لطالما كانت قضيّة فلسطين مركزيّة للمنطقة بسبب تعقيداتها وعلاقتها بدول عظمى ومشاريع استعماريّة تدخل في كل مناحي حياتنا تقريبًا، وترتبط جوهريًّا بالقضايا المختلفة لشعوب المنطقة، حاضرها ومستقبلها. لكن، كيف تفاعلت النّظم العربيّة المختلفة مع قضيّة فلسطين؟ وكيف تطوّرت العلاقة بينها؟ ولماذا فشلت في حلّها؟ والأهم، ما هي الدروس التي نتعلّمها من هذه التّجربة؟
حتّى قبل احتلال الجزء الأكبر من فلسطين في حرب عام 1948، كان النظام الرسمي العربي في طور التشكيل، حيث كانت تُعقد اتفاقيات استقلال العديد من الدول العربية التي كانت خاضعة آنذاك لاستعمار بريطانيا وفرنسا. كان الدور الرسمي للنظم العربية في ما يحدث في فلسطين يقتصر حينها على إرسال دعم متقطّع للمقاومة الفلسطينيّة، كما عملت أحيانًا بالتعاون مع المستعمر البريطاني هناك على محاصرة وتهدئة الانتفاضات في أوج اشتعالها. المثال الأشهر على ذلك كان عندما توسّطت الأنظمة العربيّة الناشئة في العراق ومصر والسعوديّة والأردن لدى الفلسطينيين، لفكّ إضرابهم الكبير الذي استمرّ لستّة أشهر فيما عُرِف بـ "الثورة الكبرى" عام 1936. كانت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وقتها تطالب بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني ووقف الهجرات اليهوديّة ومشروع إقامة دولة صهيونيّة على أرض فلسطين، في ما يُعتبر الآن من أهم محطّات النّضال الفلسطيني منذ نهاية القرن التاسع عشر.
احتلّت القضيّة الفلسطينيّة موقعًا جوهريًّا بعد هزيمة العرب في نكبة عام 48، التي شاركت بها ستّة جيوش غير منظّمة
احتلّت القضيّة الفلسطينيّة موقعًا جوهريًّا بعد هزيمة العرب في نكبة عام 48، التي شاركت بها ستّة جيوش غير منظّمة، وبأعداد صغيرة وإمكانات ضعيفة والكثير من الأسلحة الفاسدة، والتي أدّت إلى احتلال الجزء الأكبر من فلسطين وتهجير مئات الآلاف من سكّانها الفلسطينيّين، وإعلان قيام دولة "إسرائيل". لقد وصلت محوريّة القضيّة في المنطقة إلى حدّ اعتبار فشَل الأنظمة في الحفاظ على فلسطين مبرّرًا لانقلابات عسكريّة كثيرة على معظم أنظمة الحكم وقتها، كانقلاب الضباط الأحرار بقيادة محمّد نجيب على الملكيّة في مصر، وانقلابات أخرى متعاقبة في سورية والعراق، وسط تدخّلات دول عظمى تسعى للهيمنة عليها.
بين النكبة والنكسة، بدأ محوران بالتبلور: الأوّل لأنظمة حملت مشاريع وأفكاراً قوميّة تحرّريّة تمثّلت بالتيار الناصري، متحالفة مع المعسكر الشرقي الاشتراكي، وأنظمة أخرى تحمل أجندات قُطريّة، تسعى لحفظ نفوذها الخاصّ، ممثّلة بالسعوديّة، متحالفة مع المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، الحليف الأبرز "لإسرائيل" منذ ذلك الوقت. كان المحور الأول ينظر إلى المشروع الصّهيوني كتهديد للمنطقة ويعتبرها قضيّة عربيّة، بينما الثاني كان يفضّل تجنّب المواجهة، والتماهي مع الإرادة الأميركيّة.
