منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000، وقطاع غزة يعاني من أزمات اقتصادية خانقة بفعل العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ضمن إجراءاته لوقف الانتفاضة الفلسطينية، وصولا إلى فرض الحصار الشامل على قطاع غزة بعيد الانتخابات الفلسطينية العامة في يناير 2006، والتي أفضت إلى فوز حركة حماس بالمجلس التشريعي وتشكيل الحكومة العاشرة، ومن ثم الدخول في أتون الانقسام الفلسطيني الداخلي بسيطرة حركة حماس بالقوة العسكرية على قطاع غزة وطرد السلطة الفلسطينية من القطاع، ليدخل القطاع في حالة من الحصار الشامل على مختلف مناحي الحياة، عدا عن الانقطاعات المتواصلة للتيار الكهربائي وإغلاق المعابر وارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة.
وزادت معاناة قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل في أعوام 2008-2009 و2012 و2014، إذ عانى من خسائر اقتصادية فادحة أنهكت القطاع الاقتصادي المتهالك بشكل كامل ومأساوي، عدا عن بطء عملية إعادة إعمار القطاع، وربط الحكومة الإسرائيلية أي انفراجة تجاه القطاع بالإفراج عن جنودها الأسرى لدى حركة حماس ونزع سلاحها.
كما ساهم الانقسام الفلسطيني الداخلي بين قطاع غزة والضفة الغربية، من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة بالقطاع، مثل تحويل أموال المقاصة من قبل الجانب الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية مما فيها الضرائب المحصلة من معابر قطاع غزة، بحكم أن السلطة الفلسطينية هي الإطار الرسمي والشرعي الوحيد المعترف به دولياً.
وأخيراً مع انتشار فيروس كورونا في قطاع غزة بنسب عالية، يكون القطاع قد دخل في حالة كارثية من الانهيار الاقتصادي على الصعد كافة، وفقدان المئات من السكان لمصدر قوتهم اليومي، وسط انعدام سبل الكفالة الاجتماعية والضمان الاقتصادي للسكان.
السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة
تتمحور السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة باتباع نظرية "إبقاء الرأس فوق الماء" وهي النظرية التي وضع أسسها وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، وهي إمداد القطاع مما يكفي بالحد الأدنى فقط اللازم لبقاء حكم حركة حماس في القطاع.
كما تساعد وتسهل دخول المنحة القطرية للقطاع بين الحين والآخر مما يخدم سياسة التهدئة في غلاف غزة، ضمن السياسة الخاضعة لنظرية إبقاء الرأس فوق الماء، وهي ذات السياسة التي تتبع من الجانب المصري الذي سمح بدخول البضائع التجارية إلى القطاع عبر معبر رفح الحدودي الذي تسيطر عليه حركة حماس، وبالتالي تعود عوائد ضرائب هذه البضائع إلى حكومة حركة حماس في القطاع مما يساعدها في إدارة الشؤون العامة في القطاع ورواتب موظفيها.
وتربط الحكومة الإسرائيلية أي انفراجة اقتصادية في قطاع غزة بمدى استجابة حركة حماس لمطالب الحكومة الإسرائيلية بالإفراج عن الجنود الإسرائيليين لدى الحركة ونزع سلاحها بالكامل، وأحيانا المطالبة بنزع سلاحها الصاروخي فقط. وهذا ما ترفضه حركة حماس بالمطلق، ما أدى بالحكومة الإسرائيلية في عديد المرات إلى تشديد الحصار على القطاع باتخاذ خطوات قاسية منها منع الصيد وتقليل مساحته، وإغلاق المعابر الحدودية مثل معبر كرم أبوسالم وناحل عوز شرقي القطاع وتقييد دخول بعض السلع للقطاع وتحديد عدد الشاحنات الواردة والصادرة من القطاع وإليه، ومنع إدخال المنحة القطرية وتأخيرها، مما يسبب في بعض الأحيان حدوث تصعيد عسكري وأمني بين الطرفين.
الانقسام الفلسطيني وإجراءات السلطة
يعود جزء كبير من أزمات قطاع غزة الاقتصادية إلى حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي وإجراءات السلطة الوطنية الفلسطينية تجاه قطاع غزة.
