يخرج صراع آخر مفتوح منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وعدم ترسيم الحدود بشكل عادل ومتكامل بين الجمهوريات التي انفرط عقدها في عام 1991 إلى العلن من جديد، وهذه المرة بين قرغيزستان وطاجكستان، اللتين تتنافسان منذ ثلاثة عقود على مصادر المياه والحدود، لينفجر الخلاف إلى اشتباكات بين جيشي البلدين نهاية إبريل/ نيسان الماضي، قُتل فيه العشرات وأصيب أكثر من 300 شخص، قبل اتفاق الطرفين بداية مايو/ أيار الحالي على احتواء موجة العنف ووقف إطلاق النار، وعقد لقاء بين رئيسي البلدين لمناقشة المشاكل الحدودية.
هذا الوضع، دفع روسيا، للمرة الثانية في أقل من عام، إلى لعب دور رجل الإطفاء، لتجنّب حرائق جديدة في محيطها السوفييتي السابق. وبعد تمكّنها من وقف الحرب في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تستعد موسكو للعب دور الوساطة في الصراع بين قرغيزستان وطاجكستان، مدفوعة أيضاً بمخاوف من تمركز أميركي في المحيط الروسي، بعد تسريبات عن نيّة الولايات المتحدة نقل عدد من جنودها وطائرات من دون طيار، إلى قواعد في أوزبكستان أو طاجكستان، بعد انسحابها بالكامل من أفغانستان، لدعم الحكومة الأفغانية ومنع تمدد حركة "طالبان" إن اقتضت الحاجة. ودخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوة على خط الوساطة بين بيشكك ودوشنبه. وبعد مباحثات مع الرئيس الطاجكي إمام علي رحمن، في 8 مايو الحالي، اتصل بوتين هاتفياً بالرئيس القرغيزي صدر جباروف، في 10 مايو، وأعرب عن استعداده للمساعدة في تثبيت استقرار الأوضاع على الحدود مع طاجكستان، داعياً جباروف إلى زيارة موسكو.
تتركز النزاعات الحدودية في آسيا الوسطى بشكل رئيسي في وادي فرغانة
صراع مفتوح وتركة سوفييتية
تصاعدت المشاحنات اليومية بين سكان القرى الحدودية في قرغيزستان وطاجكستان منذ 24 إبريل/ نيسان الماضي، وتطورت لاحقاً إلى اشتباكات بين جيشي البلدين. وتمكّن الطرفان بعد محاولات عدة فاشلة لوقف إطلاق النار من احتواء موجة التصعيد الأخيرة في 2 مايو الحالي، واتفق جباروف ورحمن على قمة ثنائية لمناقشة المشاكل الحدودية في النصف الثاني من الشهر الحالي في دوشنبه. وعلى الرغم من أن الاشتباكات الأخيرة على حدود البلدين كانت الأعنف والأخطر منذ سنوات، إلا أنها لم تكن غير متوقعة، فقد شهد العام الماضي سبع حوادث مسلحة. وفي عام 2014 على سبيل المثال، اشتبكت وحدات من جيشي البلدين أكثر من 30 مرة.
وتتركز النزاعات الحدودية في آسيا الوسطى بشكل رئيسي في وادي فرغانة، الذي تشترك فيه أوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان. ويعدّ التوتر الأخير مثالاً عن الصراعات المفتوحة التي خلّفها انهيار الاتحاد السوفييتي، وعدم ترسيم الحدود بشكل كامل بين الجمهوريات التي انفرط عقدها في 1991.
