فرنسا تدخل مرحلة صعبة. هذه مسألة يلاحظها من يحاول أن يتجوّل في باريس في هذه الأيام. وسرعان ما يكتشف أن لا شيء على ما يرام: حركة الطيران مضطربة عموماً بسبب توالي الإضرابات النقابية، التي قد تعطل قرابة 50 في المائة من الرحلات، والأمر ذاته مع وسائل النقل الداخلي من باصات وقطارات الأنفاق، في حين أن شوارع المدن الكبرى باتت مقطعة الأوصال، وصارت التحركات الاحتجاجية تتكرر أكثر من مرة خلال الأسبوع الواحد، بعدما كانت تحصل على نحو متقطع في بعض القطاعات.
الأسعار هي الأخرى لا تعرف الهدوء، وفي ارتفاع متواصل، وهذا يشمل مناحي الحياة كافة، من كهرباء وغاز ووقود ومواد أولية وحتى الخبز ومياه الشرب، وقد تضاعف بعضها بما يتجاوز مائة مرة. ومنذ عام بلغت معدلات التضخم أرقاماً قياسية، واتسعت إلى حد كبير شريحة المتضررين من الطبقة الوسطى، التي تحث الخطى بسرعة لتلحق بالفئات الفقيرة.
أزمات فرنسية متفاقمة
وفي ظل تفاقم الأزمات المعيشية تم يوم الخميس الماضي إقرار مشروع قانون الرئيس إيمانويل ماكرون لرفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، ليزيد من تأزيم الموقف ويشعل الحرائق في كل مكان. ومنذ بداية العام الحالي، لا حديث في وسائل الإعلام الفرنسية وعلى مستوى الدولة والأحزاب المعارضة والحكومة والبرلمان، وفي البيوت والجامعات، سوى نقاش هذا المشروع، الذي بات من المؤكد أن إقراره بالصورة التي تم فيها سوف يقود فرنسا إلى انفجار كبير.
ومن المعروف أن هذا الموضوع حسّاس جداً على أكثر من صعيد، وحظي بمعارضة من قبل النقابات والفئات الاجتماعية، التي تعتبر نفسها متضررة على نحو كبير، وقد سبق لبعض الرؤساء الفرنسيين السابقين أن حاولوا القيام بهذه الخطوة، لكنهم اصطدموا بجدار متين من المعارضة، واضطروا للتراجع عن التعديل. وعلى الدوام، كانت حركة النقابات في الواجهة، لأنها هي التي تمتلك سلاح تعطيل حركة البلد، بما تملكه من ثقل، وخصوصاً على مستوى قطاعات النقل.
تتحضر النقابات لتظاهرات واسعة يوم الخميس المقبل
وتواصلت الاحتجاجات خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي (السبت والأحد) في فرنسا على القانون، رغم إقراره. ومنعت الداخلية الفرنسية تجمعات في ساحة الكونكورد في باريس، وقال وزير الداخلية جيرار دارمانان، أمس الأحد، إن 169 شخصاً جرى اعتقالهم في كل فرنسا السبت، بينهم 122 في باريس. لكن رئيس نقابة الكونفيدرالية العامة للشغل (سي جي تي)، فيليب مارتينيز، حمّل أمس في حديث تلفزيوني ماكرون مسؤولية المواجهات التي وقعت بين الشرطة ومتظاهرين، مندداً بـ"إصلاح غير عادل". واعتبر أنه "لا يمكن منع الناس من التظاهر"، بعد منع الداخلية التجمعات في ساحة الكونكورد.
وقال مارتينيز: "لا أعلم لماذا لا تأخذ الحكومة إنذاراتنا على محمل الجد؟". وجاءت الاحتجاجات الجديدة، فيما يتحضر البرلمان اليوم الإثنين لمناقشة طلبات نيابية بحجب الثقة عن حكومة إليزابيث بورن (قدّم مشروعان حتى مساء الجمعة) فيما تؤكد النقابات العمّالية أن حراكها، من إضرابات واحتجاجات، مستمر. وفيما شهد الأسبوع الماضي مظاهر عنف غير مسبوقة في باريس، ينتظر أن يسجّل يوم الخميس المقبل مواجهات أوسع.
