يحل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدءاً من اليوم الخميس، في الجزائر، في زيارة هي الثانية له إلى هذا البلد، كرئيس للجمهورية الفرنسية (أجرى الزيارة الأولى للجزائر كرئيس فرنسي في ديسمبر/كانون الأول 2017، وسبق ذلك زيارته لها كمرشح للرئاسة في فبراير/شباط من العام ذاته)".
زيارة في أعقاب أزمة
وتأتي الزيارة اليوم، في أعقاب أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وسط تشدد جزائري حاد إزاء ملف التاريخ والذاكرة مع فرنسا، والتمسك بمطالب الاعتراف الفرنسي بجرائم الاستعمار في الجزائر. كما تأتي الزيارة الرئاسية الفرنسية في سياق إقليمي مختلف عن السابق، يتسم بإعادة الجزائر لتمركزها الإقليمي على الصعيد السياسي والأمني، ومراجعة متصلبة لمواقفها من أزمات في منطقة الساحل وشمال أفريقيا، والتي تعد باريس متدخلاً رئيسياً فيها. وإضافة إلى كل ذلك، يدخل معطى حسّاس على خط العلاقة بين الجزائر وكامل أوروبا، ومنها فرنسا، يخص أزمة الطاقة، وذلك في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا.
زيارة ماكرون، التي تبدأ اليوم الخميس وتدوم 3 أيام، يلتقي خلالها الرئيس عبد المجيد تبون وكبار المسؤولين في الدولة، ويزور خلالها أيضاً مدينة وهران غربي الجزائر.
واختار ماكرون أن تكون الجزائر أول بلد مغاربي يزوره بعد إعادة انتخابه في إبريل/نيسان الماضي، وهو اختيار يعكس وضع باريس للجزائر كأولوية على سلم العلاقات مع المنطقة المغاربية، خصوصاً في ظلّ تطورات مفصلية تلعب فيها ملفات الأمن والوجود الفرنسي في منطقة الساحل، والطاقة، دوراً مركزياً. كما أن باريس مهتمة بترميم علاقاتها مع الجزائر أولاً، وتجاوز تداعيات أزمة أكتوبر/تشرين الأول الماضي التي نتجت عن تصريحات مثيرة للجدل لماكرون، اعتبر فيها أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عالق في نظام سياسي عسكري. واعتبرت الجزائر تلك التصريحات، غير مقبولة، واستدعت سفيرها في باريس (محمد عنتر داود) لأكثر من 3 أشهر، كما أغلقت مجالها الجوي في وجه الطائرات العسكرية الفرنسية.
باريس مهتمة بترميم علاقاتها مع الجزائر أولاً، وتجاوز تداعيات أزمة أكتوبر/تشرين الأول الماضي التي نتجت عن تصريحات مثيرة للجدل لماكرون
ماكرون والجزائر: معطيات مختلفة
هذه المرة، سيقف الرئيس ماكرون، والمؤسسة الرسمية الفرنسية التي تدير ملف العلاقات مع الجزائر، في الجزائر، أمام معطيات مختلفة تماماً، ومتغيرات عميقة طرأت على مؤسسة الحكم في الجزائر ومواقفها إزاء عدد من الملفات، بما فيها محددات العلاقة مع فرنسا. فمنذ اندلاع الحراك الشعبي في البلاد، في فبراير/شباط 2019، تصاعد الموقف السياسي والشعبي ضد فرنسا، واتخذت السلطة السياسية في الجزائر من كسر نقاط ارتكاز المصالح الفرنسية في الجزائر هدفاً رئيساً لها، حيث تمّ إلغاء عدد من عقود عمل شركات فرنسية في الجزائر.
وللمرة الأولى، ظهرت في خطابات قادة الجيش عبارات "العدو التاريخي" (فرنسا)، وتعمق ذلك لاحقاً مع عدد من المواقف الفرنسية المزعجة للجزائر، بما فيها بعض تصريحات ماكرون نفسه ووزير داخليته جيرالد دارمانان حول التأشيرات، قابلتها الجزائر بمواقف شديدة لم تتعود عليها باريس، وهو ما يعطي لهذه الزيارة طابع "محاولة استدراك" وترميم للعلاقات لتجاوز مخلفات مرحلة حرجة وملتبسة في العلاقات بين البلدين.
