتقان الموجودة.
ولم يمر دور الجيش اللبناني، في إدارة الأزمة، من دون التعرض لانتقادات خصوصاً بعدما اتهم عناصره من قبل أهالي المنطقة بتأمين الغطاء لـ"حزب الله"، عبر حماية الشاحنة ومنع الاقتراب منها لعدم الكشف عن حمولتها ومحاولة قطرها خارج البلدة، فضلاً عن منع الصحافيين من تأدية عملهم بعدما تعرّض بعضهم للاعتداء وتكسير عددٍ من كاميراتهم عند محاولة تصوير حمولة الشاحنة.
كما انتقد الجيش بعد اصداره بياناً بشأن الحادثة إذ لم يسم حزب الله واكتفى بالحديث عن "انقلاب شاحنة تحمل ذخائر على طريق عام الكحالة"، وحصول "إشكال بين مرافقي الشاحنة والأهالي ما أدى إلى سقوط قتيلين".
هذه الأحداث ترافقت أيضاً مع الإعلان عن إصابة سيارة وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال موريس سليم، أول من أمس الخميس بـ"الرصاص"، صورت سريعاً في الإعلام، على أنها محاولة اغتيال.
وعوضاً عن خروج سليم سريعاً ببيان إعلامي يوضح ما حصل معه لضمان التهدئة، تعمد إضفاء ضبابية على الحادثة قبل أن يعلن أن رصاصة واحدة، أصابت سيارته وأنه بخير، علماً أن السيناريو الأرجح، لما حصل معه، وقد تطرق إليه وزير الداخلية بسام مولوي، كان تعرض سيارته لرصاصة طائشة، نتيجة إطلاق النار الكثيف الذي كانت تشهده مناطق قريبة من المنطقة التي مرّ فيها، أي جسر الباشا في جبل لبنان، خلال تشييع عنصر "حزب الله" أحمد القصاص الذي قتل في الكحالة.
ورفعت سلسلة الأحداث هذه منسوب القلق عند اللبنانيين، الذين يتلقون في الفترة الماضية كماً من الأخبار التي تعزز المخاوف لديهم من انفجار قريب، سواء نقدي أو أمني، ما يتركهم بحالة خوف، وترقب، ويدفع كثرا إلى التساؤل حول ما إذا كان هناك مخطط يُحضر له، تمهيداً لفرض تسوية رئاسية.
ما يحصل مرتبط بالوضع الاجتماعي والمالي
ويقول وزير الداخلية السابق مروان شربل، لـ"العربي الجديد"، إن كل التوترات، والضغوط التي تحصل، ترتبط بالدرجة الأولى بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي، الذي يخلق غضباً في نفوس الناس، ويخلق مشاكل متعددة وجرائم سرقة وقتل، وأحداثا متفرقة، مشدداً على أنه "في لبنان أمن، ولكن لا أمان".
ويحمّل شربل المسؤولية في الطليعة إلى القضاء اللبناني، الذي لا يقوم بدوره، كحادثة الكحالة مثلاً، التي لم نرَ فيها وجودا لمفوض الحكومة أو للأجهزة القضائية، في حين تأخرت الأجهزة الأمنية في معاينة مكان الحادث، الأمر الذي ينسحب أيضاً على العديد من الملفات الأمنية والقضائية، وأكبر دليل وضع السجون، بحيث إن 80 في المائة من الموقوفين هم من غير المحكومين، في حين هناك موقوفون انتهت محكوميتهم وأدوا عقوبتهم ولا يزالون داخل السجون، مشيراً إلى أن التحلّل المؤسساتي في هذا الظرف خطر جداً.
مهنا: المنظومة التقليدية تعتمد خطاباً تحريضياً مقيتاً
ويرى شربل أن جميع المسؤولين في البلاد مستهترون، يماطلون، ويضيعون الوقت، في ظل أوضاع دقيقة لا تحتمل التأخير والتأجيل والتلكؤ، وللأسف، الخارج يظهر متحمّساً أكثر من الأطراف اللبنانية، التي تلقى عليها مسؤولية ما يحصل.
