تعيش محافظة صلاح الدين منذ يومين تحت وطأة الصدمة جراء المجزرة التي ارتكبت في قضاء بلد وتحديداً في ناحية الفرحاتية الواقعة إلى الجنوب من مدينة سامراء شمال العراق، والتي راح ضحيتها 12 مواطناً بينهم أربعة فتية أُعدموا رمياً بالرصاص، بعد ساعات من اعتقالهم إلى جانب 28 آخرين. وتشير أغلب التسريبات الأمنية وشهادات ذوي الضحايا إلى تورط عناصر من مليشيا "عصائب أهل الحق"، بزعامة قيس الخزعلي في ارتكاب المجزرة، فيما تنفي الأخيرة أي مسؤولية لها. وفي الوقت الذي لا تزال فيه قوات الأمن العراقية تغلق المنطقة، في خطوة تقول إنها بهدف إجراء المزيد من التحقيقات بشأن المجزرة التي اكتشفت أول من أمس السبت، إلا أنّ سكاناً محليين يتحدثون عن أنّ الإغلاق والتشديد الأمني، يأتي ضمن مساعي الحكومة لمنع موجة نزوح من المنطقة تخطط لها عائلات عدة، خوفاً من حوادث إعدام مماثلة.
ولم تقدّم حكومة مصطفى الكاظمي، حتى مساء أمس، أي رواية تفصيلية بشأن الحادثة، على الرغم من إعلانها فتح تحقيق رسمي بالجريمة، ومسارعة الكاظمي ووزيري الدفاع جمعة عناد والداخلية عثمان الغانمي، إلى جانب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، إلى زيارة منازل ذوي الضحايا وتقديم العزاء لهم. كما أنّ التفاصيل تبدو متضاربة، غير أنّ أكثرها دقة ووضوحاً مقاطع الفيديو لذوي الضحايا الذين كانوا يتلوون على الأرض جزعاً، وهم يتحدثون عن اقتحام عناصر مسلحة منازلهم في الثانية فجراً، وأخذ أبنائهم قبل أن يعثروا عليهم خلف محطة تصفية للمياه وقد أعدموا رمياً بالرصاص.
واستدعت الجريمة تعاطفاً شعبياً عراقياً واسعاً، ساهم في منع محاولات توظيف المجزرة طائفياً. لكن ذلك لم يمنع من بروز مخاوف لدى العراقيين من نوايا إعادة سيناريو الفتنة الطائفية مجدداً قبل الانتخابات التي لم يتبق على موعدها المفترض في السادس من يونيو/حزيران المقبل سوى نحو 8 أشهر. وعادةً ما تستفيد الأحزاب الطائفية الرئيسة في البلاد، والجماعات المسلحة وتنظيم "داعش"، من أي احتقان طائفي.
عودة المطالبات بإخراج الفصائل من المحافظات المحررة
ونددت شخصيات دينية وناشطون من كربلاء والناصرية والنجف بالجريمة، مطالبين الحكومة بالعمل على تقديم المتورطين بها للقضاء. وأبرز هذه الشخصيات رجل الدين الشيعي الداعم للتظاهرات أسعد الناصري، الذي خاطب أهالي صلاح الدين بالقول إنّ "مصابكم ومصابنا واحد. وما جرى عليكم أدخل الألم إلى قلوبنا، لأننا في مركب واحد، وعدونا واحد". وأضاف: "ما دامت المليشيات المنفلتة تصول وتجول من دون رادع، وعلى مرأى ومسمع من الحكومة الضعيفة البائسة، فإنّ العراق متجه نحو دهاليز مدمرة، والأوضاع تزداد سوءاً وتعقيداً".