على صعيد آخر، سيجد ماكرون أن المعطى الجزائري تغير بشكل كبير على مستوى الشراكات الاقتصادية، حيث تدحرجت فرنسا من المرتبة الأولى التي كانت تحتلها على سلم الشريك التجاري الأول للجزائر، لصالح الصين وتركيا، وأيضاً على سلم الأكثر استثماراً في الجزائر، لصالح تركيا. كما دخلت العلاقة بين الجزائر وروسيا عمقاً أكبر على صعيد التعاون العسكري. لكن الخسارة الكبرى التي يواجهها ماكرون بشأن الجزائر، هو حسم الأخيرة خيار شريكها المركزي في الضفة الشمالية للمتوسط لصالح إيطاليا، وهذا ما يجعل من زيارة ماكرون "متأخرة"، وغير قادرة على اللحاق بكل هذه الخسارات الاقتصادية للمصالح الفرنسية في الجزائر.
وفي السياق، يؤكد عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري عبد السلام باشاغا، لـ"العربي الجديد"، أن هذه الزيارة "يمكن أن تعيد بعث العلاقة بين الجزائر وفرنسا وتحلحل بعض المواضيع، كملف التأشيرة أو اتفاقيات تعاون في مجالات اقتصادية محددة، لكنها لن تعيدها إلى ما كانت عليه من حميمية". ولفت إلى أن الزيارة "تأتي لمحاولة الطرف الفرنسي خصوصاً إعادة الدفء للعلاقات بين البلدين وإعادة بعثها، بعد الفتور الذي طرأ عليها منذ الحراك وتصاعد مع بداية عهد الرئيس تبون".
ولفت باشاغا إلى أن "ما زاد الطين بلة، التصريحات غير الدبلوماسية وغير المسبوقة من الرسميين الفرنسيين، بمن فيهم سقطات الرئيس ماكرون تجاه الجزائر نظاماً وأمة". واعتبر باشاغا أنه "في ظلّ التحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، وبداية توجه الجزائر في تعزيز تنويع علاقاتها مع دول إقليمية أخرى وباتفاقيات إستراتيجية مثل تركيا وإيطاليا وقطر وغيرها، فالمؤكد أن فرنسا لا تريد أن تخسر أكثر امتيازاتها في الجزائر". لكنه رأى أن ما يجب على الطرف الفرنسي فعله "هو أن يتخلى عن الذهنية الاستعمارية في تعامله، وأن يجعل المبدأ الأساسي في ذلك منطق رابح رابح دون أي مفاضلة على حساب مصالحنا". وأوضح أن "أهم مؤشر لقياس ذلك، هو ملف الذاكرة الذي يريد الفرنسيون القفز عليه كل مرة".
ملفات الذاكرة والنفط وأمن الساحل الأفريقي
وإضافة إلى ملف الذاكرة وجرائم الاستعمار الذي يظل محركاً رئيساً في العلاقات الجزائرية الفرنسية، بسبب تمسك بالغ للطرف الجزائري بالحصول على إقرارات فرنسية صريحة بجرائم الاستعمار واستعادة جماجم المقاومين والأرشيف وملف التفجيرات النووية في الصحراء وغيرها، فإن ملفين أساسيين يطرحان بالضرورة في الزيارة: ملف الطاقة الذي يبدو أنه سيكون محوراً رئيساً خلال المحادثات مع تبون، وملف الساحل. وأكد المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، أوليفييه فيران، أمس، أن ماكرون سيناقش مسائل الطاقة (والهجرة) خلال الزيارة.
قد تطرح باريس مقاربة لمنع تمركز روسي ــ تركي في المنطقة
ويطرح ملف الطاقة نفسه على محور البحث، إذ يأتي في سياق عالمي تحومه أزمة الطاقة وإمدادات الغاز التي تعاني منها أوروبا إثر الأزمة الأوكرانية الروسية. وتتبنى باريس صفة المفاوض باسم أوروبا مع الجزائر بشأن إعادة إحياء مشاريع أنابيب نقل للغاز من الجزائر إلى باقي أوروبا، كانت مبرمجة قبل عقدين، وتم التخلي عنها. لكن أزمة الطاقة الجديدة فرضت إعادة إحيائها، على غرار مشروع "ميد كات" الذي كان أطلق في عام 2003، على أن يربط إسبانيا بفرنسا لنقل الغاز الجزائري بطول 190 كيلومتراً، إضافة إلى إحياء خط أنابيب "غالسي" الذي يربط الجزائر بجزيرة سردينيا الإيطالية، خصوصاً وأن الحاجة الأوروبية للغاز باتت ملحة بسبب الحرب في أوكرانيا والتوقعات بأن تطول الأزمة أكثر.
