كشف الرئيس الأميركي الجديد في خطابه، أمس الخميس، في مقر وزارة الخارجية الأميركية، عن ملامح سياسته الخارجية وأطرها، متحدثاً عن العودة إلى الدبلوماسية، ومعلناً عن إنهاء استراتيجية سلفه "أميركا أولاً".
ثلاثة أسس لسياسة بايدن الخارجية، كما اتضح من خطابه، الأول هو عودة الولايات المتحدة إلى عقيدة قيادة العالم باهتمام أكبر من قبل، لتدارك أضرار ألحقت بموقعها خلال السنوات الأربع الماضية في عهد الرئيس دونالد ترامب، والثاني هو تعزيز العلاقات مع الحلفاء من خلال "إعادة بناء التحالفات"، حسب قوله، والثالث هو المقاربة الدبلوماسية في مواجهة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية.
كما اتضح أن مواجهة الصين تأتي على سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية، إذ وصفها بـ"أخطر منافس" للولايات المتحدة، مؤكداً على التصدي للتهديدات التي تشكلها بكين.
إلا أن ما يدعو للاستغراب والدهشة هو أن خطاب بايدن، الذي استعرض تحديات صغيرة وكبيرة، انطلاقاً من مسألة الهجرة وأزمة ميانمار ومروراً بمواجهة الصين وروسيا ووصولاً إلى حرب اليمن وقضايا أخرى، جاء على عكس التوقعات، حيث لم يتطرق لقضيتين في غاية الأهمية، هما الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين والملف الإيراني، وخاصة الاتفاق النووي.
ولعل السبب الأهم والمشترك لتجاهل بايدن هذه القضايا المهمة في أول خطاب له منذ بدء ولايته هو حساسيتها الكبيرة وتعقيداتها، ما أبعد الملفين عن استراتيجيته في إزالة "الترامبية" من السياسة الخارجية الأميركية، فسلوك الرئيس الجديد يؤكد أن التحديين ليسا على قائمته الاستراتيجية، أقله في الوقت الراهن. فضلاً عن أن ذلك يحمل في طياته تأكيدات على عدم وجود امتعاض من تركة ترامب في ما يرتبط بالقضية الفلسطينية والصراع مع إيران. إذ ثمة قناعات بأن الإدارة الأميركية تنظر إلى هذه التركة كفرصة للسياسة الخارجية في عهد بايدن أكثر مما هي تهديد لها.
في ما يرتبط بالصراع في فلسطين، فإنه لن يكون بمقدور بايدن إلغاء قرارات ترامب الكبرى، في ما يتعلق بالقدس والتطبيع وغيرها، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو استئناف العلاقات مع السلطة الفلسطينية والدعم المالي لها وحث الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على العودة للمفاوضات والتأكيد الكلامي على حلّ الدولتين.
أما بشأن عدم التطرق إلى إيران والملفات المثارة معها، وفي مقدمتها أزمة الاتفاق النووي، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، ثمّة عوامل أخرى حالت دون الإشارة إلى إيران، لعل أولها أن مسألة الاتفاق النووي ليست ضمن الأولويات الأولى لسياسة بايدن الخارجية. والسبب الثاني أن مقاربة الإدارة الأميركية الجديدة في مواجهة إيران لم تنضج بعد، ولذلك فضّل الرئيس الأميركي عدم التصريح بأي شيء تجاهها قبل تبني استراتيجية محددة ومتكاملة الأركان. ويتضح هذا في استمرار الاتصالات المضغوطة لأركان السياسة الخارجية الأميركية مع الأوروبيين والإسرائيليين وأطراف إقليمية أخرى. إذ يبدو أن واشنطن حالياً في مرحلة تقييم الوضع وتنتظر نتائج هذه الاتصالات والمشاورات قبل الإعلان عن سياسة واضحة تجاه إيران.
ورغم عدم ذكره إيران، فإن بعض ملامح سياسة بايدن تجاهها أخذت بالتشكل بالفعل، ولعلها تكون أساس المرحلة المقبلة، حيث يتمثّل الملمح الأول في عودة إيران بالكامل إلى تنفيذ تعهداتها النووية التي أوقفتها خلال العامين الماضيين. ولا يعدّ تأكيد واشنطن على وجوب أن تتخذ طهران الخطوة الأولى لإحياء الاتفاق النووي مهماً، إذ بالإمكان إزالة هذا العائق من خلال التوصل إلى حل مشترك عبر أوروبا، يتلخّص في اتخاذ الإجراءات بشكل متزامن في هذا الاتجاه.
رغم عدم ذكره إيران، فإن بعض ملامح سياسة بايدن تجاهها أخذت بالتشكل بالفعل، ولعلها تكون أساس المرحلة المقبلة
غير أن ما يهم أميركا بالدرجة الأولى هنا هو أن تعود إيران إلى تنفيذ كامل التزاماتها النووية، لكن السؤال الملحّ أنه إذا ما اتخذت طهران هذه الخطوة فهل ستعود الإدارة الأميركية أيضاً إلى تعهداتها بالكامل، أي أن ترفع جميع العقوبات التي فرضها ترامب؟ في هذا الخصوص، تعد الثقة مفقودة في إيران بالإدارة الأميركية، ولذلك تصر على أن تبني خطواتها بناء على ما يفعله الطرف الآخر.
أما الملمح الثاني للسياسة الأميركية المحتملة تجاه إيران، فيتمثّل في أن الاتفاق النووي ليس إلا أساساً لاتفاق شامل وأكبر، ويبقى اتفاقاً ناقصاً يجب أن يكتمل، هذا ما يؤكد عليه المسؤولون الأميركيون الجدد والأطراف الأوروبية الشريكة في الاتفاق، أي فرنسا وألمانيا وبريطانيا. علماً أن هذا التوجه كان موجوداً إبان المفاوضات التي أنتجت الاتفاق النووي عام 2015. بل إن من أسباب قبول الأطراف الغربية عقد الاتفاق السابق، كان جرّ إيران إلى اتفاقية ثانية وثالثة. لكن تلك الأطراف وجدت أن طهران غير مستعدة لذلك، وترفض الاقتراب من "الخطوط الحمراء"، المتمثلة في برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية. وعليه، فإن فشل تجربة الاتفاق النووي خلال الأعوام الماضية، يشكل دافعا قويا للأطراف الغربية للضغط على الجانب الإيراني لطرح الملفات السابقة على طاولة التفاوض مجدداً.
يشير الإصرار الأميركي والأوروبي على ضرورة توسيع الاتفاق النووي بما يشمل الملفات الحساسة، إلى أنه ليس من المقرر أن تلغي الإدارة الأميركية جميع العقوبات، وأنها قد تبقي على بعض تلك العقوبات المؤثرة، حتى لا تفقد أدوات الضغط على إيران، لإجبارها على التفاوض مجدداً حول المطالب الأخرى.
ويبقى الاحتمال الأكثر ترجيحاً بالنظر إلى التعقيدات الراهنة، هو عودة الطرفين إلى التعهدات بالحد الأدنى، في مسعى أميركي لإدارة التوتر مع طهران والتركيز على الملفات الأكثر أهمية بالنسبة لها.