ويشير شربل إلى أن في البلد دستورا واضحا وصريحا يحدد آلية انتخاب الرئيس، بطريقة ديمقراطية، إذ لا يمكن عند كل استحقاق وضع متاريس و"تزييت" السلاح، بغية حلّه، وانتخاب رئيس عند حصول حادث مهم في البلد. ويعتبر أنه بعكس النظرية القائلة بأن الأحداث الأمنية تمهد لانتخاب رئيس، بل على العكس، إذا حصلت، لن يكون بوسعنا الانتخاب، وسنترحّم على أيام انتخاب الرئيس، وقد نذهب باتجاه خطاب أكثر حدة يقوم على التقسيم أو تغيير النظام، وغيرها من الخطابات.
خطاب موتور في لبنان
من جانبه، يقول أيمن مهنا، المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير، "سكايز"، (مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية)، لـ"العربي الجديد"، إن "الخطاب في البلاد هو خطاب موتور، يلعب على إثارة الغرائز الطائفية، بكل أشكالها، بما في ذلك المرتبطة بالحريات الفردية، والتوتر بين اللبنانيين واللاجئين السوريين، وذلك بهدف أساسي، هو التعمية على المشاكل التي تعاني منها البلاد، والتي بالمناسبة ليست مشاكل عادية، ولو كنا في بلد غير لبنان، لكان ما يحصل أدى إلى انهيارات كاملة في منظومة السلطة".
ويرى مهنا، أنه بهدف الهروب من المعالجة وتحريف الأنظار، تعتمد المنظومة التقليدية خطاباً تحريضياً مقيتاً، ممكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر من وخيمة في أية لحظة. ويشدد مهنا على أن ما يُحضر للبلد لن يكون بمخطط خارجي، بل من صنيعة الأحزاب السياسية التقليدية في لبنان التي تحكمه، وفي مقدّمها "حزب الله"، والتي ستدفع إلى مزيد من الانهيار والإذلال، وتقليص إضافي لأي مساحة حرية، ووضع الناس بحالة غليان طائفي مستمر، لتبرير مواصلتهم سياساتهم وممارساتهم، مؤكداً أن أسوأ ما يمكن أن يحصل في لبنان لن يكون إلا صنيعة لبنانية، وصنيعة المافيا التي تحكم.
ويلفت مهنا إلى أنه في لبنان، التحقيقات تكشف دائماً من قام بجريمة، إن تم توقيف المجرمين ومحاكمتهم، تصبح هويتهم معروفة، وإن لم يقم التحقيق بأي توقيف وإن لم يحرز أي تقدم، تصبح هوية المجرمين معروفة أيضاً، هذه فعالية مطلقة، مضيفاً: "نحن في بلد يسود فيه الإفلات من العقاب، حيث كل الجرائم التي لا تصل إلى نتيجة، نعلم من اقترفها، وتصب بهدف سياسي".
وبغض النظر عما إذا كانت الأحداث التي تحصل تأتي بهدف التمهيد لتسوية رئاسية، يقول مهنا إن هناك تخوفا من المرحلة المقبلة، مع العلم، أننا نتعجّب من مدى هدوء الوضع نسبياً، في ظل الانهيار الحاصل، والارتفاع الكبير بنسبة الفقر، وتدهور الوضع المعيشي، وفي ظل أزمة بهذه الخطورة، تتعاطى معها السلطة والمصارف بعنجهية واحتقار.
ويعتبر مهنا أن "كل عناصر التوتر الأمني موجودة من دون استثناء، إذ إن ملف اللجوء السوري الذي هو معضلة ومشكلة حقيقية، لكن من يتحمل مسؤوليتها هم من في السلطة الذين قاموا بأسوأ إدارة ممكنة للملف، الذي قد يؤدي إلى مشاكل إضافية في المستقبل، إلى جانب الشحن الطائفي المستمر بشكل فظيع، والمرتبط أيضاً بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، علماً أن إحدى آليات تخفيف وطأة الفقر والانهيار الاقتصادي المعتمدة، تتمثل في تشجيع الاقتصاد الموازي الرمادي، لا بل الأسود، وغير الشرعي، المبني على كافة أشكال الممنوعات، والتهرب الضريبي، والتهريب، والأعمال غير المعلنة، وكلها مرتبطة بمافيات غير خاضعة لسلطة القانون، وهذه بدورها، من عناصر التوتر الأمني".
لا دولة... والقوي بقوّته
من جانبه، يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، لـ"العربي الجديد"، إن هناك 3 مسائل يجب أخذها بعين الاعتبار، الأولى، أن لا دولة ولا سلطة ولا قانون، ولا قضاء، ولا رادع، والقوي بقوّته، الأمر الذي يؤدي إلى تفلّت الوضع.
