يواصل الرئيس التونسي قيس سعيّد تعزيز سلطته من خلال إضعاف الجميع وتحجيم أوزانهم وأدوارهم، وفي مقدمتهم الأطراف المستعصية أو تلك التي لها أنياب. وجاء الآن دور النقابات الأمنية لتعود إلى حجمها الطبيعي أو إن أمكن إخراجها من المشهد تماماً، والعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل الثورة.
وتمت الاستفادة من هذه النقابات في ضرب خصوم السلطة، وساعدت مع بقية القوى الأمنية والعسكرية في نجاح عملية 25 يوليو/تموز 2021 وما بعدها، حين استجابت لما طُلب منها، لكن في المقابل كشفت عن سلوك أثار مخاوف سعيّد ومساعديه الذين رأوا في ذلك خطوة أخرى نحو فرض الأجهزة الأمنية كقوة مؤثرة وشريكة في إدارة السلطة وصناعة السياسات.
كذلك، أظهرت النقابات في مناسبات عديدة رغبة قوية في المحافظة على استقلاليتها، وتصريف أوضاعها الداخلية من دون تدخل الإدارة، ومأسسة هياكلها بشكل يسمح لها القيام بتعبئة قواعدها عند الضرورة، وقد نجحت إحدى النقابات في استقطاب 48 ألف منخرط. وهذه مؤشرات لا يمكن أن يقبلها أو يستسيغها من جاء ليحكم بمفرده، لهذا أصبح من الضروري تقليم أظافر النقابات من وجهة نظر الرئيس سعيّد.
أظهرت النقابات في مناسبات عديدة رغبة قوية في المحافظة على استقلاليتها
محاولة تحجيم دور النقابات الأمنية التونسية
ليست هذه المحاولة الأولى لتحجيم دور النقابات الأمنية التي تأسست في سياق مختلف، إذ انفردت تونس في العالم العربي بالسماح بوجود مثل هذه التنظيمات في قطاع حساس واستراتيجي. لقد حصلت تجاذبات سابقة بين النقابات ومعظم الحكومات المتعاقبة والأحزاب التي تداولت على السلطة.
وهناك من اتهم هذا الصنف من النقابات بكونها تحولت إلى "دولة داخل الدولة"، لكن عموم الأمنيين يقرون بأن نقاباتهم ساعدتهم كثيراً على تحسين أوضاعهم الاجتماعية خلال العشرية الماضية، وهم متمسكون بها والدفاع عنها، وهو ما جعل السلطة تستبعد حل النقابات على الأقل في هذا الظرف. لكن الأمنيين يطلبون من ممثليهم قدراً من الحكمة من خلال تجنب الاشتباك مع رئاسة الجمهورية بالخصوص.
تختلف المواجهة حالياً عن سابقاتها. فالرئيس سعيّد الذي قرر التصدي لمبدأ فصل السلطات ووضع يده عليها، لن يقبل بأن تشق أطراف من حاملي السلاح عصا الطاعة في وجه الدولة، وهي المطالبة أكثر من غيرها بتنفيذ الأوامر والانضباط وحماية النظام.
لهذا، قرر التحرك بسرعة وأعلن عن إجراءات من شأنها أن تمكّنه من التحكم في المؤسسة الأمنية، معتمداً في ذلك على عوامل يراها مساعدة، أولها وجود رأي عام مناهض للأمنيين بما في ذلك قطاعات واسعة من النخبة والسياسيين بحجة تفاقم الانتهاكات وتهديد الحريات والحقوق.
ثانياً، يمسك بوزارة الداخلية وزير يعتبر من أشد أنصار سعيّد (توفيق شرف الدين)، وسبق له أن شارك في الإشراف على جزء من حملته الانتخابية في منطقة الساحل.
العامل الثالث المساعد، هو استغلال التناقضات التي تشق النقابات الأمنية، إذ تقف نقابة الأمن الرئاسي بقوة إلى جانب رئيس الجمهورية نظراً لخلافاتها العديدة مع معظم النقابات الأمنية، وهي نقابة قوية، مهمتها حماية رئيس الدولة وتتمتع بترسانة هامة من السلاح والعتاد والتدريب الجيد.
يطالب سعيّد الأمنيين بحل النقابات ودمجها في نقابة واحدة
يطالب سعيّد الأمنيين بحل النقابات ودمجها في نقابة واحدة. ويعتقد أنه بذلك يضع حداً للمزايدات بينها، ويجعل الموالين له يحاولون التحكّم في معظم النقابات، مما يسهّل التفاوض معها وإجبارها على الانضباط من خلال توحيد قيادتها التي تتحدث باسم الجميع وتدافع عن مطالبهم.
إلى جانب توحيد النقابات، أعلن وزير الداخلية عن سلاح آخر من شأنه إضعاف النقابات يتعلق بإيقاف الاقتطاع الآلي لأجور الأعضاء، معتقداً أن ذلك من شأنه أن يقلص من استقلاليتها، ويعيدها إلى الخضوع من جديد لسلطة الوزارة والإدارة المركزية التي تقع تحت إشراف رئاسة الجمهورية.
وحتى يكتسب هذا القرار قابلية لدى جزء هام من الرأي العام، وجّه الوزير تهمة الفساد وغياب الشفافية وسوء التصرف لعدد من المسؤولين النقابيين. وهو ما زاد من نسبة التوتر والاحتقان في صفوفهم.
تصعيد النقابات الأمنية التونسية
رفض معظم النقابيين هذه الاتهامات، واعتبروها باطلة وكيدية، وقرروا مقاضاة الوزير أمام المحاكم. كما أدركوا أن معركتهم هذه ستكون معركة وجود، وأن أي تراجع من قبلهم قد يؤدي إلى حل نقاباتهم وإعادتهم نهائياً إلى بيت الطاعة.
لهذا قرروا التصعيد، واعتبروا أنه ليس من صلاحيات رئيس الجمهورية التدخّل في الشأن النقابي، ولجأوا إلى التعبئة وتنظيم الاعتصامات، فكان رد فعل الوزارة عنيفاً، إذ تم استعمال القوة وحرق خيام المعتصمين، وتأليب الأمنيين ضد بعضهم البعض، مما وضع الدولة أمام اختبار صعب وتحدٍ غير مسبوق.
هل يذهب سعيّد إلى الآخر في هذه المعركة؟ يبدو أنه مصرّ على عدم التراجع مثلما فعل في "حروبه" السابقة أو الموازية. لكن السؤال المحوري في هذا السياق: هل سيستسلم الأمنيون بسهولة؟ من المؤكد أنهم سيستنفدون جميع الوسائل والإمكانيات المتاحة والقانونية للدفاع عن قضيتهم، ولن يلقوا المنديل بسهولة، غير أنهم سيعملون على تجنّب الاصطدام بالأمن الرئاسي الذي يُعتبر أقوى جهاز أمني في البلاد إلى جانب الحرس الوطني. لأنه في حال حصول انزلاق في هذا الاتجاه أو ذاك، فإن مؤسسات الدولة تصبح مهددة بالتقاتل أو التفكك.