- استمرار العمليات العسكرية والتوغلات في مناطق مختلفة من قطاع غزة، مع بدء عملية برية في المنطقة الوسطى، يشير إلى استمرار التوتر وعدم استقرار الوضع.
- تجدد العمليات العسكرية في رفح واستمرار الصراع في الضفة الغربية، مع مفاوضات أميركية إسرائيلية بحضور مصر، تعكس تعقيد الوضع الأمني والسياسي وتؤكد على الحاجة لحلول سلمية.
شهد شهر إبريل/نيسان الجاري تطوراتٍ ميدانيةً مهمةً في ما يخص العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. إذ يمكن الحديث عن ثلاثة تطوراتٍ ومستجداتٍ أساسيةٍ، تتمثل في انسحاب جيش الاحتلال من مدينة خانيونس جنوب القطاع أوائل الشهر، ثم بدء العملية البرية في المنطقة الوسطى في منتصفه، وفي الأسبوع الأخير نفّذ الاحتلال ولا يزال توغلاتٍ مفاجئةً لساعاتٍ وأيّامٍ قليلةٍ في بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا، إضافةً إلى عودة العملية والاجتياح البرّي في مدينة رفح، أقصى الجنوب، إلى الواجهة وجدول الأعمال، خصوصًا بعد إسدال الستار على الاستعراض الإيراني الأخير، للرد على تدمير إسرائيل مبنى القنصلية في دمشق. وعلى صلةٍ مباشرةٍ بغزّة وتطوراتها شهد مخيّم نور شمس قرب مدينة طولكرم، شمال الضفّة الغربية، في الأيّام الماضية اجتياحًا دام ساعاتٍ عدّة، وأدى إلى استشهاد واعتقال العشرات، ودمارٍ هائل بالبنى التحتية والممتلكات، في مشهدٍ بدا شديد الشبه بما يجري في غزّة.
إذن، أعلن جيش الاحتلال، في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، انسحابه من مدينة خانيونس، علمًا أنّه بدأ الاجتياح والعملية هناك ضمن المرحلة الثانية من العدوان البري، مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد انتهاء الهدنة الأولى، أي استمرت العملية أربعة أشهرٍ تقريبًا، أي أكثر من نظيرتها في الشمال، التي استمرت شهرين فقط.
بناء على التطورات السابقة؛ عادت عملية رفح إلى الواجهة، مع تفاوضٍ أميركيٍ إسرائيليٍ بحضورٍ مصريٍ، حول تفاصيلها وآلياتها
كشف الانسحاب الإسرائيلي عن تدميرٍ شبه تامٍ للمدينة الثانية في القطاع، التي كان يسكنها قرابة نصف مليون مواطنٍ، وحسب إحصائياتٍ أمميةٍ؛ دُمر 55% من أبنيتها ومرافقها، وهُجرَ أهلها، وسقط عددٌ كبيرٌ من الشهداء والجرحى والمفقودين، كما دُمر مستشفى ناصر تمامًا، الأكبر والأعرق في المدينة، كما حصل مع مستشفى الشفاء، قلب غزّة الصحي النابض، حسب تعبير منظّمة الصحة العالمية، الذي حوّله الاحتلال إلى هيكلٍ فارغٍ، ممتلئٍ بجثث الشهداء، كما يتوالى الكشف عن المقابر الجماعية هنا وهناك.
تأخر الانسحاب من خانيونس شهرين، بعدما استنفدت العملية العسكرية أغراضها، وسُرِّحَت معظم قواتها المشتركة، النظامية والاحتياطية، إذ جرت المماطلة في الانسحاب لأسبابٍ سياسيةٍ بحتةٍ، بسبب خشية رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، من ردّة فعل اليمين الأكثر تطرفًا، وهو ما حصل بالفعل مع تهديداتٍ بإسقاطه إذا ما أعلن نهاية الحرب من دون تنفيذ الاجتياح البري لرفح.
بعد الانسحاب من خانيونس، والقطاع عمومًا، بقي لواء ناحال بممر نتسريم وسط القطاع، إضافةً إلى ثلاثة ألويةٍ أخرى تابعة للفرقة 162، تنتشر شرق دير البلح، وشرق جباليا، وفي محيط معبر بيت حانون، تتولى جميعها التوغلات المفاجئة الجارية حاليًا في الشمال.
انتقل نموذج الشفاء - ناصر إلى المنطقة الوسطى منتصف الشهر الجاري، وتحديدًا إلى المخيّم الجديد شمال النصيرات، إذ تندرج العملية في المنطقة الوسطى ضمن المرحلة الثانية من العدوان، التي تشمل توغلاتٍ لأيّامٍ وأسابيع طويلةٍ، تنفذها الفرقة 162 شمال المخيّم الجديد، وفي المغراقة، والوادي، والزهراء المحيطة بممر نتسريم، الذي يقسم القطاع إلى قسمين، شمالي وجنوبي، ويتحكّم بحركة الغزيين، ويمنع عودة النازحين إلى الشمال.