بدأت السلطة الوطنية الفلسطينية سلسلة من الإجراءات تجاه موظفي السلطة الفلسطينية المستنكفين منذ سيطرة حركة حماس العسكرية على القطاع صيف 2007، إجراءات السلطة التي جرى تنفيذها في أيار 2018، بدأت بسلسلة من التقاعد لعدد كبير من موظفي أجهزة الأمن، وتبع ذلك أيضا تنفيذ قانون التقاعد المالي على مئات من موظفي السلطة، وخصم ما يقرب من 20 – 30 % من رواتب الموظفين التقاعدية، في إجراءات قيل إنها لإجبار حركة حماس على إنهاء انقلابها في قطاع غزة وإجبارها على إتمام المصالحة، وذلك عن طريق تقليل النفقات الذاهبة إلى السوق من خلال رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة.
رغم تأثير هذه الإجراءات على حركة السوق والأموال، إلا أن حركة حماس لم تتأثر بشكل كبير بهذه الإجراءات، بل من دفعوا ثمنها هم موظفو السلطة الفلسطينية الذين أصبحت رواتبهم لا تكفي قوت يومهم إضافة إلى قيام البنوك بخصم كامل الأقساط المتراكمة على موظفي السلطة. عدا عن تأخير دفعات مستحقات الشؤون الاجتماعية للأسر الفقيرة والتي تصرف من مالية رام الله، حيث أصبحت تصرف ثلاث دفعات في السنة الواحدة بدل أربع دفعات كما كانت في السابق تحت حجج واهية منها تأخير الدعم الأوروبي ونقص الميزانية لدى السلطة الفلسطينية.
هذه الإجراءات زادت من معاناة السكان في قطاع غزة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانخفاض القيمة التسويقية في القطاع، عدا عن قلة رواتب موظفي حكومة غزة نتيجة قلة الموارد لدى حركة حماس في إدارة القطاع.
ومع أزمة عدم استلام أموال المقاصة في بداية هذا العام رداً على تبني الحكومة الإسرائيلية لسياسة الضم وفرض السيادة في الضفة الغربية، قللت السلطة الفلسطينية رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة إلى النصف، بمعنى أنه حصل موظفو السلطة على نسبة 50% من نسبة الراتب 70%، فيما صُرفت في الضفة الغربية لموظفي السلطة الفلسطينية نسبة 50% من إجمالي الراتب 100%.
ورغم الوعود المتكررة من الحكومة الفلسطينية وأعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، بمعالجة هذه القضايا إضافة لقضايا التنظيم في القطاع، إلا أن كل هذه الوعود لم تترجم حتى اللحظة على أرض الواقع.
إذ تشكل رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة مصدرا أساسيا للأموال وحركة السوق والتجارة في ظل الحصار المفروض على القطاع منذ 13 عاماً. ومن شأن هذه الخصومات تقليص إيرادات الضرائب التي تجمعها حماس في غزة، والتي تستخدمها لسداد أجور 40 ألف موظف قامت بتعيينهم في القطاع منذ العام 2007.
ويعتمد أكثر من نصف سكان غزة على المساعدات الدولية، كما أن 43.6% من العمال عاطلون عن العمل وهو أعلى معدل للبطالة في العالم.
الاقتصاد الفلسطيني وأزمة فيروس كورونا
انكمش الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني بالأسعار الثابتة، بنسبة 4.9% خلال الربع الأول من العام 2020، على أساس ربعي، مقارنة بالربع الأخير من العام 2019، حيث انكمش بنسبة 4.6% في الضفة الغربية و6.1% في قطاع غزة.
ووفق الإحصاء الفلسطيني، كان الانخفاض الأهم خلال الربع الأول في أنشطة الزراعة والحراجة وصيد الأسماك بنسبة 9%، والتعدين والصناعة التحويلية والمياه والكهرباء بنسبة 9%، والإنشاءات بنسبة 21% والمعلومات والاتصالات بنسبة 5%.
فيما انكمش الناتج المحلي الإجمالي على أساس سنوي بنسبة 3.4%، وبلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام 2020 بالأسعار الثابتة في الضفة الغربية 3.150 مليارات دولار، بينما بلغت القيمة في قطاع غزة 670 مليون دولار.
في ضوء هذه الإحصائيات جاءت أزمة انتشار فيروس كورونا داخل قطاع غزة في أواخر أغسطس الماضي، لتزيد من الأوضاع الاقتصادية سوءاً وانهياراً.
