بعد الموافقة الأولية لكل من لبنان وإسرائيل على الصيغة النهائية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، التي عبّرت عنها تصريحات الطرفين، يرتقب الإعلان الرسمي من الجانبين اليوم الأربعاء أو غداً الخميس على أبعد تقديرٍ، علماً أن إطلالة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أمس، وإن دعا فيها إلى اليقظة والاحتياط، إلا أنها أكدت اتجاهاً رسمياً بالقبول، بقوله: "الليلة فرح وتصفيق".
وتشير أوساط قصر بعبدا الرئاسي لـ"العربي الجديد"، إلى أنه ليست هناك حتى الساعة من لقاءات بارزة على جدول أعمال الرئيس ميشال عون، أما كلمته التي كانت مفترضة أمس الثلاثاء إلى اللبنانيين، فأُرجئت، وستُعلَن فور تحديد توقيتها، لافتة إلى أن التمهّل مطلوب، والموافقة على النسخة الإنكليزية تمّت، بانتظار العربية.
وتلفت إلى أن هناك آليات يُبحث بها على صعيد ما بعد الإعلان الرسمي للموافقة، والإجراءات المطلوبة لتوقيع الاتفاق، إذ هناك إصرار لبناني على أن تجري المراسم في الناقورة، جنوباً، بحضور أممي وأميركي، وألا يكون هناك لقاء مباشر مع الوفد الإسرائيلي، بحيث ستجري الموافقة والتوقيع بصورة منفصلة، إذ يوقع كلّ طرف نسخته لتودع الجانب الأميركي، فالأمم المتحدة، مشيرة إلى أن البحث أيضاً يجري حول أعضاء الوفد اللبناني إلى الناقورة.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن وفد لبنان الذي كُلّف بمهمة التفاوض في الجولات التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، عانى من انشقاقات، وخصوصاً على مستوى رئيسه العميد الركن بسام ياسين، الذي أحيل على التقاعد، كما انتفض بوجه تخلي لبنان عن الخط 29، وتنازله عن جزء كبير من حقوقه البحرية وثرواته النفطية، وذلك قبل أن تنتقل المفاوضات أيضاً من شقها التقني إلى السياسي، بالوساطة الأميركية.
وإذ يُرحّب مصدرٌ مسؤولٌ في "اليونيفيل" العاملة جنوبيّ لبنان، بالاتفاق الذي جرى التوصل إليه، ويأمل بأن يسلك طريق الموافقة النهائية، يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن الأمم المتحدة لا علاقة لها بالآليات التي يختارها الطرفان، وهي مستعدة لرعاية التفاهم والتوقيع وتقديم أي دور إيجابي، وهي تنظر بتفاؤل إلى هذا الحدث لما من شأنه أن يترجَم هدوءا أمنيّا على الحدود.
كيف يصبح الاتفاق نافذاً؟
وتبعاً للاتفاق المنتظر توقيعه، يقدّم كلّ طرف في الوقت نفسه رسالة تحتوي على قائمة بالإحداثيات الجغرافية ذات الصلة بترسيم خط الحدود البحرية إلى الأمين العام للأمم المتحدة في اليوم الذي يتلقى فيه رسالة الولايات المتحدة، كما يتعين على الطرفين إخطار الولايات المتحدة عند تقديم رسالتيهما إلى الأمم المتحدة.
ويدخل الاتفاق حيز التنفيذ في التاريخ الذي ترسل فيه حكومة الولايات المتحدة الأميركية إشعاراً يتضمن تأكيداً على موافقة كل من الطرفين على الأحكام المنصوص عليها في هذا الاتفاق.
وإذا تم قبول الشروط النهائية، تقوم حكومة الولايات المتحدة بدعوة حكومة كلّ من لبنان وإسرائيل إلى إبلاغ موافقتها على هذه الشروط عن طريق إرسال ردّ رسمي مكتوب.
ويحلّ الإيداع الحالي المقدَّم بموجب هذه الوثيقة جزئياً محلّ الإيداع السابق الذي تقدّم به لبنان بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر 2011. وقد اتّفق الطرفان في تبادل الرسائل على أنّ الرسائل المتبادلة تؤسّس لحلّ دائم ومنصف للنزاع البحري القائم بينهما.
