عادت منذ أشهر أخبار العمليات "الانغماسية" التي ينفذها عناصر من "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) للتناقل على مواقع تابعة للنظام السوري. كما باتت هذه العمليات تتصدر الأخبار التي تبثها معرّفات "الهيئة" بشكل متكرر.
وعلى الرغم من محدودية تلك العمليات، إلا أنها استهدفت غالباً نقاط التماس بين مناطق النظام ومناطق سيطرة "الهيئة"، ووُثِّق بعضها بالصوت والصورة عبر كاميرات ثُبّتت على رؤوس العناصر المشاركين في تلك العمليات.
عبد الحميد: "الهيئة" تحاول امتصاص غضب الشارع من عدم فتحها معارك حقيقية ضد قوات النظام
وأثار هذا الأمر العديد من التساؤلات حول عودة "الهيئة" للاهتمام بالعمليات "الانغماسية" وتسويقها إعلامياً. وهذا المصطلح أطلقته التنظيمات المتشددة على الضربات العسكرية الخاطفة التي تستهدف مواقع النظام السوري، عبر عمليات التسلل والمباغتة، والتي يجرى فيها استخدام الأسلحة الخفيفة فقط، وبمشاركة محدودة من المقاتلين.
الغاية من العمليات "الانغماسية"
وقال مصدر لديه إلمام بهذا النوع من العمليات، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الغاية منها إحداث ضرر في مواقع العدو، وضرب نقاطه الحيوية، وتكون سريعة وخاطفة، ولا يجرى التمركز في مكان العدو بعد السيطرة عليه، على خلاف العمليات العسكرية الأخرى التي تهدف للسيطرة على نقطة أو تجمع ما".
وأوضح أن "هذه العمليات تحتاج لتدريب من نوع خاص، وتختص بها زمر محددة من المقاتلين الذين يملكون مقومات محددة تميزهم عن غيرهم، مثل اللياقة (البدنية) العالية والبنية القوية، وهناك اهتمام من قبل الفصائل بهذا النوع من التدريبات بسبب أهميته في مواجهة النظام السوري".
وقال عبد الحميد، وهو مهندس مقيم في مدينة إدلب فضل عدم كشف كنيته لأسباب أمنية، لـ"لعربي الجديد"، إن "هيئة تحرير الشام"، على الرغم من إحكام قبضتها عسكرياً وأمنياً وخدمياً على محافظة إدلب من دون أن تعير اهتماماً لمعاناة المواطنين وآرائهم أية أهمية، بدأت خلال الأشهر الماضية تحاول كسب الرأي العام الساخط عليها.
محاولة لامتصاص غضب الشارع
وأشار إلى أن "الهيئة" تحاول امتصاص غضب الشارع من عدم فتحها معارك حقيقية ضد قوات النظام لاستعادة جنوب إدلب، من خلال الترويج لعمليات "انغماسية" لم تحقق أية أهداف.
ولفت إلى أن العمليات "الانغماسية" عادة ما تُستخدم لمباغتة العدو في بداية معركة كبرى، تتمكن من خلالها فتح ثغرة ما لبداية معركة وليس عملية أشبه بمناوشة. واعتبر أن "الهيئة ربما بدأت تشعر بخطر التحولات السياسية في المنطقة، خصوصاً التطبيع التركي مع النظام، فبدأت محاولات لكسب الشارع، كي تكون رقماً صعباً في أية تسوية مقبلة".
من جانبه، قال الباحث المختص في الفصائل الجهادية عباس شريفة، لـ"العربي الجديد"، إن فشل "هيئة تحرير الشام" في السيطرة على كامل الشمال السوري دفعها لرفع وتيرة العمليات "الانغماسية" ضد النظام. وبرأيه، فإنها رسائل واضحة لتركيا التي توجه الأمور نحو التهدئة على الجبهات، كما أن العمليات الأخيرة تمثل رسائل إلى عناصر تحرير الشام لشحذ هممهم مرة أخرى، بعد أن فشلت مساعيهم في السيطرة على الشمال السوري.