وفي التفاصيل، فقد تم اعتقال 28 شخصاً أخيراً، بينهم أشقاء، وأب وأبناؤه، وأبناء عم أيضاً، وهم من عشائر الجيسات والرفيعات والدليم، ليتم العثور لاحقاً على جثث 12 شخصاً من هؤلاء السبت، وقد تم إعدامهم بالرصاص؛ أكبرهم عمره 59 عاماً وأصغرهم من مواليد عام 2006. وجاءت عملية الاعتقال على خلفية مقتل عنصر من مليشيا "عصائب أهل الحق"، على الطريق العام للفرحاتية بهجوم لمسلحي "داعش".
وأدت هذه الحادثة إلى عودة مطالبة سياسيين وناشطين، بإخراج الفصائل المسلحة من المحافظات المحررة، والتي تسيطر على الملف الأمني فيها، منذ أن تم تحريرها من سيطرة "داعش" قبل سنوات عدة، فيما حمّل نواب ومسؤولون في محافظة صلاح الدين رئيس الحكومة، مسؤولية اتخاذ قرار بشأن ذلك، محذرين من مغبة عدم التعامل الجدي مع الملف.
ودعا نواب محافظة صلاح الدين، بعد اجتماع لهم مساء السبت، الحكومة إلى "اتخاذ موقف صارم وحقيقي وإخراج الفصائل المسلحة من محافظتهم". وأكدوا في بيان لهم، أنّ "وجود جماعات مسلحة تصادر القرار الأمني وتمنع القوات الأمنية بجميع صنوفها من القيام بواجبها في حماية أمن المواطنين، أصبح غير مقبول". وأضافوا أنّ "المواطنين في المحافظة بين نارين، فلا يسمح لهم بحمل السلاح ليدافعوا عن أنفسهم ضدّ العصابات المجرمة والجماعات الإرهابية الداعشية، ولا توجد حماية لهم من الأجهزة الأمنية التي هي نفسها تعاني من تدخل بعض الجماعات المسلحة في عملها وخططها، مما يربك الأوضاع الأمنية في المحافظة".
وشددوا على أنه "أصبح لزاماً خروج كل الجهات المسلحة التي ترتبط بالأحزاب، أو الجماعات المسلحة التي تحاول إلصاق نفسها بالحشد الشعبي، ويتخذ بعض ضعاف النفوس منها غطاءً لارتكاب الجرائم بحق الأبرياء، وأن تبقى الكلمة الفصل في الشأن الأمني لقواتنا المسلحة وقوى الأمن الداخلي حصراً".
وتواصلت "العربي الجديد" مع أحد أقرباء ضحايا المجزرة، الذي قال إنّ "الفرحاتية وشريط من القرى يمر بمنطقة الاسحاقي وصولاً إلى سامراء، تسيطر عليه المليشيات أمنياً، ولا وجود لقوات الجيش والشرطة فيه"، مضيفاً أنّ "هذه المناطق تخضع لنفوذ وسلاح فصيلين مسلحين هما؛ عصائب أهل الحق، وسرايا السلام، إلا أنّ الفرحاتية تحديداً تخضع لسيطرة العصائب". وأوضح المتحدث نفسه أنّ "الأهالي كانوا قد اشتكوا لمسؤولين محليين في مبنى محافظة صلاح الدين، من تجاوزات عناصر من مليشيا العصائب، وتحديداً فرض الإتاوات والسب والشتم الذي يتعرض له الأهالي، إضافة إلى محاولات التهديد باختطاف النساء، حتى أنّ كثيراً من العائلات اضطرت للتخلي عن فكرة إرسال بناتها للمدارس".
أصغر ضحايا الإعدام الجماعي، يبلغ من العمر 14 عاماً
ولفت إلى أنّ "الأهالي طالبوا باستبدال العصائب بقوة عسكرية أخرى، حتى لو كانت سرايا السلام، على اعتبار أن هذه الأخيرة أقل عنفاً واستهتاراً من العصائب، ولكنهم كانوا يأملون بأن تمسك قوات الجيش والشرطة أمن المنطقة". وأكد أنّ "هذه الشكوى التي تركها بعض وجهاء الفرحاتية، وصلت بطريقة أو بأخرى إلى قادة مليشيا عصائب أهل الحق، مما دفع عناصر من الأخيرة لزيارة المنطقة، ومحاصرتها وإجراء سلسلة من المداهمات فيها بحجة البحث عن إرهابيين".