وضمن الاتفاق أيضاً، يُطلب إلى الأمين العام مساعدة لبنان على الإعلان الواجب عن هذا الإيداع، بما في ذلك عن طريق نشر المواد والمعلومات المودَعة في نشرة قانون البحار وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بشعبة شؤون المحيطات وقانون البحار.
مطالبات لبنانية بعرض الاتفاق على البرلمان
وفيما نشر الإعلام الإسرائيلي أبرز بنود الاتفاق، ويجتمع الكابينت السياسي والأمني للحكومة الإسرائيلية اليوم للتصديق عليه، تعلو المطالبات في لبنان بعرض الاتفاق الذي سُرِّب أيضاً إعلامياً باللغة العربية على البرلمان للتباحث به، نظراً لأهمية الملف المرتبط بحقوق وطنية تعني الدولة والشعب اللبناني، وسط ريبة تحوم حول الموقف اللبناني و"تنازلاته"، إلى جانب انعدام الثقة بتولي المنظومة الحاكمة إدارة ثروات البلاد النفطية.
واكتفى المسؤولون اللبنانيون بالتأكيد قبل تسريب الاتفاق أن لبنان نال جميع مطالبه والتعديلات التي تمسّك بها، على صعيد حقل قانا كاملاً، وحصته منه على الجبهتين، وعدم قيام أي شراكة بين لبنان وإسرائيل ولا تقاسم مباشراً للثروات، على أن يأخذ الجانب الإسرائيلي تعويضاته من شركة توتال الفرنسية، تبعاً للاتفاق بينهما، وفصل الترسيم البحري عن البري.
ويقول عضو تكتل "الجمهورية القوية" (تمثل حزب القوات اللبنانية برلمانياً برئاسة سمير جعجع)، النائب جورج عقيص، لـ"العربي الجديد": "نتمنى ألا يكون هناك تفريط بالحقوق اللبنانية في النفط والغاز، أو تعرّض الجانب اللبناني لضغطٍ غير معلومٍ أو أن يكون قد شارك بصفقةٍ غير واضحة المعالم بعد"، ويضيف: "عندما نعتاد من قبل السلطة غياب أي حدّ أدنى من الشفافية، تكون دائماً أعمالها قابلة للريبة والارتياب حتى إثبات العكس، ونكون أمام قرينة تفريط الحقوق حتى إثبات العكس. تبعاً لذلك، من المفترض أن يحصل نقاش علني حول الاتفاق، إما في مجلس النواب أو داخل الحكومة، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه".
ويرى عقيص أن "هذا القرار مرتبط بمصير أجيال لبنانية قادمة، ويتعلق بثروات لبنان التي لا يمكن تعويضها لاحقاً، وهي المنفذ والنافذة الأخيرة للاقتصاد اللبناني للنهوض والتنفّس من جديد، من هنا يجب مشاركة الرأي العام، وعدم تغييبه، وذلك يصبّ أيضاً في مصلحة قطع الطريق أمام أي استنتاجات خاطئة، فلا نريد أن ندين عملاً قد يكون في مكانه الصحيح، أو نعطي صك براءة لاتفاق قد يكون أتى على حساب لبنان وشعبه".
ويشير إلى أنه حتى الساعة المسار غير مطمئن، خصوصاً بخروج الحكومة الإسرائيلية وإعلانها أن الاتفاق يصب في مصلحتها مائة في المائة، بالتالي لن يكون في مصلحة لبنان، فلإسرائيل مطامع قديمة جداً في المياه اللبنانية والحدود البحرية والبرية.
وفي هذا الإطار، يُبدي عقيص مخاوفه من طريقة إدارة ثروات لبنان، خصوصاً أن الحوكمة مفقودة، والشفافية شبه غائبة، علماً أن القوانين موجودة لكنها غير مطبقة، إذ على سبيل المثال، هناك قانون الموارد البترولية رقم 132/2010، الذي يرعى إلى حدٍّ كبير هذه الأعمال كلها، وهناك قانون تعزيز الشفافية في قطاع النفط الذي أُقرّ عام 2018، يجب التزام أحكامه، وعلى منظمات المجتمع المدني أن يكون صوتها عالياً للتأكد من مدى تطبيق أحكام القانون.
والأهم من هذا كلّه، وفق عقيص، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لتعزيز الشفافية في قطاع النفط، التي أشار إليها النص القانوني، وأعطاها مرجعية الرقابة على الأعمال النفطية، لافتاً بالتالي إلى أن هناك ما يكفي من القوانين، لكن يبقى التطبيق، معبّراً أيضاً عن أهمية إنشاء صندوق سيادي لإدارة النفط وغيرها من الإجراءات المفترض التزامها لضبط العائدات النفطية.
