انضمام السويد وبحث عضوية أوكرانيا، هما النقطتان الأساسيتان على جدول قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي انعقدت في مدينة فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، لمدة يومين واختتمت أول من أمس الأربعاء. الأولى راهنة، وجرى حسمها بعد عام من الجدل، والثانية مستقبلية، وتمّ وضع البرامج والخطط من أجل تحقيقها.
تقع القضيتان في صلب استراتيجية الحلف الدفاعية في المدى المنظور لبناء الجبهة الشرقية في مواجهة روسيا، كونهما الدولتين الوحيدتين الباقيتين خارج الحلف الذي يعمل على استكمال تطويق روسيا من حدودها الأوروبية بصورة محكمة.
ليتوانيا التي استضافت قمة الحلف، الرابعة منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، ذات مكانة رمزية، وهي أكبر دول البلطيق، بالمقارنة مع جارتيها إستونيا ولاتفيا، والأولى التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1990، أي قبل انهياره رسمياً بعام واحد، وبقيت تشكل هدفاً روسياً، على الرغم من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي في عام 2004.
أردوغان يوظّف ورقة عضوية السويد
باتت عضوية السويد في "الناتو" ممكنة عشية الانتخابات التركية في مايو/أيار الماضي، حيث سافر الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ إلى أنقرة، والتقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبارك له الفوز بولاية رئاسية جديدة، في خطوة تهدف إلى تبريد الأجواء التي توترت مع السويد، بعد عملية حرق نسخة من المصحف على يد متطرف سويدي في يناير/كانون الثاني الماضي.
تقع قضيتا انضمام السويد وأوكرانيا في صلب استراتيجية الناتو الدفاعية لبناء الجبهة الشرقية في مواجهة روسيا
وكادت الآمال تتبخر عندما قام في شهر يونيو/حزيران الماضي لاجئ عراقي يدعى سلوان موميكا بحرق نسخة من المصحف، وقد نشطت الجهود لدى تركيا من أجل تجاوز الأمر، وقام الرئيس الأميركي جو بايدن بمهاتفة نظيره التركي من أجل عدم عرقلة انضمام السويد، وساهمت مساعيه في تجاوز هذه العقبة.
ولم يتوقف الرئيس التركي عند حادثة الحرق الجديدة للمصحف، واعتبر أن السويد اتخذت بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح، من خلال إجراء تغييرات في تشريعات مكافحة الإرهاب، غير أنه رأى "استمرار التظاهرات التي تشيد بالإرهاب من قبل أنصار تنظيم حزب العمال الكردستاني في السويد ذهبت بالخطوات المنجزة لانضمام السويد إلى الأطلسي أدراج الرياح". وهذا يخل بوفاء السويد بمذكرة التفاهم الثلاثية التي تم وضعها في قمة الحلف في مدريد في يونيو 2022، بين كل من تركيا وفنلندا والسويد، من أجل رفع النقض التركي.
أراد أردوغان أن يلعب هذه الورقة على نحو مختلف ويوظفها، بما يمكن أن تستفيد منه تركيا في تصحيح علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تعقدت خلال الأعوام الأخيرة الماضية، ومنعتها من الاستفادة من الكثير من المزايا التفضيلية، بالإضافة إلى فرض عقوبات.
ربط أردوغان بين عضوية السويد في الأطلسي وطلب تركيا مقاتلات "إف 16" من الولايات المتحدة، وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. ويبدو أن النقطة الأولى تم حسمها في الحديث الهاتفي مع بايدن، ولذلك تضمن البيان التركي الرسمي النقطة الثانية فقط. وقال: "نريد من الدول الرائدة في الاتحاد الأوروبي وقيادات الاتحاد، إعطاء رسالة واضحة وقوية، حول دعم عضوية تركيا خلال قمة الناتو المقبلة".
