بات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقضي في الآونة الأخيرة قسطاً من وقته في زيارات خارجية، بعيداً عن مواجهة الأزمات الداخلية التي فجّرها فرض مشروع قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً من دون عرضه على البرلمان، وذلك وفقاً للمادة 49.3 من الدستور، التي تسمح للحكومة بتمرير مشروع قانون بمعزل عن البرلمان. وما إن عاد من زيارة دول أفريقية عدة، حتى قصد الصين، ومن بعدها هولندا.
ولم يمكث ماكرون القادم من بكين أكثر من 24 ساعة في باريس، حتى انتقل إلى أمستردام، في زيارة دولة دامت يومين، ألقى خلالها كلمة حول مستقبل أوروبا.
وعرض "رؤيته" للسيادة والأمن الأوروبيين على الصعيدين الاقتصادي والصناعي. طرح الرئيس الفرنسي في هولندا اعتماد خطة استثمارات ضخمة في الصناعة الخضراء في أوروبا، رداً على خطة مماثلة أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن.
وأكد: "لا نريد الاعتماد على الآخرين في المواضيع الحرجة"، وحدد قضايا عدة، منها الطاقة والذكاء الاصطناعي والشبكات الاجتماعية، والمجال الدفاعي.
يمكن تلخيص زيارة ماكرون إلى الصين بأنها فاشلة
حاول ماكرون في زيارة هولندا أن يحتمي بأوروبا، كي يبدد ردود الفعل السلبية من حول زيارته إلى الصين، التي باتت مثار ردود فعل سلبية وموضع جدل، ولذلك لجأ إلى إثارة مسائل الاستقلالية الاستراتيجية، ودعا الأوروبيين إلى ألا يتبعوا الولايات المتحدة أو الصين، بل أن يجسدوا "قطباً ثالثاً".
أجمعت ردود الفعل على أنه يريد من إعلاء نبرة الخطاب الأوروبي تبرير الصفقة التي أنجزها في بكين، حين قدم تنازلات سياسية مقابل عقود تجارية. كان التناقض صارخاً في بكين، ويمكن تلخيص الزيارة بأنها فاشلة فيما يخص القضايا الدولية، وناجحة على المستوى الثنائي. ومن هنا ربط بعض المراقبين التنازلات التي قدمها ماكرون بتطورات الوضع الداخلي الفرنسي في الآونة الأخيرة. واعتبر هؤلاء أن ماكرون خسر شعبيته الداخلية، وبدأ يوقع نفسه في مشاكل خارجية.
زيارة ماكرون إلى الصين
وضع ماكرون أوكرانيا على رأس جدول الأعمال في الصين، وبالنسبة لمنتقدي زيارته تُعدّ أوكرانيا موضوعاً لا مفر منه، لكن لا ينبغي أن تكون على رأس جدول الأعمال. لأنه من غير المنطقي البحث عن حل لأوكرانيا في الصين، فهناك قناعة في أوساط غربية بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ لا يهتم بإيجاد حل سياسي للصراع، كما أنه غير مهتم بدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عسكرياً.
في الأسابيع الأخيرة، تصاعد الضغط الدولي على الصين، من أجل تشجيعها على الانخراط في جهود البحث عن السلام في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن بكين قالت إنها محايدة رسمياً، فإن الرئيس الصيني لم يدن أبداً الغزو الروسي، بل لم يتحدث عبر الهاتف مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وبالمقابل، ذهب أخيراً إلى موسكو لإعادة تأكيد تحالفه مع بوتين. وبدت الزيارة وكأنها إعلان جبهة مناهضة للغرب.
يقول المدافعون عن زيارة ماكرون إلى بكين إن الرئيس الفرنسي حث نظيره الصيني على عدم تزويد موسكو بأسلحة صينية، حسب ما أفاد دبلوماسي فرنسي. إلا أن منتقديه يأخذون عليه أنه لم يفهم موقف الصين الفعلي من حرب روسيا على أوكرانيا، بدليل تصريحه الشهير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، الذي قال فيه: "أنا مقتنع بأن الصين يمكن أن تؤدي إلى جانبنا دوراً أكبر للوساطة في الأشهر المقبلة"، ولهذا لم يفرق حتى اليوم بين الرئيس الصيني كوسيط محتمل، وداعم عسكري محتمل لروسيا.
أرسل ماكرون من خلال الزيارة وما دار خلالها أكثر من إشارة سلبية للشركاء الغربيين، وجرح من مصداقيته، مع أن بعضهم ينظر إلى ما قام به من زاوية أن تغيير موقف الصين أمر يستحق المحاولة. لكن بعد محاولاته لثني الرئيس الروسي عن غزو أوكرانيا يعد هذا إخفاقاً ثانياً على الساحة الدبلوماسية.
أرسل ماكرون من خلال الزيارة وما دار خلالها أكثر من إشارة سلبية للشركاء الغربيين
وكان للبيان الختامي للزيارة وقع الصدمة على الشركاء الغربيين، لأن الإشارة المباشرة الوحيدة لأوكرانيا في البيان الصيني الفرنسي المكون من 51 نقطة هي: "يدعم كلا الطرفين جميع الجهود المبذولة لاستعادة السلام في أوكرانيا على أساس القانون الدولي وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
الثابت في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية هو أن الصين تدعم روسيا سياسياً، وليس عسكرياً، وصبّ هذا الدعم في مصلحة بكين حالياً. أوكرانيا ليست حربها، لكنها مهتمة بإظهار جبهة أيديولوجية موحدة مع روسيا بوجه الاستراتيجية الأميركية، وبناءً على ذلك لا يمكن الاعتماد على الصين لأداء دور الوسيط في الحرب في أوكرانيا.