ولم تعد الحركة النقابية في فرنسا اليوم على ما كانت عليه من قوة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فقد تراجع زخمها تبعاً لما عرفه اليسار من ضمور تدريجي، وخصوصاً الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يعد من بين أقوى الأحزاب، ولكن جمهوره تقلص مع انحسار الحركة الشيوعية العالمية.
ورغم ذلك، حافظت النقابات في فرنسا على حد أدنى من التماسك، الذي يمكنها من القيام بإضرابات لشلّ حركة النقل والتعليم والصحة، لكن وصول حكومات ذات مشاريع ليبرالية منذ عام 2007 مع انتخاب نيكولا ساركوزي للرئاسة، أعاد الروح من جديد للنقابات، وبذلك استعادت الكثير من عافيتها مع انتخاب ماكرون، الذي يلقب في الشارع الفرنسي بـ"رئيس الأغنياء".
وقد اكتسب الرئيس الفرنسي هذا اللقب لأسباب عدة، كونه جاء إلى الرئاسة من عالم المصارف التي عمل في أبرزها، حيث حقّق صفقات كبيرة مع "مجموعة روتشيلد"، وقد حظي بدعمها صراحة في وجه كافة المرشحين الذين نافسوه في الولايتين. ولم يكن الأمر تهمة، فهو لا يخفي انحيازه ومراعاته لمصالح القطاع الخاص، وهناك مثال مشهود على ذلك، حينما رفض فرض ضريبة وقتية على أرباح حققتها شركة "توتال" للطاقة وهي تقدر بـ20 مليار يورو.
لم تنتعش الحركة النقابية لوحدها، بل نمت على ضفافها حركات احتجاجية أخرى، بعضها داخل اليسار المتطرف، وأخرى داخل اليمين المتطرف، ولذلك أخذت بعض الحركات الاحتجاجية تتسم بالعنف كما حصل في أغلبية التظاهرات التي حصلت منذ بداية العام الحالي ضد مشروع قانون رفع سن التقاعد.
وثمة من بين المراقبين من يرى أن بعض أوساط الدولة لها مصلحة في تشجيع مظاهر العنف، من أجل إظهار النقابات أمام الرأي العام بمظهر من يتبنّى العنف والتخريب من أجل الوصول إلى أهداف سياسية، وهذا يجعلها تخسر التأييد الشعبي الواسع الذي تحظى به لأنها تدافع عن حقوق العمّال، وتتبنى قضايا الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
ثمة من يرى أن للدولة مصلحة في تشجيع مظاهر العنف
الولاية الثانية للرئيس ماكرون التي لم تكمل عامها الأول بعد أكثر خطورة من ولايته الأولى التي بدأت في عام 2017، وكاد يفقد منصبه في العام الثاني منها، بسبب التظاهرات الواسعة التي قامت بها حركة "السترات الصفراء"، التي تشكلت بسبب سوء الوضع الاقتصادي، وأثارت موجات احتجاجات متواصلة على مدار أكثر من عام، وما كانت ستتوقف لو لم يعترض طريقها وباء كوفيد - 19.
في ذلك الوقت كانت نقطة البداية من قيام الحكومة برفع سعر مادة البنزين 6 سنتيمات، وهو مبلغ لا يكاد يقارن بالارتفاع الذي شهدته أسعار المواد الأولية خلال العام الأول من حرب روسيا على أوكرانيا، وخصوصاً تلك التي على صلة بالطاقة، كما أن التضخم بلغ مستوى لم يصله منذ 40 عاماً.
ماكرون في مأزق
وسط هذا التأزم، ينتظر الفرنسيون أسابيع صعبة قبل الوصول إلى العطلة الصيفية، ومن المتوقع أن يرتفع منسوب الحركة الاحتجاجية، في رد على الطريقة التي تم فيها إقرار مشروع رفع سن التقاعد. ولأن حكومة ماكرون برئاسة إليزابيت بورن لم تكن تملك أكثرية في البرلمان فإنها قامت بحركة التفافية من خلال اللجوء إلى المادة 49:3 في الدستور.
