خرجت النيابة العامة المصرية من أحداث الحراك الشعبي الواسع الذي شهدته أنحاء متفرقة من البلاد في سبتمبر/أيلول الماضي، وقد أوقعت نفسها في مأزق عدم المصداقية، موسعة الهوة بينها وبين المجتمع الذي من المفترض أن تكون هي الهيئة القضائية الأولى الأمينة على مصالحه والمدافعة عن حقوقه بنص الدستور، بعدما اختارت المضي قدماً في التغطية على جرائم النظام وتجاوزات أجهزة الأمن. وبلغت ذروة ذلك بإصدارها بياناً من شأنه نسف القضية التي كان من الممكن تحريكها ضد وزارة الداخلية وتحديداً الضابط الذي أطلق الرصاص مردياً المواطن عويس الراوي قتيلاً في قرية العوامية بالأقصر، بادعائها أن مداهمة قوات الأمن لمنزل القتيل كانت "بموجب إذن من النيابة العامة لضبطه ومجموعة من ذويه لاستجوابهم في ما نسب إليهم من جرائم إرهابية".
وفي الوقت الذي امتنعت فيه الداخلية تماماً عن الرد على الروايات الشعبية الصادرة عن شهود عيان بشأن الحادث الذي تصاعد على أثره الغضب الشعبي في القرية ضد النظام، جاءت رواية النيابة العامة لتحوّل القتيل إلى الطرف الجاني، مما يترتب على ذلك من إهدار دمه في حال انتهت تحقيقاتها المزعومة إلى أنه قاوم السلطات، وفي أقصى الأحوال ربما يجد الضابط الذي قتل الراوي نفسه متهماً بمخالفة التعليمات الإدارية ليواجه حكماً مخففاً مع إيقاف التنفيذ.
مصادر أمنية وقضائية في الأقصر والقاهرة اطلعت على التحقيقات منذ بدئها الجمعة الماضية، قالت لـ"العربي الجديد" إن رواية النيابة العامة متطابقة إلى حد بعيد مع رواية كانت الداخلية قد أعدّتها لتبرئة ساحتها أمام الرأي العام بعد اشتعال التظاهرات الغاضبة، لكن المستشار الأمني لرئيس الجمهورية اللواء أحمد جمال الدين ووزير الداخلية اللواء محمود توفيق تخوفا من ردة الفعل الجماهيرية في الأقصر ودعم وسائل الإعلام المعارضة الموجودة خارج مصر للحراك الشعبي، خشية تكرار سيناريو تسرع الشرطة في إعلان رواية غير منطقية للأحداث تغضب الرأي العام، كما حدث في قضية مقتل الشاب خالد سعيد في أحد شوارع الإسكندرية عام 2010 والمواطن طلعت شبيب في قسم شرطة الأقصر عام 2015.
وبعد مداولات مع إدارات الأمن الوطني والأمن العام والعلاقات العامة وأجهزة سيادية أخرى، استقر الأمر في الداخلية على ترك إعلان الرواية للنيابة العامة التي تبلغت من دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي بإصدار البيان المذكور بعد بضعة أيام ريثما تكون أولوية القضية تراجعت لدى المتابعين، وأن يؤسَس على رواية الداخلية ويصاغ بصورة تظهر النيابة في موقف سلطة التحقيق الموضوعية، كالإشارة إلى "تضارب الروايات بين والد القتيل وشقيقه والضابط المتهم بإطلاق النار"، وهي في كل الأحوال مسألة لا تؤثر في الواقع الذي أراد النظام ترسيخه بأن القتيل كان مطلوباً للقبض عليه وقاوم السلطات بإطلاق النار.
جاءت رواية النيابة العامة لتحوّل القتيل إلى الطرف الجاني
وبحسب المصادر، فإن الرواية التي اعتمدتها النيابة تتناقض مع أول المعلومات التي أدلى بها الضابط لدى التحقيق معه بعد مقتل الراوي بساعات، والتي ركزت على أن أمر القبض المزعوم كان لوالد الراوي ولا يتضمنه هو، وأنه قاوم السلطات دفاعاً عن والده، الأمر الذي كان يتفق في مجرياته مع رواية شهود العيان التي تصب في أن الراوي تدخّل للدفاع عن والده بعد إهانته من قبل الضابط ولم يستخدم سلاحاً نارياً كان بالفعل في حوزة الأسرة، كما هي الحال في معظم منازل عائلات صعيد مصر.
ووفقاً للمصادر، فإن الضابط عاد وغيّر أقواله بالادعاء أن أمر القبض المزعوم كان يشمل الراوي نفسه وأنه اعتدى على القوة من مسافة بعيدة باستخدام السلاح الناري وأنه لم يتبيّن ملامحه، وهو ما يدل على وجود تدخلات لتغيير الرواية الأمنية باستمرار لإلباس الاتهام الرئيس بالقتيل وليس بالقاتل.