وفي الحال لم تحصل تركيا على إجابة فورية، إلا أنها خرقت جدار الصوت، وظهر أنها تتبع سياسة جديدة في العلاقة مع أميركا وأوروبا بخصوص حيازة التكنولوجيا العسكرية، والعضوية في الاتحاد الأوروبي. وقال أردوغان وهو في طريقه إلى القمة، إن على الاتحاد الأوروبي أن يفسح المجال أمام انضمام أنقرة إلى التكتل، قبل أن يوافق البرلمان التركي على طلب السويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وبالنسبة لتركيا لا تعد هذه العملية مقايضة، ولا شروط مسبقة للموافقة على انضمام السويد للأطلسي، وإنما العمل بمبدأ التعامل مع تركيا بنفس المعايير والمكاييل، وهذا يتطلب عدم وضع العراقيل في طريقها، حينما تريد الحصول على التكنولوجيا العسكرية الأميركية، ولا استبعادها من التكتلات الدولية الكبرى، ومنها الاتحاد الأوروبي، الذي تنتظر عضويته منذ أكثر من نصف قرن.
أكدت مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا أن الحلف تعامل مع أوكرانيا كما لو أنها دولة عضو
يدرك أردوغان أن طلبه لن يلقى استجابة فورية من قبل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن في وسعه أن ينتزع تعهدات أميركية أوروبية. هذا ما حصل فعلاً، فباستثناء ما جاء على لسان المستشار الألماني أولاف شولتز في عدم اعتبار الموضوعين مرتبطين، فإن بقية المواقف إيجابية وتفتح الطريق إلى تجاوز رواسب الأعوام الأخيرة.
وأبرز ما تحقق جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر الذي قال "ندعم تسليم تركيا طائرات F16 ولكن يجب ألا يكون الأمر مرتبطا بضم السويد إلى الناتو"، مضيفا أن الأمر بيد الكونغرس الأميركي، وإن "الولايات المتحدة، ولعدة سنوات، دعمت تطلعات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي".
الصدى الذي تركته شروط أردوغان لرفع النقض عن انضمام السويد للأطلسي، هو بمثابة حجر كبير حرّك المياه الراكدة في أكثر من اتجاه، ونبّه قبل كل شيء إلى أن أنقرة تتصرف من موقع قوة، وفي أبسط الأحوال أعاد تحريك مسألة طلب العضوية التركية للاتحاد الأوروبي. ويؤكد خبراء أوروبيون أن قادة الاتحاد الأوروبي سينظرون إلى هذه القضية من زاوية مختلفة، وسيراجعون مواقفهم.
ويطمح أردوغان إلى الحصول على تعهدات من قبل قادة الاتحاد الأوروبي تتضمن إعادة النظر بالعضوية التركية، ومراجعة ما تمّ إنجازه على هذا الطريق، ووضع جدول زمني محدد للخطوات اللاحقة. وقد حصل مبدئياً على موافقة مسؤولي الاتحاد الأوروبي على تسريع مفاوضات عضوية أنقرة في التكتل الأوروبي، وإن المفاوضات تشمل تحديث الاتحاد الجمركي الذي يضمّ تركيا والاتحاد الأوروبي، ورفع التأشيرات عن المواطنين الأتراك.
قرار ضمّ السويد سيتطلب تمريره في البرلمان التركي نحو 45 يوما بحسب المادة 37 من النظام الداخلي للمجلس، التي تنص على أن طرح مسودة قرار وقبوله في البرلمان من الممكن أن يستغرق هذه المدة، وهو ما يشير إلى أن أنقرة ستختبر مدى صدق تعهدات أميركا وأوروبا.
وضعية تفضيلية لأوكرانيا داخل الناتو
العضوية الأوكرانية باتت محسومة في صورة نهائية، ولكنها لن تصبح رسمية قبل نهاية الحرب. وصار واضحاً أن قمة الحلف أنهت بحث هذه النقطة، ولم تعد محل حوار أو أنها ستعرض على التصويت في قمة مقبلة، وبذلك فإن الدعوة التي وجهها الحلف إلى أوكرانيا عام 2008 للانضمام إلى عضويته قد تجاوزت الوقت والترتيبات المعهودة، وصارت أمراً واقعاً ينتظر التطبيق.