وتابع أنّ "عناصر من مليشيا العصائب تجاوزوا بالضرب على أكثر من شاب في المنطقة خلال عمليات المداهمة، وقد أبلغوا الأهالي بضرورة مساندتهم والتعاون معهم من أجل ما قالوا إنه فرض الأمن، ثم غادروا، وكل هذا حدث يوم الجمعة الماضي. إلا أنّ فجر السبت شهد مداهمة جديدة لمسلحي العصائب للفرحاتية، وتم اعتقال الشبان وبعدها تم إعدام المواطنين الـ12، وحالياً هناك آخرين مصيرهم مجهول".
من جهته، قال الناشط من صلاح الدين، سيف ساطي، إنّ "أصغر ضحايا الإعدام الجماعي، يبلغ من العمر 14 عاماً"، لافتاً إلى أنّ "غالبية الضحايا أقرباء، وهم من قبائل الدليم والرفيعات والجيسات". وأوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "العملية انتقامية وتهدف إلى إحداث تغييرات ديمغرافية، كون المنطقة تضم عرباً من الطائفة السنية، في شريط المدن الذي يبدأ من قضاء بلد انتهاءً بمدينة سامراء، وذلك بعد أن تم إفراغ مناطق الاسحاقي والرفيعات التي ترفض المليشيات عودة سكانها إليها منذ سنوات، والذين اضطروا إلى النزوح خلال العمليات العسكرية التي قادتها القوات العراقية ضد تنظيم داعش".
وأشار إلى أنّ "المليشيات تسيطر على محافظة صلاح الدين، مع وجود شكلي وصوري واستعراضي للقوات النظامية من الجيش والشرطة". وأكد أنّ "الأهالي غاضبون، وبعض العشائر باتت لا تريد وجود أي عنصر من المليشيات في المحافظة، وهو ما ينذر باحتمال وقوع مواجهة بين القبائل العربية مع هذه المليشيات، ولا سيما أن مرتكبي المجزرة الأخيرة، سيفلتون كما غيرهم في السابق، من قبضة العدالة، بفعل الفساد، وقوة السلاح النافذ المؤثر على مؤسسات البلاد الأمنية والقضائية".
وزار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، أمس الأحد، برفقة وزيري الدفاع والداخلية ورئيس هيئة "الحشد الشعبي" ورئيس أركان الجيش الفريق عبد الأمير يار الله، ونائب قائد العمليات عبد الأمير الشمري، ناحية الفرحاتية، للاستماع إلى شهادة الأهالي بعد المجزرة، على الرغم من أنّ الأخيرين أفادوا بأنّ مليشيا "عصائب أهل الحق" متورطة بشكل مؤكد بالمجزرة، وقد وثقت وسائل إعلام عراقية وناشطون شهادات الأهالي. إلا أنّ الكاظمي ذكر في بيان أنّ "دماء من سقطوا في جريمة الفرحاتية، لن تضيع"، وهو ما عرّضه إلى موجة من السخرية والانتقاد على مواقع التواصل الاجتماعي، كونه كان قد استخدم هذا التعبير عقب أكثر من جريمة وقعت في بغداد والبصرة والناصرية وغيرها من المدن والمحافظات العراقية.
وقال الكاظمي مخاطباً ذوي الضحايا: "أبناؤكم الذين سقطوا غدراً وصبراً إنما هم أبناؤنا، ولن يضيع حق دمائهم، وسنوجّه بتعزيز وجود القوات الأمنية وتوفير المزيد من الحماية"، مبيناً أنّ "حق المغدورين سيأتي عبر القانون، والتحقيقات قد بدأت، وأتابعها بنفسي، كما أنّ عقاب الجناة ستحققه العدالة بدلاً من الانتقام، ولن يكون المجرمون بعيدين عن قبضتها".