من جهته، دعا النائب في كتلة "التغييريين" ميشال دويهي، في تغريدة عبر "تويتر"، إلى حراك فعّال على الصعد كافة لكشف تفاصيل الاتفاق، وقال إن "عدم مطالبة النواب رئيس البرلمان بعرض تفاصيل الاتفاق وكيفية إدارته، سيؤدي بنا إلى النتائج الوخيمة نفسها التي نتخبط فيها حالياً، وأوصلت البلاد إلى الفقر المدقع والبطالة المستشرية والهجرة المتفاقمة وتردي الخدمات العامة".
فضلاً عن الافلاس المصرفي والمالي.
— Michel C Douaihy د.ميشال دويهي (@MDOUAIHY) October 11, 2022
لذا، لا بد من حراك فعَّال على كل الصعد لكشف تفاصيل الاتفاق لكي لا يحول هذا الاخير دون افلات هؤلاء من العقاب قبل بدء استخراج النفط والغاز، وإلا ستتكرر الكارثة مرة بعد أخرى على حساب البلاد ومقدراتها المنهوبة والناس وحقوقها المسلوبة .٤/٤
وأشار حزب "الكتائب اللبنانية" برئاسة النائب سامي الجميّل، في بيان، إلى أن "الاتفاق الذي فاوض عليه حزب الله وحلفاؤه من دون إطلاع ممثلي الشعب اللبناني عليه، لا يجوز أن يهرَّب تهريباً، بل لا بد من إحالته إلى مجلس النواب الذي تناط به الموافقة على هذا النوع من الاتفاقات بالاستناد إلى المادة الـ52 من الدستور".
وتنص المادة المذكورة على أن "المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب".
الاتفاق ملزم للطرفين اللبناني والإسرائيلي
في السياق، تشير المحامية الدكتورة جوديت التيني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الأصل، ووفقاً للقانون الدولي العام، أن يتم عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية وفقاً للقواعد الدستورية في كل دولة. هذا يعني أن على لبنان أن يحترم المادة الـ52 من الدستور اللبناني، التي استناداً إليها على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل أن يكون معاهدة دولية تخضع للإبرام والتصديق من رئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء وبعد موافقة مجلس الوزراء بالثلثين".
وتضيف: "على هذه المعاهدة أن تخضع أيضاً لموافقة مجلس النواب من خلال إقراره لقانون بإجازة إبرام المعاهدة، لأن معاهدة الترسيم من عداد المعاهدات التي تتعلق بمالية الدولة، والتي لا يمكن فسخها سنة فسنة كما المعاهدات التجارية التي لا بد لها من أن تحظى بموافقة مجلس النواب لإبرامها". وتستدرك التيني: "لكن يبدو أنّ اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل لن يمرّ في لبنان بكافة مراحل الإبرام المذكورة أعلاه، وسيدخل حيز التنفيذ بمجرد توقيعه من المندوبين في الناقورة، وهذا يعني أنّ لبنان اعتمد نوعاً من الاتفاقات الدولية الذي يُسمّى الاتفاقات المبسطة أو الاتفاقات بالشكل المختصر، التي لا تحتاج إلى التصديق بمفهوم القانون الدولي، والتي تبررها اعتبارات سياسية وسيادية"، مشيرةً إلى أن "لا مانع قانونياً من أن يكون الاتفاق على الشكل المبسط بالنسبة إلى لبنان وأن يُبرم ويصدَّق في إسرائيل".
وتلفت إلى أن "هذا الاتفاق سيكون ملزماً للطرفين، وينبغي أن يطبقاه بحسن نيّة، ولا يمكن عملاً باتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 أن تتملّص أي دولة من تطبيقه، ولا أن تحتج بأحكام قانونها الداخلي لعدم تطبيقه"، وتردف: "أما إذا لم يبرم لبنان هذا الاتفاق على شكل معاهدة دولية كما تقتضيه المادة الـ52 من الدستور اللبناني، فلا يمكن التذرع بهذه المخالفة كسبب لبطلان الاتفاق في مرحلة تنفيذه، لأن الاحتجاج بالبطلان هنا يعود للدولة التي وُضعت القاعدة الدستورية أي المادة المذكورة، في مصلحتها".