وفي الحقبة السوفييتية، زوّدت قرغيزستان وطاجكستان الغنيتان بالمياه أوزبكستان وكازاخستان وتركمنستان بالماء، وحصلتا في المقابل على القمح ومصادر الطاقة، وذلك على أساس التبادل. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حاولت هذه البلدان الحفاظ على الاتفاقات الخاصة بحصص المياه، لكن تبيّن أنها غير عملية. وساهم ترسيم الحدود غير المكتمل في تعقيد كل شيء، ما أدى إلى تفاقم النزاعات حول مصادر المياه. واشتد هذا الصراع في العقود الأخيرة، فقد عانت آسيا الوسطى من مشاكل حادة مع نقص الموارد المائية. وحسب تقديرات خبراء، فقد تضاعفت كمية المياه المستهلكة مرتين في الأعوام الخمسين الأخيرة في المناطق الحدودية التي تعتمد أساساً على الزراعات المروية. ومع تقادم البنى التحتية لشبكات الصرف وتوصيل المياه، وتضاعف عدد السكان مرات عدة، ازدادت أزمة نقص المياه.
يقلل خبراء من إمكانية حدوث اختراق كبير في القمة المنتظرة لرئيسي قرغيزستان وطاجكستان
سقف توقعات منخفض
يقلل خبراء من إمكانية حدوث اختراق كبير في القمة المنتظرة لرئيسي قرغيزستان وطاجكستان، نظراً إلى عوامل اقتصادية وسياسية داخلية في كلا البلدين. فجباروف لن يستطيع التخلي عن خطابه الشعبوي القومي الذي يستخدمه للتغطية على فشله في الوفاء بوعوده الانتخابية، وإخفاقه في محاربة الفساد، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، والأهم هو ما كشفته جولة الصراع الأخيرة من عدم قدرة الجيش على توفير الأمن لسكان المناطق الحدودية، وسوء الإدارة في هياكل الدولة. فنتيجة الاشتباكات، أجلت السلطات القرغيزية أكثر من 51 ألفاً من مواطنيها من منطقة الصراع، ومع عجز الحكومة عن تأمين المسكن للهاربين من الحرب، اضطر المواطنون إلى القيام بهذه المهمة، ما أثار نقمة شعبية على جباروف، في واحدة من أكثر مناطق جنوب قرغيزستان فقراً. في المقابل، فإنّ التصعيد الحالي ساعد رحمن أكثر من غيره، فقد أظهرت الحرب المحدودة أنّ نظامه لا يزال قادراً على تعبئة البلاد في مواجهة الخطر، ما منحه شعبية إضافية، تساعده في عملية انتقال السلطة إلى ابنه رستم إمام علي، بعد نحو ثلاثة عقود من حكمه البلاد، ولهذا فمن غير المرجح أن يقدّم تنازلات جدية.
اقتصادياً، فإن ترسيم الحدود عملية مكلفة تحتاج وقتاً طويلاً في مناطق ذات طبيعة جغرافية صعبة. فطوال ثلاثين عاماً، لم يتمكّن البلدان إلا من ترسيم نحو 500 كيلومتر من أصل 980 كيلومتراً، وهناك أكثر من سبعين نقطة حدودية خلافية يقطنها مزيج من السكان وتتداخل فيها الأراضي الزراعية والتجمّعات السكانية، فالحدود في الحقبة السوفييتية كانت فقط لرسم الحدود الإدارية في بلاد واحدة. كما ينطلق البلدان في إثبات حقوقهما الحدودية من خرائط مختلفة للحقبة السوفييتية منذ انضمام البلدين إلى الاتحاد وانفصالهما عنه. وحسب الجانب القرغيزي، فإنّ مركز توزيع المياه في "غولوفنوي" المتنازع عليه، والذي انطلقت بسببه الموجة الأخيرة من التصعيد، هو "هدف استراتيجي لجمهورية قرغيزستان ويقع على أراضيها". من جانبها، تقول دوشنبيه إنه وفقاً لخرائط 1924-1927 و1989، فإن هذا المركز هو ملك بالكامل لجمهورية طاجكستان.