في خضم صراع المحورين في المنطقة، خصوصًا بين مصر والسّعوديّة، مُنيت الأنظمة العربيّة بهزيمة فادحة خلال العدوان الصهيوني عليها في نكسة عام 67، تمثّلت باحتلال أراضٍ واسعة من الدول المحيطة بالكيان الصهيوني، وتدمير نحو 70% من قدراتها العسكريّة، بالإضافة لاحتلال ما تبقّى من أرض فلسطين، وتهجير عشرات الآلاف من أهلها. كان من النتائج السياسيّة لذلك إجماع الأنظمة العربيّة على ما يسمّى بـ"لاءات الخرطوم" (لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل)، والتي مثّلت تراجعًا من الفعل والمواجهة إلى تبنّي موقف الرّفض والمقاطعة، وهو الذي سرعان ما تخلّت عنه بعد سنوات.
على وقع هزيمة الـ67، ساد شعورٌ عام بفشل النظم في تحرير فلسطين، ما أدّى إلى صعود قوى وطنيّة شعبيّة
على وقع هزيمة الـ67، ساد شعورٌ عام بفشل النظم في تحرير فلسطين، ما أدّى إلى صعود قوى وطنيّة شعبيّة أخذت على عاتقها مهمّة المواجهة مع المُحتل. حيث كان الحسّ والوعي الشعبي المشترك متضامنًا مع النضال الفلسطيني بقوّة، وكان المجتمع يشهد نشاطًا سياسيًّا وفكريًّا، وكانت الأفكار القوميّة واليساريّة في أوج قوّتها. أمّا الأنظمة، فقد اضطرّت إجمالًا إلى مجاراة الرأي العام من خلال تقديم دعم حذر لحركات المقاومة، وبما ينسجم مع مصالحها ونفوذها، ولكنّها لم تطرح أي مبادَرةٍ أو تبدي أي سعيٍ حقيقي لمواجهةٍ مباشرة مع الاحتلال بهدف تحرير فلسطين. كان قلقها الأهم هو من التأثير الثوري للمقاومة الفلسطينيّة على شعوبها التي تعمل على إخضاعها، كما أن المقاومة كانت تُحرجها دوليًّا، وتوّرطها في صراعاتٍ مع الكيان الصهيوني وامتداداته الكولونياليّة.
تشتّت شمل النظام العربي مع وفاة عبد الناصر وتراجع مشروعه القوميّ بعد النكسة، وبدأت النظم بالتقوقع على ذاتها، وسادت الخطابات والأفكار القُطريّة، وتقدّمت الهويّة الإقليميّة الأضيق على حساب الهويّة العربيّة. ما قاد إلى أمرين: الأوّل هو اعتبار الصراع مع "إسرائيل" فلسطينيًّا وليس عربيًّا، والثاني هو أنّ صراع الدول العربيّة مع إسرائيل هو على الأراضي التي احتلتها من كل دولة منها في حرب عام 67. عمليًّا، كان ذلك يعني التحرّر من عبء قضيّة معقدّة تُقلق أمن الأنظمة الداخلي والخارجي، كما عنى التصالح مع كل ما حدث قبل النكسة ليصبح الصراع على ما بعدها، أي التخلّي عن الجزء الأساسي من حقوق الفلسطينيّين والقبول بالمشروع الصهيوني.
شهدت السبعينات والثمانينيات أيضًا تدّخلات رسميّة عربيّة أكثر في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ونضالها
تمثّل وتكرّس هذا النهج الجديد في السبعينات، عندما شنّت مصر وسورية حربًا لاستعادة أراضيهما المُحتلّة عام 67. كما اعترفت الدول العربيّة بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة كممثّل شرعي ووحيد للفلسطينيّين وقضيّتهم. ومع نهاية السبعينيات، بدأت أول الخطوات العمليّة لتخلّي الأنظمة عن القضيّة الفلسطينيّة وتصفية الصراع ثنائيًّا مع "إسرائيل" عندما وقّعت مصر أوّل اتفاقيّة سلام معها.