وتتيح المادة 49:3 من الدستور للحكومة إمكانية تمرير تشريع دون طرحه للتصويت في البرلمان، ويعتبر المعارضون للمشروع أن استدعاء هذه المادة من الدستور، يستهدف ماكرون به تأمين قدرة حكومته على فرض إصلاحات دون طلب دعم من أغلبية أعضاء البرلمان، ما يشكل ثغرة سياسية خطيرة على المدى القريب.
وقد تجنب الرئيس الفرنسي اللجوء إلى الخيار الثاني، لأنه خشي سقوط الحكومة في تصويت الثقة في البرلمان، لأنه يسقط المشروع من تلقاء ذاته، وبذلك سيتم طيّ صفحته، وإذا تجاوزت الحكومة الامتحان، فسيتم اعتبار مشروع القانون حائزاً على التزكية وسيجرى العمل به، وهذا ما لم يتم لماكرون وفريقه الذي عمل على مدار أكثر من شهرين لتشكيل أكثرية برلمانية حوله من الأحزاب كافة.
وقد عزّز من احتمال نجاح هذا الخيار أن المعارضة غير موحدة من وراء إسقاط مشروع القانون، وكانت هناك تقديرات بأن تقف أطراف اليمين من حزب الجمهوريين، إلى جانب الحكومة، وهذا أمر جرى العمل عليه بقوة خلال الأسابيع الماضية، وعقدت اجتماعات في قصر "الإليزيه" بين نواب من حزب "الجمهوريين" وماكرون، من أجل استمالة هؤلاء إلى صف التصويت لصالح منح الحكومة الثقة، وتم تقديم رشى لهؤلاء لشراء مواقفهم، بهدف تعديل الميزان لصالح إقرار المشروع في البرلمان.
وفشل ماكرون في هذا المسعى، وحتى الموقف داخل حزب "النهضة" ("الجمهورية إلى الأمام" سابقاً) الذي يتزعمه لم يكن موحداً. وفي حين حضّ الزعماء الأعضاء على التصويت لصالح مشروع القانون، فإن المعلومات المتداولة كانت تشير إلى أن عدداً من هؤلاء النواب لن يصوتوا لصالح المشروع، أو أنهم سيمتنعون عن ذلك في ظل عدم القبول الشعبي للإصلاحات المقترحة.
ونظراً لكل هذه الأسباب لجأ ماكرون الى المادة 49:3، وفشل رهان المعارضة على مشروع طرح القانون في البرلمان، وبالتالي سقوط حكومة ماكرون، واستقالته وعدم إكمال ولايته الثانية، ومع ذلك سيظل وضعه بالغ الهشاشة، وسيزداد الموقف العام تعقيداً وتأزماً، ومن المرتقب أن تنفجر أزمة اجتماعية كبيرة في القريب العاجل كتعبير عن الاحتقان الكبير.
ومن المرتقب أن تُصعد نقابات العمال من أجل إفشال إصلاحات ماكرون، التي يعارضها 70 في المائة من الفرنسيين و94 في المائة من العمال. وكان مارتينيز قد حذّر من أن التظاهرات ستستمر بغض النظر عن تصويت البرلمان لمصلحة الحكومة، أو إذا ما استخدمت الأخيرة الدستور لإقرار القانون دون تصويت البرلمان.
في كل الأحوال، يدرك ماكرون أنه أمام مجازفة سياسية ذات عواقب كبيرة، واختار الذهاب نحو المجهول، على أن يتراجع خطوة نحو الوراء من أجل سحب مشروع القانون، الذي طرحه خلال حملته الانتخابية الرئاسية قبل عام. ولكونه لا يمتلك حق الترشح لولاية رئاسية ثالثة، وليس هناك تهديدات كبيرة تدفعه للاستقالة، فقد استمر في مشروعه حتى النهاية، وعليه أن يواصل حكمه خلال الأعوام الأربعة الباقية من ولايته وسط احتقان سياسي واجتماعي كبير في ظل استمرار الأزمات الاقتصادية لأسباب داخلية وخارجية.
وتجمع التقديرات كافة على أن التصعيد هو الذي سيطبع المرحلة المقبلة، وأن النقابات والمعارضة ستعمل في المدى المنظور على إسقاط الحكومة الحالية، ووضع الحواجز أمام ماكرون لمنعه من أن يكمل بقية ولايته بهدوء، وهذا سيدشن معركة مفتوحة تكون نتيجتها كارثية على الوضع العام.