علاوة على ذلك، لم تجرب بكين أي مسعى للوساطة، ثم أن موقف الحكومة الصينية المكون من 12 نقطة، والذي يدعي اقتراح "حل سياسي للأزمة الأوكرانية"، لا يقدم في الواقع أي اقتراحات ملموسة. ومن هنا من الصعب تخيل كيف يمكن لبكين أن تشكل وسيطاً مقبولاً لكييف، من دون الاعتراف بغزو روسيا لأوكرانيا، أو تتحدث معها ولو عن طريق الهاتف.
وبالإضافة إلى موقف ماكرون الهش من حرب روسيا على أوكرانيا، هناك ثلاث مسائل مهمة، توقف أمامها منتقدو الزيارة. الأولى، هي العلاقات المتوترة بين الاتحاد الأوروبي والصين. وعلى الرغم من أن ماكرون اصطحب معه في الزيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فإنهما لم يكونا على نفس الموجة.
لم يظهر ماكرون التشدد المطلوب في ملفي أوكرانيا والخلافات الاقتصادية، مما دفع فون ديرلاين إلى الإعلان خلال المؤتمر الصحافي المشترك، بين المسؤولين الثلاثة في بكين، عن أن الرئيس الصيني أبدى استعداداً للاتصال بنظيره الأوكراني.
وكانت رئيسة المفوضية قبل أسبوع من الزيارة قد وضعت ما يشبه الشرط حين صرحت: "كيف تواصل الصين الرد على حرب بوتين، سيكون عاملاً حاسماً في مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين"، وهذا ما أغضب بكين، التي استقبلتها بعدم ارتياح واضح.
ماكرون والموقف الأوروبي
ويبدو من خطاب رئيسة المفوضية أنه ليس هناك تغيير في الموقف الأوروبي، بل تكرار ثابتة وردت في تقرير المفوضية في عام 2019 الذي وصف الصين بأنها "شريك ومنافس منهجي". ومالت تصريحاتها بوضوح إلى التوازن لصالح التنافس المنهجي، مع ملاحظة التطرف في القوة الصينية، ونهاية الإصلاحات الاقتصادية والموقف العدواني على الساحة الدولية.
لعب ماكرون دور الشرطي الجيد، وفون دير لاين دور الشرطي السيئ في بكين، مما أضعف على الفور "الرواية الأوروبية للجبهة الموحدة"، على حد ما جاء في قراءة تحليلية قدمها الباحث أنطوان بونداز من "مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية" الفرنسية.
تصريحات فون دير لاين كشفت تصالحية موقف ماكرون مع الصين، ولكنها تكن جذرية لتتطابق مع الموقف الأميركي، وفحواها هو أن الاتحاد الأوروبي لا ينحاز إلى موقف واشنطن الأكثر هجوماً، لكنه يفضل نهجاً دفاعياً لتقليل الاعتماد على الصين.
في باريس يسود انطباع عام بأنه لم يعد لدى الرئيس ما يفعله داخلياً فهو لا يمتلك أكثرية برلمانية للحكم
والمسألة الثانية تتلخص في تجنب ماكرون موضوعاً خطيراً للغاية يثير قلق فرنسا وأوروبا، وهو العجز التجاري مع الصين. وهو ما تحدثت عنه، صراحة، فون دير لاين، وأكدت عدم المساواة في الوصول إلى السوق الصينية بسبب الحمائية. وقالت: "لا توجد معاملة بالمثل في التجارة والاستثمار المتبادلين".
والمسألة الثالثة تتعلق بموقف فرنسا الرخو من الوضع في مضيق تايوان، وكان لافتاً إعلان الإليزيه أن الموضوع لن يتم تناوله، إلا بمبادرة من الصين، الأمر الذي أثار دهشة الحلفاء الغربيين، الذين يعتبرون المضيق طريقاً تجارياً دولياً، يتأثر به الجميع بشكل مباشر، بمن في ذلك فرنسا. وحتى صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية اعتبرت موقف ماكرون خاطئاً لأنه، على حد تعبيرها، "ليس في وسع الديمقراطيات الغربية تجاهل مسألة استقلالية تايوان عن الصين".
أراد ماكرون البقاء على خط إيجابي مع الصين، إلا أن الحياد لا يتماشى مع دولة مثل فرنسا، التي تعد نفسها قوة رائدة في أوروبا، وعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وذات حضور مهم في المحيطين الهندي والهادئ. لا يجدر بها أن تظل صماء وبكماء في مواجهة القضية الأمنية الرئيسية في هذه المنطقة، ألا وهي الاستقرار في مضيق تايوان.
في باريس يسود انطباع عام بأنه لم يعد لدى الرئيس ما يفعله داخلياً فهو لا يمتلك أكثرية برلمانية للحكم، وقد خلق عن طريق فرض قانون التقاعد أزمة كبيرة تنذر بانفجارات اجتماعية أو أكثر، خصوصاً أن الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً، وهناك أربع سنوات من ولايته الثانية يتوجب عليه أن يمضيها في البحث خارجياً عما يسند وضعه الداخلي المتهاوي.
سبب ربط تنازلات ماكرون في الصين بالوضع الداخلي، هو وجود أكثر من 50 من رجال الأعمال في الطائرة التي أقلته إلى الصين، حيث وقعت فرنسا عدداً كبيراً من الصفقات بشأن مشاريع البناء الكبرى، بما في ذلك محطات الطاقة النووية ومحطة تحلية المياه، وبيع المزيد من الطائرات ومستحضرات التجميل. ورأى مراقبون إن إحدى فوائد تلك الصفقات قد تكون تهدئة بعض الغضب في الداخل، حيث ينبغي أن تخلق المزيد من فرص العمل في فرنسا.