وذكرت المصادر القضائية أنه يستحيل من مجموع شهادات الضباط والمواطنين حول الواقعة أن تكون النيابة العامة قد أصدرت مسبقاً أمراً بالقبض على أي شخص من منزل الراوي، نظراً لحالة الفوضى التي كانت تعم القرية وعدم وضوح الأطراف المشاركة في الحراك الشعبي الذي حاولت الشرطة قمعه. وأوضحت أن نيابة أمن الدولة العليا بدأت في عهد النائب العام السابق نبيل صادق إصدار "أوامر مفتوحة بالقبض والتفتيش" للأشخاص الذين تعتبر الشرطة أنهم متورطون أو ضالعون أو شهود على الجرائم المذكورة في قانون الإرهاب والجنايات الماسة بأمن الدولة من جهتي الداخل والخارج بقانون العقوبات، وهو تنظيم لا يخلو من عدم الدستورية نتيجة عدم عرض التحريات الأمنية على النيابة أولاً قبل إصدار الأمر، مما يحوّله واقعياً إلى أمر اعتقال. وأضافت المصادر أن الغالبية العظمى من المعتقلين خلال أحداث الحراك الشعبي الأخير ألقي القبض عليهم بهذه الطريقة، ووُضعت في مرحلة لاحقة مذكرة التحريات الأمنية عنهم، باستخدام مواجهة ضباط الأمن الوطني لهم شفهياً بعد الاعتقال، أو أخذ معلومات من صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وهواتفهم المحمولة، الأمر الذي أصبحت النيابة تعتد به في كل أنواع القضايا حتى ولو كان ذلك التفتيش من دون إذن.
ولم توضح النيابة العامة التي قصدت من بيانها منع كل وسائل الإعلام من تناول تفاصيل القضية، مستقبل تحريكها وإمكانية التوصل إلى معلومات حاسمة قريباً، لتنضم إلى عدد كبير من القضايا ذات البُعد الأمني التي لم تُعلن نتائج التحقيق فيها على الرغم من مرور فترة طويلة عليها، مثل واقعة مقتل الفنان الشاب شادي حبش في سجن طره منذ ستة أشهر والتي أصدرت النيابة العامة بيانين فقط بشأنها حمّلت فيهما القتيل مسؤولية وفاته من دون الإشارة إلى مسؤولية السجن ثم لم تعلن النتيجة النهائية للتحقيق. وأخيراً واقعة مقتل الشاب إسلام الأسترالي في قسم شرطة المنيب في الجيزة الشهر الماضي، والتي تجري حالياً فيها، بحسب مصادر حقوقية وثيقة الصلة بالقضية، محاولات لتغيير مسار تحقيقاتها من اعتداء على القتيل داخل القسم بضرب أفضى إلى الموت، إلى سيناريو المشاجرة خارج القسم، إذ تواصل بعض الجناة وأسرهم مع أسرة الشاب ووعدوهم بتعويضات مالية كبيرة في حال تغيير أقوالهم أمام النيابة أو المحكمة.
عدد كبير من القضايا ذات البُعد الأمني لم تُعلن نتائج التحقيق فيها على الرغم من مرور فترة طويلة عليها
ويأتي تعامل النيابة مع قضية الراوي كحلقة في مسلسل دفاعها عن السلطة في الحراك الشعبي الأخير، فمن مجموع معلومات من مصادر حقوقية مختلفة رصدت "العربي الجديد" أن الأعداد التي عُرضت حتى مساء الثلاثاء الماضي على ذمة القضية 880 لسنة 2020 على نيابة أمن الدولة العليا تجاوزت ألف ومائة شخص، صدرت قرارات جماعية بحبسهم على ذمة التحقيقات عدا ثمانية وستين طفلاً وحوالي عشرين شخصاً بالغاً تم إخلاء سبيلهم. بينما ما زالت هناك أعداد غير معروفة من مواطني قرى مركز أطفيح في الجيزة ومنطقة البساتين وقرية العوامية في الأقصر معتقلين ولم يُعرضوا على النيابة في أماكن مختلفة أبرزها معسكرات الأمن المركزي.
كما استخدم النظام النيابة للبطش بالشخصيات العامة التي تخرج عن قواعد التبعية والموالاة، وأبرزهم المحامي المعروف طارق جميل سعيد الذي حُبس ووجهت له تهم تكدير السلم العام ونشر شائعات وأكاذيب وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب مقطع فيديو هاجم فيه دائرة السيسي وإدارتها لملف الانتخابات النيابية، على الرغم من حذفه مقطع الفيديو واعتذاره عنه ونشره فيديو جديداً يهاجم فيه جماعة "الإخوان" والقنوات المعارضة، وعلى الرغم من الاعتذار العلني المتكرر من والده المحامي الشهير جميل سعيد المعروف بقربه للمخابرات والشرطة وتعاونه معهما مراراً في بعض المؤسسات التابعة لهما.