وثانياً، بحسب نعمة، هناك أزمة اقتصادية ومعيشية وانهيار نقدي، وتدهور معيشي حاد، مع غياب أي مؤشرات للمعالجة، وكل ما يحكى عن ازدهار ربطاً بأموال المغتربين وحركة السياح، مزيّف، لأن الحقيقة، تتمثل بتسجيل أعلى نسبة تضخم، وزيادة في البطالة، وغلاء مستشر، وانعدام للموارد، وإفلاس البنك المركزي، والمصارف، وغيرها من الأزمات، هذا كله له تأثيراته أيضاً.
من ناحية ثالثة، يقول نعمة، هناك عامل لا تأخذه الناس كثيراً بعين الاعتبار هو الوضع النفسي الاجتماعي، ليس فقط للأفراد بل للجماعات، وهذا له دور أساسي، في التفلت الحاصل، وهو الطاغي اليوم، في ظل غياب تام للدولة، بمعنى المؤسسات والسلطة والأمن والقانون، وتدهور المستوى المعيشي لجميع الطبقات.
ويشير نعمة إلى أن الخطاب المهيمن على الوضع، ويحاول احتكار الخطاب العام، يقوم على التحريض وتيئيس الناس، وهذا الخطاب لا يراه المواطن من دون أساس، إذ إن هناك شعورا بالمظلومية والدونية والشعور بالمقابل أن هناك من هو فوق القانون وآخرين تحته، وهناك منظومة تعمل على هذه المشهدية، وتغذّيها، وتعطيها معنى سياسيا.
ويلفت إلى أن الجرائم الهائلة في البلد والتي فيها انتهاك فاضح لحقوق الناس، يُعمل على تحويلها إلى مسألة فردية وشخصية، مثل ما يحصل في تفجير مرفأ بيروت (الذي وقع في 4 أغسطس/آب 2020)، بينما هو حدث سياسي يتطلب رد فعل شعبيا وسياسيا حازما للتصدي له، وتحميل المسؤوليات الحاسمة بشأنه، ويتم تحويله إلى مسألة قضائية تخصّ فئة ضيقة من الناس، هم أهالي الضحايا.
كذلك، برأي نعمة، فإن حادثة الكحالة، ستتحول إلى مطالب لتسليم مطلقي النار، وستذهب التحقيقات باتجاه من أطلق الرصاصة الأولى، وعلى الرغم من أهمية الملاحقة، في ظل سقوط قتيلين، لكن الموضوع الأهم يبقى أن ما حصل في البلدة كشف للناس ما هو معلوم أصلاً، ويتمثل بأن مئات الشاحنات تنقل يومياً ذخائر وأسلحة من البقاع وربما سورية وأبعد منها إلى بيروت لطرف مسلح موجود في لبنان، هذه هي القضية الأساس.
أديب نعمة: الخطاب المهيمن على الوضع يقوم على التحريض
وبالتالي، يرى نعمة أن هناك جرائم هائلة ترتكب بحق الشعب، ترتقي إلى جرائم حرب ضد الإنسانية وانتهاك حقوق الإنسان، منها التي ارتكبها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والتي تتحول إلى قضايا شخصية، أو حتى جنائية مرتبطة بأفراد وفئات محدودة، بينما يجب أن يلاحق بها سياسياً قبل، حتى جنائياً.
"حزب الله" يسيطر على الدولة
وإذ يعتبر نعمة أن التسويات تحصل على وقع الأحداث الأمنية، فيما الموضوع له علاقة بموازين القوى، إذ إن هناك طرفا وهو "حزب الله" يسيطر على الدولة والبلد والمؤسسات، ويملك سلاحاً وفائض قوة ويتصرف فوق الدولة، ما يجعلها محلولة بالكامل في ظل وجوده، على حد وصفه.
ويشير إلى أنه، في المقابل، هناك أصوات ترتفع ضده، لكن بشكل جزئي، ومن منطلق إما طائفي أو جغرافي أو مناطقي، أو تقسيمي، أو من موقع الانتماء لمشروع إقليمي مضاد، لا من موقع استعادة وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، مع برنامج حقيقي للتغيير الاقتصادي الاجتماعي، ومن هنا، فإن الحل لا يكون إلا بمشروع وطني حقيقي، فالمعركة لا تخاض مجزأة. ويوضح: نحن أمام مافيات وعصابات موجودة داخل السلطة، سواء السياسية والمالية، وخارجها، والإصلاح يجب أن يكون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن فصلها.