شهدت السبعينات والثمانينيات أيضًا تدّخلات رسميّة عربيّة أكثر في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ونضالها، من خلال دعم فصائل معيّنة وتطويعها لتنسجم مع سياساتها، وتشجيع الانشقاقات فيها، واستخدامها في صراعاتها مع أنظمة عربيّة أخرى، كما حصل بين سورية والأردن، أو مصر وسورية، وغيرها. كما شهدت صراعات مسلّحة بين جيوش عربيّة وفصائل الثورة الفلسطينيّة في الأردن ولبنان، وأيضًا فيما بين الفصائل نفسها كما حصل في "حرب المخيّمات" في لبنان بحلول منتصف الثمانينيات.
بعد تصفية المقاومة الفلسطينيّة في لبنان وإبعادها عن دول المواجهة إلى تونس، وانهيار المعسكر الاشتراكي، بدأت خطوات الأنظمة تتسارع نحو السلام مع "إسرائيل"، وتُرِك الفلسطينيّون وحدهم بعد تجريدهم من مقاومتهم، ما شجّع القيادة الفلسطينيّة على تبنّي خيار السلام والمفاوضات بنفس المنطق الّذي تبنّته الأنظمة العربيّة المقرّبة منها. هكذا، تحوّلت القضيّة من صراع تحرّري عربي مع المشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة إلى الاعتراف والسلام والتطبيع معه، ومحاصرة أي شكل من أشكال المقاومة ضدّه، كما يجري الآن في غزّة.
أنظمة ما يسمّى بمحور الثورة المضادّة بقيادة الإمارات، وهي تذهب إلى أبعد مدى في تماهيها مع دولة الاحتلال
لم يكن النضال من أجل تحرير فلسطين وهزيمة المشروع الصّهيوني واستعادة الحقوق على أجندة معظم النظم العربيّة، مع استثناءات قليلة في فترة محدودة. بل كان شاغلها الأساسي كما يظهر هو نهب الشعب، وتثبيت دعائم حكمها من خلال قمع معارضيها، واستثمار علاقاتها مع الخارج للحصول على القبول والحماية مقابل تقديم تنازلات سياسيّة تحديدًا فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، والأمثلة على ذلك كثيرة. لقد أبدعت الدول العربيّة في تطويرِ أدوات القمع والسيطرة بدلًا من تطوير أدوات التقدّم والتحرير، وفي التهرّب من استحقاقاتها تجاه التنمية والديمقراطيّة بحجّة التفرغ للصراع مع "إسرائيل".
المثال الأبرز على أبشع استغلال للقضيّة الفلسطينيّة للحفاظ على السلطة، يتمثّل في النظام السوري، خصوصًا خلال حكم عائلة الأسد. تمثّل ذلك بمحاولة السيطرة على العمل الفدائي في السبعينيات وتطويعه لأجندته، وضرب التنظيمات الفدائيّة الرافضة لهيمنته، وخلق تنظيمات تابعة وتشجيع الانقسام والاقتتال فيما بينها. وبينما يمنع النظام أي مقاومة تنطلق من سورية ضد "إسرائيل" منذ عام 67 ويكتفي بدعم المقاومة في أماكن أخرى، نراه في المقابل يخوض حربًا لا يمكن وصف قذارتها ضدّ شعبه وأرضه منذ 8 سنوات، والتبرير هو أنه يواجه مؤامرةً على المقاومة. حجّةٌ لا يمكن أن تأتي سوى من عقلٍ قذر ومريض، يُشوّه معاني المقاومة، ويُحرّف قيم القضيّة.