وأكدت مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا أن الحلف تعامل مع أوكرانيا كما لو أنها دولة عضو، باستثناء التنفيذ الحرفي للمادة الخامسة التي تنص على أن الاعتداء على دولة في الحلف، عدوان على الحلف بأكمله. وقد طبقها من حيث الالتزامات العسكرية والإنسانية، من خلال قيام الدول الأعضاء بتحمل أعباء الحرب.
من الآن وصاعداً سوف تستفيد أوكرانيا من مزايا كثيرة خاصة بالدول الأعضاء في حلف الأطلسي، وأولها تزويدها بأسلحة أكثر حداثة من تلك التي حصلت عليها حتى الآن، ومكنتها من الدفاع عن نفسها وتحرير جزء من أراضيها، كما سيكون في وسعها عقد اتفاقات دفاعية وأمنية ثنائية مع عدد من دول الحلف مثل فرنسا، بريطانيا، وألمانيا.
وفي جميع الأحوال لن تكون العضوية فورية في نهاية الحرب، ولن يتم إعلانها إلا بعد استكمال شروط عدة، ومنها تحول نظام التسليح والأمن وبنية المؤسسة العسكرية إلى الأنظمة المعمول بها في الحلف الأطلسي، وهذه عملية لن يكون في وسع أوكرانيا القيام بها لوحدها، بل سيتكفل بها ويتحمل تكاليفها حلف الأطلسي، وبذلك ستتحول إلى نموذج أطلسي جديد على حدود روسيا.
الوضعية الجديدة لأوكرانيا داخل الأطلسي لن تكون على غرار بقية الدول الأعضاء، بل ستكون تفضيلية، كما هو الأمر في علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل التي تعدها قاعدة متقدمة في الشرق الأوسط. وعلى هذه الأساس سيجري العمل كي تتحول أوكرانيا إلى قاعدة أطلسية متقدمة ضد روسيا، وستصبح القاعدة الثانية للحلف من حيث الأهمية في أوروبا، بعد ألمانيا. وعليها مهمة حماية حدود الحلف مع روسيا.
من قمة إلى أخرى، يتقدم حلف شمال الأطلسي بخطوات متسارعة نحو روسيا، وهذه هي القمة الرابعة التي يعقدها بعد حرب روسيا على أوكرانيا، بل أنها البند الرئيسي على جدول أعماله، وهذا لم يكن سيحصل بنفس الآلية والسهولة لو لم تعلن روسيا الحرب على أوكرانيا، وتفشل في تحقيق أهدافها.
تعد قمة الحلف هي الأخطر في تاريخ علاقات روسيا مع الأطلسي، الذي وجه من خلال عقدها في فيلنيوس رسالة إلى كل من روسيا وبيلاروسيا، مفادها أن حدود الأطلسي قريبة جدا، بالإضافة إلى انضمام السويد، وهو ما جعل الكرملين يصدر تصريحات يعبر فيها عن القلق الشديد، ويرى في ذلك تداعيات سلبية.
ومن بين التحولات المهمة مسألة اقتراب أنقرة خطوة نحو الولايات المتحدة وأوروبا، وهو الأمر الذي اعتبرته روسيا ابتعاداً عنها، وهذا الأمر لن تتأخر آثاره السلبية في الظهور على ملفات عدة للتعاون، ومنها بالخصوص في سورية.
صدق الكرملين في بيانه حينما قال إن الأطلسي ينظر اليوم إلى روسيا كعدو وخصم، في حين أنه كان يتعامل معها كخصم قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، ويترتب على المعادلة الجديدة تغيير في الحسابات العسكرية بصورة جذرية، بما يتجاوز الحرب الباردة.