فلسطينيات سورية وتبعات التهجير القسري

26 مارس 2023
مظاهرة تضامنية مع فلسطين في مخيم دير بلوط (رامي السيد/Getty)
+ الخط -

طاولت تداعيات الثورة السورية اللاجئين الفلسطينيين السوريين، بدايةً من قصف الطيران الحربي السوري "ميغ" جامع عبد القادر الحسيني في 16/ 12/ 2012، ما أجبر مئات العائلات على النزوح إلى خارج المخيم، فيما رفضت عائلات أخرى فكرة الخروج، لتصبح معاناتها سلسلة من المآسي اللامتناهية، كالقصف والحصار والتجويع والتهجير.

تتصدر النساء الفلسطينيات المشهد بمعاناة مضاعفة، فهنّ مجبرات على ممارسة أدوارهن وحماية أسرهن، في ظل حرمانهن أبسط الحقوق الإنسانية، التي خلقتها الظروف السائدة في المخيم.

تجسدت الكارثة الكبرى في شهر يوليو/ تموز 2013، مع فرض حصارٍ كاملٍ على مخيم اليرموك، وانعدام الخدمات فيه، من ماء وكهرباء واتصالات، وانهيار القطاع الصحي، ليعلن منطقة منكوبة.

في الحصار، شاهدت الكاتبة نساء المخيم شاحبات وهزيلات، يجبن مناطق جنوب دمشق المحاصر، للبحث عن فتات الخبز، أو بعض البهارات، بغرض غليها مع الماء (شوربة ماء)، وعن أعشابٍ غير صالحةٍ للأكل البشري في الظروف العادية. الحصار كارثة لا يمكن لمن خاضه نسيان فظاعته، خصوصاً النساء ممن خاطرن بحياتهن لجمع الأعشاب من أراضٍ طاولتها رصاصات القناص، واللاتي أرغمن برفقة أطفالهن على أكل لحوم القطط والكلاب، كي لا يضافوا إلى قائمة شهداء الجوع، التي تجاوزت مائتي شهيد في المخيم حينها.

 

كذلك، شاركت النساء في اعتصامات (ساحة الريجة)، المطالبة بفك الحصار، رغم قنص المشاركين فيها، من قبل قوات النظام المتمركزة على مدخل المخيم، موقعةً ضحايا من النساء والأطفال والرجال.

سلط الإعلام الضوء على كارثة المخيم اللاإنسانية في الشهر الأول من 2014، الأمر الذي أرغم النظام على تجميل حصاره اللاإنساني، عبر السماح للمدنيين بالخروج صباحاً إلى مدخل المخيم أو ساحة الريجة، بغرض تسلّم المساعدات أو التبضع، لتضاف مهمة جديدة إلى نساء المخيم، الخائفات من اعتقال قوات النظام لرجال المخيم وشبانه، كعادة أجهزة أمن النظام والمليشيات العاملة معه.

شقت النساء طريقهن إلى ساحة الريجة، متحملات البرد القارس والانتظار الطويل، فضلاً عن خطر الموت، نتيجة الاشتباكات الدائرة في أثناء وجود المدنيين، حتى أطلق سكان المخيم على مواد المساعدات مصطلح "كرتونة الدم"، بعد قتل قوات النظام مدنيين عديدين في أثناء سعيهم للحصول عليها.

مع مرور الوقت، أدرك المهجرون أن لا أمل بحلّ جماعي ينقذهم جميعاً، فبحثوا عن حلولٍ فرديةٍ، رغم صعوبتها

استمر تدهور الأوضاع بعد سيطرة تنظيم "داعش" على المخيم في 1/ 4/ 2015، وازدادت أعباء النساء، واشتد الخناق مع انعدام الأمن، لذا بدأت حركة نزوح جديدة إلى بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، فيما آثرت بعض النساء، وخصوصاً الطاعنات في السن، البقاء في المخيم، رغم الوضع الكارثي، مرددات عبارة: "لن أترك المخيم إلا إلى قبري أو إلى فلسطين".