من جهته، علّق صفاء عجاج، وهو صحافي من قضاء بلد، على زيارة الكاظمي، قائلاً إنّ "رئيس الوزراء لم يستبدل القطعات الأمنية الموجودة في المنطقة التي وقعت فيها المجزرة، وهو يعلم أنّ المليشيات هي المسؤولة والمسيطرة هناك، وذلك لأنه يخشى من الاصطدام مع هذه الجهات، وبالتالي سيتعرض الأهالي إلى موجة جديدة من الإعدامات". وأضاف عجاج في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الإرهاب الذي تمارسه المليشيات في صلاح الدين تنأى الحكومة عن التدخل لإنهائه، مع العلم أنّ المنطقة باتت بحاجة إلى قرار يُبعد المليشيات عن المدن".
الكاظمي: دماء من سقطوا في جريمة الفرحاتية لن تضيع
في المقابل، قال القيادي في مليشيا "عصائب أهل الحق"، وعضو البرلمان العراقي، حسن سالم، إنّ "هناك جهات سياسية تريد النيل من ألوية الحشد الشعبي لدوافع انتخابية، حتى وإن كانت طريقتها قتل الأهالي واتهام الحشد بذلك"، مضيفاً في حديثٍ مقتضب مع "العربي الجديد"، أنّ "العصائب بريئة مما حدث في منطقة الفرحاتية، ومن إعدام المواطنين الأبرياء".
وكانت وجّهت منظمات حقوقية محلية ودولية، اتهامات لمليشيات مختلفة ضمن "الحشد الشعبي" في أكثر من مرة، بارتكاب انتهاكات ترقى إلى جرائم تطهير عرقي، في المدن التي تمت استعادة السيطرة عليها من تنظيم "داعش". فقد اتهمت منظمات حقوقية وهيئات دولية على رأسها الأمم المتحدة، مليشيات مسلحة بارتكاب جرائم عدة على خلفية طائفية ضدّ المدنيين خلال الفترة ما بين 2014 و2016، تنوعت بين التعذيب والإخفاء القسري وقتل مدنيين وأسرى تحت التعذيب، ونهب مدن وبلدات قبل حرق ونسف آلاف المنازل والمحال فيها.
ومن ضمن هذه الجرائم، اختطاف وتغييب أكثر من 20 ألف مدني، وإعدام ميداني لآخرين وتفجير منازل بعد مصادرة ما فيها، وحرق مساجد، ومنع النازحين من العودة إلى مدنهم وقراهم بهدف تغيير التركيبة السكانية لتلك المدن. ومن ذلك مجازر في الصقلاوية والكرمة وجرف الصخر وبوابة تكريت وبادوش وبزيبز والرزازة، التي راح ضحيتها آلاف من النازحين. إضافة إلى تعرّض معظم ممتلكات المدنيين في المدن المحررة، بحسب تقرير سابق لمنظمة العفو الدولية، إلى النهب، بعدما فرّ أصحابها بسبب القتال، وأحرقت منازلهم ومحالهم. وأكدت المنظمة أن لديها من الوثائق ما يثبت تورط فصائل من الحشد الشعبي بتدمير قرى وبلدات عراقية بدوافع طائفية بهدف إحداث تغيير ديمغرافي في تلك المناطق.
وأغلب المليشيات التي تتورط في تلك الجرائم مرتبطة بإيران؛ أبرزها "كتائب حزب الله"، وحركة "النجباء" و"البدلاء" و"الخراساني" و"الطفوف" و"سيد الشهداء"، وفصائل مسلحة أخرى مرتبطة بالحرس الثوري.