مثالٌ آخر نراه اليوم في أنظمة ما يسمّى بمحور الثورة المضادّة بقيادة الإمارات، وهي تذهب إلى أبعد مدى في تماهيها مع دولة الاحتلال. وذلك في مسعاها للالتفاف على ثورات الربيع العربي وضربها بكل السبل، بما فيها التحالف مع "إسرائيل" في مشروع يواجه المشروعين الإيراني والتركي للهيمنة على المنطقة، تحت غطاء تبريرات تُظهر عُقد النقص والفشل. مشروع يتناقض بشكل فاضح مع إرادة مجمل الشعوب العربيّة، ويتطلّب جرّ الثورات إلى صراعات طائفيّة وحروب أهليّة تفكّك المنطقة، كما يتطلّب دمج الاحتلال في المنطقة، باستخدام أدوات دينيّة وإعادة قراءة التاريخ، وشتم الفلسطينيّين والاستقواء عليهم. ليس من المستغرب أن تتحالف أنظمة الثورة المضادّة مع "إسرائيل". ألا يتشارك كلاهما القلق من الثورة وما بعدها في المنطقة؟
في المقابل، على المستوى الشعبي، كانت القضيّة الفلسطينيّة ومقاومة المشروع الصهيوني طوال هذه العقود تقع في مركز الاهتمام العام. حيث كما أصبحت القضيّة الفلسطينيّة أداةً للهيمنة والفساد بالنسبة للأنظمة، أصبحت في المقابل، بالنسبة للشّعب، رمزًا لحريّة وكرامة الإنسان العربي، كما رمزًا للنضال الإنساني ضدّ كلّ ظلمٍ واضطّهاد. تمثّل التضامن الشعبي مع النضال الفلسطيني في الانضمام إلى صفوف المقاومة وتقديم الشهداء والأسرى، كذلك في النشاط السياسي داخل الأقطار العربيّة، وفي المقاطعة ورفض التطبيع. فوق كل ذلك، صبرت شعوب المنطقة طويلًا على نيل حقوقها الأساسيّة في الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وعلى تعطّل التنمية وفساد السلطات العربيّة، بتصديقها جزئيًّا لادعاءات النظم بـ"أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
لا تغيب قضيّة فلسطين عن وجدان شعوب المنطقة، حتى وهي تنتفض اليوم ومنذ سنوات للمطالبة بالديمقراطيّة وبحقوقها الأساسيّة بعد تفاقم مشكلاتها وفقدانها لأيّة ثقة بالمنظومة العربيّة الحاكمة. وهي بالمجمل تربط ما بين نضالها من أجل نيل حقوقها وتحرير فلسطين، وتدرك أن هزيمة المشروع الصهيوني بحاجة لأنظمة تعبر عن إرادتها، وثورتها بالمجمل في تناقضٍ واضح مع دولة الاحتلال. كما تتجلّى مركزيّة القضيّة في الوعي الشعبي باستخدامها لتفسير الأحداث من حولها وكبوصلة سياسيّة تبني عليها المواقف من الأنظمة والقوى السياسيّة والدوليّة.
لا تغيب قضيّة فلسطين عن وجدان شعوب المنطقة، حتى وهي تنتفض اليوم ومنذ سنوات للمطالبة بالديمقراطيّة
بمراجعة الوقائع وتأمّلها، نرى أنّ الأنظمة العربيّة لم تأت كنتيجة لتطوّر طبيعي لحركة المجتمع، بل نشأت بطرق غير شرعيّة بعد استعمارٍ طويل، من خلال الاتفاق مع المستعمر مقابل أثمان سياسيّة واقتصاديّة، أو عن طريق انقلابٍ عسكري لضبّاط متحمّسين. لذلك، تفتقد الأنظمة العربيّة للعقلانيّة والأهليّة لقيادة المجتمع، ناهيك عن عدم قدرتها على إنتاج وإنجاز أي مشروع تحرّري. التطوّر الطبيعي لهذه الأنظمة أدّى بها إلى أنظمة استبداديّة شموليّة فاسدة، مهووسة بالسلطة، مستعدّة للقيام بأي شيء للحفاظ على وجودها. لذلك، من غير الموضوعي أن نتوقّع من أنظمة عاجزة وغير شرعيّة ومستبدّة أن تقدّم حلًّا للقضيّة الفلسطينيّة أو لأيٍّ من مشاكل المنطقة. أليس التلاعب والتهرّب بديل الضعيف عن تحمّل المسؤوليّة والمواجهة؟