في 19/ 4/ 2018 بدأ النظام حملة عسكرية جهنمية على مخيم اليرموك، ترافقت مع إغلاق حاجز يلدا، شريان المخيم الوحيد في ظل الحصار، وطاول القصف العنيف المدنيين، مسقطاً جرحى وقتلى، منهم نساءٌ وأطفالٌ، ولم يسلم منه كذلك المدنيون المحتمون في الملاجئ، التي اخترقتها صواريخ أرض ــ أرض، لتدفن عائلات بأكملها تحت الأنقاض، لم يتمكن أحد من إخراجها، نتيجة القصف المستمر، وفق شهود عيان.

بقيت أنظار أهالي المخيم موجهة نحو المخيم، فهو وطن سكانه الصغير وعاصمة شتاتنا، تراقبه يحترق نتيجة تساقط الصواريخ والبراميل والقنابل العنقودية.

في 3/ 5/ 2018، بدأ تنفيذ اتفاق التسوية المبرم بين فصائل المعارضة والنظام السوري بإشرافٍ روسي، حينها دخلت حافلات التهجير القسري إلى يلدا، ولم يملك الفلسطينيون الموجودون هناك ترف الاختيار، إنه التهجير القسري، فلا ضمانات للباقين، هي تغريبة أخرى، نُزعوا من مخيمهم حاملين مفاتيح الدار والكثير من الذكريات المعجونة بالألم، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وانطلقت قوافل التهجير نحو الشمال.

وصلت قوافل التهجير القسري إلى المنفى الجديد، مخيم دير بلوط، خيامٌ بيضاء تمتد على أرضٍ منخفضةٍ، تحيط بها بساتين الزيتون والرمان، ونهرٌ يجري بمحاذاته، ضياعٌ متراميةٌ، يا له من مشهدٍ خلابٍ، لزائرٍ يهوى الطبيعة والتقاط الصور، ما أجمل الطبيعة وما أبشع الخيام! هنا بدأ فصلٌ جديدٌ من المعاناة، التاريخ يعيد نفسه، كأنها نكبة الـ 48، حين نقول خيمة يعني مخيم، "احنا ختمنا الخيمة" كما قال ناجي العلي.

تصدت المرأة المشهد من جديد، فهي تدرك تماماً أن حجم المسؤولية التي ستقع على عاتقها مختلف عن السابق، لها طعمٌ مختلفٌ أشد مرارةً، هي ابنة المخيم، لكن مخيم عن مخيم يختلف، فقد تحول مخيم اليرموك على مدار سنوات إلى حيّ سكنيّ، مخيم يشبه المدن.

استمرت رحلة التهجير ثلاثة أيام، تسلمت العائلات المهجرة الخيام بعدها، دخلت النساء سريعاً إلى الخيام البيضاء، التي كانت بمثابة أكفان لهن، فجميعهن متعبات، خصوصاً الحوامل والمرضعات وكبار السن.

استيقظ الجميع باكراً، فحرارة الشمس تلهب الخيمة، يا له من صباح سيّئ؛ الأطفال يصرخون من الحر والجوع، وأصوات الرجال تعلو بالسب والشتم، ما هذا المنفى؟

تتصدر النساء الفلسطينيات المشهد بمعاناة مضاعفة، فهنّ مجبرات على ممارسة أدوارهن وحماية أسرهن، في ظل حرمانهن أبسط الحقوق الإنسانية

حاولت النساء التأقلم مع الوضع الجديد، رغم معاناتهن من أشد الظروف اللاإنسانية وأعقدها، فهي ركيزة العائلة الرئيسية، كذلك ستصبح ركيزة خيمتها الجديدة، فهي فلسطينية ورثت الصبر والقوة في جيناتها، ومعاناتها أمست روتينها اليومي.