المفارقة أنّه وعلى الرغم من تكرار مشهد الشفاء - ناصر في الضفّة الغربية، فإن الاحتلال يتحدث كذلك عن إتباع نموذج الضفّة الغربية في قطاع غزّة
رغم استمرار العملية في النصيرات لأسبوع فقط، أو ثمانية أيّامٍ للدقة، فإنّها أدت إلى دمارٍ كبيرٍ، وسقوط مئات الشهداء والمصابين والمفقودين، وآلاف الأمتار والمساحات المدمّرة من البنى التحتية العامّة والخاصّة، ثمّ انتقلت في الأيّام الماضية إلى مدينة دير البلح المجاورة، ويفترض أن تنتهي في مخيّم المغازي خلال أيّامٍ، حتّى نهاية الشهر الجاري، بالتالي طي وإسدال الستار عن المرحلة الثانية من العدوان، كما رأيناها منذ انطلاق العملية البرية نهاية أكتوبر/تشرين الأول ومطلع نوفمبر/تشرين الثاني، بانتظار حسم العملية في رفح.
كذلك نلحظ أمرًا لافتًا، يتمثّل في عدم اجتياح المنطقة الوسطى، رغم صغر مساحتها نسبيًا، دفعةً واحدةً، وفي التوقيت ذاته، كما جرى في الشمال، أو حتّى في خانيونس، وذلك لأسبابٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ وميدانيةٍ عدّة، منها إنهاك قوات الاحتلال بعد استمرار القتال وحرب الاستنزاف لشهورٍ، كما من أجل تخفيف ردات الأفعال الدولية على المجازر والجرائم، وعلى نموذج الشفاء - ناصر، المتنقل شمالًا وجنوبًا ووسطًا.
بناء على التطورات السابقة؛ عادت عملية رفح إلى الواجهة، مع تفاوضٍ أميركيٍ إسرائيليٍ بحضورٍ مصريٍ، حول تفاصيلها وآلياتها، وليس حول تنفيذها من عدمه، إذ باتت أمرًا محسومًا للأسف. كما حصل في المنطقة الوسطى، لن يحصل اجتياحٌ لكلّ المدينة دفعةً واحدةً، إنّما ستنتقل قوات الاحتلال من حيٍ إلى آخر، أو من مربعٍ إلى آخر، حسب الخطة الموضوعة، مع إعطاء مجالٍ لمغادرة النازحين إلى خانيونس ووسط القطاع.
شهدنا خلال الفترة الماضية نفسها استمرار تطبيق المرحلة الثالثة من العدوان، وتنفيذ غاراتٍ وتوغلاتٍ مفاجئةٍ، ومحددة المكان والزمان في الشمال، وفي مدن غزّة، وبيت لاهيا، وبيت حانون، ومخيّمات جباليا والبريج، للقضاء على جيوب المقاومة، أو جز العشب، حسب تعبير الاحتلال، مع اتباع نموذج جنين - طولكرم - نابلس والضفّة الغربية في بيت حانون، وبيت لاهيا، وغزّة.
جرت المماطلة في الانسحاب لأسبابٍ سياسيةٍ بحتةٍ، بسبب خشية رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، من ردّة فعل اليمين الأكثر تطرفًا
هذا ينقلنا إلى الضفّة الغربية، وتحديدًا إلى مخيّم نور شمس قرب طولكرم، الذي اجتاحه الاحتلال لساعاتٍ طويلةٍ (50 ساعةٍ)، ما أدى إلى سقوط 14 شهيدًا، واعتقال وإصابة آخرين، إذ بدا المشهد شبيهًا بالشفاء وناصر، لجهة الركام والدمار الهائل في البنى التحتية المتواضعة، رغم صغر مساحة المخيّم، ثلث كيلو متر مربع، ومن حيث جثث الشهداء الملقاة في الشوارع المدمّرة.
المفارقة أنّه وعلى الرغم من تكرار مشهد الشفاء - ناصر في الضفّة الغربية، فإن الاحتلال يتحدث كذلك عن إتباع نموذج الضفّة الغربية في قطاع غزّة، بمعنى تنفيذ توغلاتٍ بريةٍ مفاجئةٍ محدودةٍ زمانيًا ومكانيًا، يتمثّل الاستنتاج الأساس والمركزي هنا في الرغبة بفرض سيطرةٍ أمنيةٍ وعملياتيةٍ كاملةٍ على غزّة كما في الضفّة الغربية، ومحاولة استنساخ سلطةٍ محليةٍ، وإدارةٍ ذاتيةٍ ما لكن من دون إطارٍ، أو توافقٍ سياسيٍ، ومن دون "فتحستان وحماستان"، حسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
يمثّل هذا، بلا شك، هروبًا موصوفًا للاحتلال الإسرائيلي إلى الأمام سياسيًا وميدانيًا، وبالتالي الغرق في المستنقع، أو التوحل في غزّة، حسب التعبير المتداول في الإعلام العبري، مع رفض أيّ نقاشٍ سياسيٍ حول اليوم التالي، ورفض التعاطي مع الجذر السياسي للقضية الفلسطينية، في رغبةٍ مبطنةٍ لنتنياهو بالعودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، ولو بتحديثٍ ما، لجهة استمرار الحصار، والانقسام، وإزاحة القضية عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي.
بالعموم؛ سيستمر المشهد الراهن في غزّة والضفّة الغربية شهورًا، وربما سنواتٍ، ولا بدّ من ترجمة الصمود والعناد الشعبي الفلسطيني في مواجهة الجرائم الإسرائيلية سياسيًا ومؤسساتيًا، من خلال إعادة بناء منظّمة التحرير على اعتبارها مرجعيةً قياديةً عليا، وتشكيل حكومة توافقٍ، وبلورة استراتيجيةٍ وطنيةٍ موحدةٍ، كي لا تضيع هذه التضحيات الشعبية الهائلة وتذهب سُدّىً وهدرًا.