ولا تقتصر الخلاقات حول الحدود والمياه على البلدين فقط، فقد شهدت المنطقة صراعات منتظمة أشعلتها الخلافات الحدودية التي لم يتم حلها وكذلك نقص المياه. وعادة ما تبدأ الصراعات بين سكان القرى الحدودية، لتتطور لاحقاً إلى صراع بين الجيوش. ودفع تكرار الصراع للسيطرة على المياه الرئيس الأوزبكي السابق إسلام كريموف إلى التحذير في 2015 من أنّ سعي أي طرف إلى السيطرة على الموارد المائية في جمهوريات آسيا الوسطى يمكن أن يؤدي إلى حرب شاملة. ومن أجل تجنّب السيناريو الأسوأ، دعا كريموف إلى التوصل إلى موقف متفق عليه بشأن مشاريع الطاقة على الأنهار التي تتدفق عبر أراضي قيرغيزستان وكازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان. ومعلوم أن مناطق واسعة من بلدان دول المنبع للأنهار الرئيسة في المنطقة، ولا سيما قرغيزستان وطاجكستان، تعاني من انعدام الطاقة الكهربائية، وتضطر إلى قضاء الشتاء من دون تدفئة أو كهرباء، كما بدأت الدولتان تلمسان نقصاً في المياه اللازمة لحياة نحو 75 في المائة من السكان على طرفي الوادي، والذين يعتمدون في حياتهم على الزراعة، لكنهما لا تستطيعان بناء سدود نظراً لاعتراض بلدان المصب بسبب التأثيرات السلبية التي يعمقها نقص المخزونات المائية ومواسم الجفاف في العقود الأخيرة.
ينطلق البلدان في إثبات حقوقهما الحدودية من خرائط مختلفة للحقبة السوفييتية
وفي عام 2016، استحوذت قرغيزستان على بحيرة سد "كاسان سايسكي" في منطقة جلال أباد بالقرب من الحدود مع أوزبكستان، والتي تزود كل من الأراضي القرغيزية والأوزبكية بالمياه. وعزت بيشكيك خطوتها، إلى أن طشقند لا تدفع ثمناً للمياه المسحوبة من البحيرة الواقعة على أراضيها. وفي المقابل، رفض الجانب الأوزبكي التنازل عن حقوق استخدام مياه خزان البحيرة، مشيراً إلى أن السد بني من قبل العمال الأوزبكيين وعلى حساب جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفييتية سابقاً. وحينها، حسمت أوزبكستان الموضوع نظراً لامتلاكها الجيش الأكبر عدداً وعتاداً والأكثر كفاءة، وأجبرت قيرغيزستان على التراجع بعد حشد قواتها في المنطقة، وزيادة الأفراد والمعدات بشكل دائم.
وما زالت الخلافات الحدودية بين أوزبكستان وقرغيزستان على حالها، فبعد الإعلان عن اتفاق لترسيم الحدود وتقسيم حصص المياه بالكامل في نهاية مارس/آذار الماضي، عادت بيشكك إلى الانسحاب بفعل ضغوط شعبية واحتجاجات في القرى الحدودية اتهمت جباروف بالتفريط بحقوق المواطنين.
وساطات إقليمية
أثارت الاشتباكات الأخيرة بين قيرغيزستان وطاجيكستان، قلق الأطراف الإقليمية المعنية، وخصوصاً روسيا، التي تسعى إلى لعب دور ضامن الأمن والاستقرار في الفضاء السوفييتي السابق. لكن تصريحات مختلف الأطراف، اتسمت بالحذر عموماً نظراً لتجارب تاريخية سابقة، وعدم وجود حلول سريعة للصراعات المتواصلة على الموارد المائية. وفي 7 مايو الحالي، أبدى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأوزبكي شوكت ميرزاييف استعدادهما للوساطة لتثبيت الاستقرار على الحدود بين قرغيزستان وطاجكستان.