انعدمت فرص عمل النساء في مخيم دير بلوط، بسبب بعد المدن عنه عشرات الكيلومترات، ونتيجة حواجز فصائل المعارضة العديدة، التي تعوق حركة النساء، بالإضافة إلى موقع المخيم غير الآمن بالنسبة إلى الأطفال، فهو قريبٌ من النهر، الذي غرق فيه أطفالٌ مهجرون كثر، فضلاً عن الأحراج المحيطة بالمخيم، والمليئة بالعقارب والحشرات السامة. لذا، باتت حماية الأطفال أولوية النساء.

تضاعفت مهام النساء في غياب الرجال، نتيجة الاستشهاد أو الاعتقال أو البحث عن عمل، ليبدأن يومهن بنقل المياه إلى الخيام، وغسل الملابس بأيديهن، فضلاً عن تسلّم السلل الغذائية، عبر بطاقة إغاثية مستنسخة عن بطاقة الإعاشة. وأخيراً، بعد يومٍ شاقٍ وطويلٍ، عليهن الجلوس أمام الخيام لمراقبة الأطفال ذوي الأجساد النحيلة والمصبوغة بآثار الشمس الحارقة، حينها تتبادل النسوة أطراف الحديث بأصواتٍ يملأها الحنين إلى مخيم اليرموك.

تفاقمت معاناة النساء، وتردت أوضاع المخيم الاقتصادية والصحية والاجتماعية، نتيجة غياب كل الجهات الرسمية والفصائلية الفلسطينية، وبحكم استثناء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فلسطينيي الشمال من نطاق خدماتها.

نظم أهالي المخيم اعتصامات تناشد الأونروا التدخل وأداء دورها تجاههم، فهم ما زالوا ضمن الأراضي السورية، وطالبوا أيضاً بتدخل منظمة التحرير الفلسطينية لإنهاء معاناتهم، وتطبيق حق العودة إلى فلسطين، شاركت النساء في هذه الاعتصامات بفاعلية، لكن لم تستجب الجهات الفلسطينية والدولية المعنية لهذه الطلبات!!

تمسك فلسطينيو الشمال بهويتهم الوطنية، رغم عزلهم عن العالم، فرفعوا أعلام فلسطين على خيامهم، ورسموا حنظلة، وخطوا أشعار درويش وأقوال كنفاني على أقمشة الخيام، وأحيوا يوم الأرض وذكرى النكبة، وتمسكت النساء بعاداتهن الفلسطينية، فصنعن الخبز الفلسطيني، وحاولن صنع بهجة العيد بما يتوافر لديهن من إمكانات بسيطة، فأعددن الحلويات الفلسطينية (الكليجة والمقروطة).

مع مرور الوقت، أدرك المهجرون أن لا أمل بحلّ جماعي ينقذهم جميعاً، فبحثوا عن حلولٍ فرديةٍ، رغم صعوبتها، منها دخول الأراضي التركية المحفوفة بمخاطر التهريب، باحثين عن عملٍ أو هجرةٍ إلى دول أوروبا، تاركين خلفهم نساءهم وأطفالهم، في سبيل بحثهم عن عيشٍ آمن، ولو بعد سنوات.

هنا بدأ فصلٌ جديدٌ من المعاناة، التاريخ يعيد نفسه، كأنها نكبة الـ 48، حين نقول خيمة يعني مخيم، "احنا ختمنا الخيمة" كما قال ناجي العلي.

بعد مرور خمس سنوات على التهجير القسري، تستمر أوضاع النساء بالتدهور على الأصعدة كافة، فبقاؤهن في المخيم لم يكن تأقلماً معه، بل خياراً أُجبرن عليه، لم ينتمين إلى هذا المكان، وحلم العودة إلى الوطن الصغير اليرموك يتبدد شيئاً فشيئاً، كما حلم العودة إلى فلسطين، الهجرة هي الحلم الطاغي اليوم، إلى مكانٍ أكثر أمناً، يضمن لأبنائهن مستقبلاً أفضل.