إذ إن الآلاف من سكان قطاع غزة لن يكون بمقدورهم تحمّل أعباء اشتداد جائحة كورونا مع تواصل الحصار الإسرائيلي، وإغلاق غالبية المنشآت الاقتصادية والمصانع والمراكز التجارية، وعدم وجود تدخل قوي ومباشر من المؤسسات الدولية والإغاثية، خاصة مع فرض حظر التجوال الكامل وتعطيل الأعمال في إطار المساعي الرامية لمنع توسع رقعة الفيروس.
كما أن تفشي الفيروس في صفوف المواطنين أثر على جميع أوجه الحياة في قطاع غزة، وأصاب القطاعات التجارية والصناعية وقطاع المقاولات والأعمال عامة بالشلل، وأوقف نحو 95% من المنشآت الاقتصادية عن العمل، حيث تعد في حكم المغلقة.
كما أن حوالي 2000 منشأة صناعية أغلقت أبوابها عن العمل مع بدء فرض حظر التجوال في قطاع غزة، فضلاً عن آلاف المنشأت التجارية الأخرى التي توقفت عن العمل بسبب الإجراءات الاحترازية.
إضافة للقطاع السياحي الذي يعتبر من أكبر القطاعات المتضررة وبلغت نسبة توقفه 100%، حيث إن السياحة الداخلية في غزة تعتمد بالأساس على الزائرين القادمين من الخارج، إضافة إلى إغلاق المنشآت السياحية مثل المطاعم وقاعات المؤتمرات وورش العمل، وصالات وقاعات الأفراح إلى جانب إلغاء جميع الحجوزات، بالإضافة إلى إغلاق شركات السياحة والسفر وشركات الحج والعمرة، وهذا أدى إلى تضرر العاملين في القطاع السياحي، بالإضافة إلى الالتزامات اليومية المطلوبة من أصحاب العمل، ويبلغ عدد العاملين في الأنشطة ذات العلاقة بالقطاع السياحي في قطاع غزة نحو 8.700 عامل.
كما تضرر قطاع النقل والمواصلات، حيث توقف بنسبة 80% بسبب توقف الجامعات والمدارس ورياض الأطفال بالإضافة إلى قلة حركة المواطنين داخل القطاع، وتضرر ما يزيد على 3000 عامل ممن يعملون في هذا القطاع.
مما يضاعف من الأزمة أن هناك أكثر من 2 مليون فلسطيني بغزة يعيشون في ظروف صعبة بسبب الحصار الإسرائيلي، غالبيتهم يعتمدون على المساعدات الإغاثية العاجلة، منهم أكثر من ربع مليون عاطل عن العمل، و150 ألف خريج جامعي آخرين عاطلين عن العمل، و50 ألف شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، و20 ألف طفل يتيم، وحوالي 13 ألف مصاب بالسرطان، والآلاف من المصابين بالأمراض المزمنة.
سياسيا، تحاول الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس استغلال أزمة فيروس كورونا، للتوصل إلى حلول بشأن تسريع إتمام صفقة تبادل الأسرى يكون من ضمنها حلول ومساعدات لأزمة الفيروس في القطاع، حيث نشر موقع وللا العبري قبل أيام تقريراً حول استعداد رئيس حركة حماس في القطاع يحيى السنوار للتنازل في بعض الملفات بخصوص الصفقة مقابل إدخال مساعدات وأجهزة طبية متطورة لمساعدة القطاع الصحي المنهار في قطاع غزة.
وبالنظر إلى الواقع المعيش حالياً في قطاع غزة، من أزمات سياسية واقتصادية خلال العام 2020، يبدو أنها مستمرة للعام 2021.
فلسطينيا، تبدو المصالحة الفلسطينية مؤجلة لأجل غير مسمى، على ضوء فشل الجولة الأخيرة، اذا أصبحت أسطوانة اجتماعات المصالحة مجرد تكتيك لطرفين الانقسام وليس استراتيجية وطنية.
إسرائيليا: من المرجح عدم التوصل إلى اتفاق قريب حول صفقة تبادل للأسرى في ضوء تعنت الطرفين، وقرب حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات جديدة في مارس القادم.
والمرجح استمرار سياسة إبقاء الرأس فوق الماء في التعامل مع قضايا قطاع غزة من كل أطراف الحصار، واستمرار تقديم المنحة القطرية والتي لا تفي باحتياجات السكان بأدنى الحدود.
هذه السياسة قد تكون نهايتها اندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة، تزيد من المتاعب الاقتصادية والحياتية للسكان في قطاع غزة خلال العام 2021.