وسعت موسكو منذ بداية جولة الصراع الأخيرة لحث الأطراف على الدخول في حوار مباشر، وعرضت مساعدة مشتركة مع كازاخستان، لتقاسم تجربة حل المشاكل الحدودية، بعدما استطاعت الدولتان ترسيم قرابة 90 في المائة من أصل 7 آلاف كيلومتر من الحدود، عبر الحلول الوسط وعمليات تبادل للأراضي. وفي لقائه مع رحمن السبت الماضي، أكد بوتين أنّ بلاده بحاجة إلى عودة العمال الأجانب، مشيراً إلى وجود نقص كبير بعد رجوع أكثر من 1.5 مليون عامل إلى آسيا الوسطى بسبب جائحة كورونا، ما قد يسهم في تخفيف التوتر في المناطق الحدودية بين طاجكستان وقرغيزستان اللتين تعدان من أهم مصادر العمالة الأجنبية في روسيا، عبر تخفيف نسب البطالة المرتفعة وعودة تدفق التحويلات المالية للعمال المهاجرين إلى المنطقة فقيرة الموارد.
موسكو ترى أن الوقت غير مناسب لتطور النزاعات واحتمال توسعها، لتزامنها مع انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان
العامل الأفغاني
ويبدو أنّ الكرملين قرر الدخول بقوة على خط تسوية النزاع لعوامل عدة، من ضمنها أن الصراعات في المنطقة قد تؤدي إلى انهيار المنظومة الأمنية والاقتصادية التي يعمل عليها منذ سنوات طويلة، عبر "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التي تدخل في إطارها كل من قرغيزستان وطاجكستان، و"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" (اتحاد اقتصادي للدول التي تقع في وسط آسيا وشمالها وفي أوروبا الشرقية)، فضلاً عن أن الصراعات تلحق ضرراً بدور موسكو كضامن للسلام والاستقرار في المنطقة. ومن الواضح أنّ موسكو ترى أن الوقت غير مناسب لتطور النزاعات واحتمال توسعها، لتزامنها مع انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، واقتراب الفوضى أكثر فأكثر من حدود كل من قرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان. وتخشى موسكو من تحوّل وادي فرغانة مرة أخرى إلى تربة خصبة لجذب الإرهابيين وانتقالهم إلى بلدان آسيا الوسطى ولاحقاً إلى روسيا. ومن المؤكد أنّ تصاعد دور الوساطة الروسي مرتبط أيضاً برغبة موسكو في التوافق مع قيادات آسيا الوسطى لسد أي فراغ أمني قد يتسبّب به الانسحاب الأميركي من المنطقة. ومعلوم أنّ روسيا تحتفظ بقاعدتين عسكريتين في كل من طاجيكستان وقيرغيزستان.
ومن اللافت تزامن دخول بوتين بقوة على خط الوساطة بين البلدين المتحاربين، مع كشف صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية السبت الماضي، أنّ الولايات المتحدة تدرس إمكانية نشر قوات منسحبة من أفغانستان في أوزبكستان أو طاجكستان بهدف دعم الحكومة الأفغانية والسيطرة على أنشطة حركة "طالبان" ومراقبة المتطرفين الآخرين. وعلى الرغم من أنّ قواعد "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التي تعد طاجيكستان عضواً فيها، تحظر على بلدانها استقبال قواعد أجنبية، وكذلك قواعد "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" الذي يضم أوزبكستان كعضو مراقب، يبدو أن موسكو لا تستبعد إمكانية توافق الأخيرة مع الولايات المتحدة على إنشاء قاعدة عسكرية تحت مسمى مركز محاربة الإرهاب على سبيل المثال. علماً أنّ واشنطن كانت تمتلك قاعديتين عسكريتين في المنطقة منذ 2001؛ الأولى هي قاعدة ميناس في قرغيزستان غادرتها في 2014، والثانية في أوزبكستان في مطار "خان أباد" العسكري وخرجت منها في 2005، بعد خلافات مع طشقند حول التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية للبلاد.