وأعرب عن اعتقاده أن ما تفعله "الهيئة" يأتي بهدف كسب المشروعية، والحفاظ على روايتها أنها تحمل راية الجهاد والمقاومة، والتبرير لمطالبتها بالسيطرة على الشمال.
العمليات "الانغماسية" مناكفة لتركيا
ووفقاً لشريفة، فإن العمليات التي تشن ليست خياراً استراتيجياً لـ"الهيئة"، وإنما تحمل نوعاً من المناكفة لتركيا، التي تسعى للتطبيع مع النظام، وتمنع الهيئة من السيطرة على الشمال. كما أن تلك العمليات تحمل رسائل للولايات المتحدة بأنّ هيئة تحرير الشام لا تنضوي تحت الرعاية والتحكم التركيين، ويمكن الاعتماد عليها كشريك لمحاربة الإرهاب ومواجهة النفوذ الروسي والإيراني من خلال حرب العصابات.
عباس شريفة: عمليات "الهيئة" تحمل نوعاً من المناكفة لتركيا، التي تسعى للتطبيع مع النظام
وعن أثر هذه العمليات على التصنيف الدولي لـ"الهيئة"، قال شريفة: لا أعتقد أن هذه العمليات ستؤثر على وضع تحرير الشام، خصوصاً مع انشغال العالم بمحور الصراع في أوكرانيا، وعدم رغبة الدول بالتصعيد في سورية.
من جانبه، قال الناشط أحمد العبد الله، لـ"العربي الجديد"، إن هذه العمليات ترافقت مع تعالي الأصوات الدولية التي تسعى للتطبيع مع النظام السوري وعودة العلاقات إلى سابق عهدها، ما رفع من قيمة هذه العمليات لدى الحاضنة الشعبية، التي لا تزال تتمسك بخيار إسقاط النظام والاستمرار بالثورة.
واعتبر أن العمليات الانغماسية أدت دوراً مهماً في ردع قوات (بشار) الأسد عن الاستمرار بنهجها في استهداف مناطق شمال غرب سورية، إذ باتت تلك العمليات تستهدف النقاط الحساسة، إضافة إلى مرابض المدفعية، فكانت بمثابة رسائل تهديد للنظام السوري عن إمكانية الرد على أي استهداف يمكن أن يقوم به ضد مناطق المدنيين في شمال غرب سورية.
ملف المصالحة غير مطروح
من جهته، قال الناشط سعيد العمر، من محافظة إدلب، لـ"العربي الجديد"، إن هدف "تحرير الشام" من هذه العمليات يتمحور في عدة نقاط، بينها بعث رسالة للمجتمع الدولي والنظام السوري بأن ملف المصالحة غير مطروح على الطاولة.
واعتبر أن "هيئة تحرير الشام" تسعى لزيادة حاضنتها الشعبية، وتعزيز ثقة عناصرها بها، عبر إظهار أنها الفصيل الوحيد الذي يقف في وجه النظام السوري ويرد على الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين، كما تعزز ثقة العناصر بقيادتها التي تحاول تعزيز فكرة استقلالية القرار وعدم تبعيته للإملاءات الخارجية التي تنادي بالمصالحة.
واعتبر أن العمليات "الانغماسية" أحد الحلول المطروحة للمواجهة عبر حرب العصابات، وهي سياسة جديدة بدأت هيئة تحرير الشام انتهاجها للابتعاد عن الحرب المفتوحة، والتي كان للطيران الحربي دور كبير في حسمها، حيث تسعى الهيئة لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالقوات التي تهاجمها، مع الحفاظ على عتادها وعناصرها من دون الحاجة لزجهم في عمليات ضخمة تكلفها خسائر كبيرة في العنصر البشري، الذي بات مهماً جداً نتيجة طول أمد الحرب.