كما تأتي زيارة ماكرون في وقت مُنيت فيه السياسة الفرنسية في ملف الساحل بإخفاقات عدة، بعد فشل عملية "برخان" في مالي وخروج القوات الفرنسية من هذا البلد. وسبق ذلك خروجها من بوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، في الوقت الذي يتعزز فيه الموقف والموقع الجزائري المؤثر في المنطقة، وهو موقع يتعزز مع كل انحسار للوجود الفرنسي في منطقة تعدها الجزائر عمقاً أمنياً واستراتيجياً لها.
ويرتقب بحسب مصادر رسمية تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن تحاول باريس طرح مقاربة تعاون مع الجزائر في المنطقة، لمنع تمركز روسي تركي فيها، وهي مقاربة لا تتوقع المصادر أن "تحظى بأي قبول جزائري، تماماً كما ليس هناك أي استعداد لسماع أي مقترحات فرنسية بشأن أزمات الجزائر مع دول أخرى كإسبانيا أو المغرب". وأكدت المصادر أن "هذه قضايا ليست أبداً على طاولة النقاش".
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة سعيدة، المتخصص في قضايا منطقة الساحل، مولود ود الصديق، لـ"العربي الجديد"، إنه لا يعلّق أمالاً كثيرة على زيارة ماكرون، لا سيما في أبعادها الاستراتيجية، وأيضاً تلك المتعلقة بملف الذاكرة. وأوضح أن "انتكاسات فرنسا في منطقة الساحل، لا سيما في مالي وانتفاضة الشعب النيجري، إضافة إلى الملف الليبي، ستتعين مناقشتها في شطرها الأمني المتعلق بالاستقرار وضمان الأمن الإقليمي، غير أني لا أعتقد أن الجزائر ستدخل في اتفاقات شراكة أمنية تعاونية (مع فرنسا)، ولن تتمخض الزيارة عن أي أجندات حديثة، على الأقل تلك المخطط لها ضمن الزيارة".
وأعرب ود الصديق عن اعتقاده بأن الزيارة ستكون مفتاح تعاون مستقبلي بين الطرفين بعد الاعتداد بموقف الجزائر باعتبارها حجر الزاوية والدولة الأكثر خبرة وقوة في المنطقة، كما سيتعين على الطرف الفرنسي إبداء الكثير من المرونة لاسيما في القضايا الخلافية في ملفات ليبيا ومالي وقضية الصحراء.
حاخام يهود فرنسا ضمن الوفد
إلى ذلك، ثمّة دائماً ما يثير الجدل في مثل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر. الوفد المرافق للرئيس الفرنسي، يضم وزيرة الخارجية كاترين كولونا، ووزير الاقتصاد برونو لومير، والداخلية جيرالد دارمانان، ومؤرخين وباحثين كبنجامان ستورا وجيل كيبل، بالإضافة إلى عميد مسجد باريس، ذي الأصول الجزائرية، شمس الدين حفيز، والنائبين في البرلمان الفرنسي من أصول جزائرية، فضيلة خطابي (وهي رئيسة لجنة الصداقة في البرلمان)، ورشيد تمال (وهو رئيس لجنة الصداقة في مجلس الشيوخ).
لكن المرافق الأكثر جدلاً، هو الحاخام الأكبر ليهود فرنسا، حاييم كورسيا، والذي يتحدر والده من مدينة وهران، غربي الجزائر، ووالدته من منطقة تلمسان، أقصى غربي الجزائر، والذي يواجه حضوره برفض سياسي جزائري لافت، خصوصاً بسبب مواقفه المؤيدة لإسرائيل.
ونشر رئيس حركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب المعارضة في البرلمان، عبد الرزاق مقري، تصريحاً، أعلن فيه استياءه من حضور كورسيا ضمن وفد ماكرون، كونه "يدافع بوضوح عن الكيان الصهيوني ويدعو إلى معاقبة من يحارب الصهيونية مثلما تحارب اللاسامية، وينفي أن دولة الكيان تمارس الأبارتهايد (الفصل العنصري) ويحاول مغالطة الرأي العام". بدوره، عبّر رئيس "حركة البناء"، عبد القادر قرينة، عن رفضه لحضور كورسيا، وأكد في بيان أنه "لن نقبل بأي حال من الأحوال أي محاولات لمقايضات مشبوهة لتحويل أرض الشهداء المباركة إلى أرض توطين لمن خانوا ثورتها، أو كانوا جزءاً من نظام عنصري يحتل شعباً اًعزل".